القدّيس مكسيموس المعترف...
في كنف عائلةٍ نبيلةٍ ولد القدّيس مكسيموس المعترف في القسطنطينيَّة عام 580 م. تميَّز بذكائه وبحبِّه للفلسفة. وبعد تحصيله العلميّ، دخل معترك السِّياسة ونال إعجاب الإمبراطور هيراكليوس الّذي مع تولّيه العرش جعله أمين سرّه الأوَّل. لكنَّ عيني القدّيس كانتا شاخصتين على ملكوتٍ من نوعٍ آخر. فنزع عنه حلَّة المجد الأرضيّ مُتخلِّيًا عن وظيفته وأضحى جنديًّا للمسيح، مترهِّبًا في دير والدة الإله في خريسوبوليس القريبة من القسطنطينيَّة.
إلى جانب المعرفة سعى القدّيس أيضًا لاعتلاء سُلَّم الفضائل من خلال الاجتهاد في قراءة الكتب والصَّلاة القلبيَّة. وببلوغه مراحل متقدِّمة تمكَّن من شرح سرِّ الخلاص وإتِّحاد الله فينا لشفاء طبيعتنا.
وبحثًا عن حياةٍ نسكيَّةٍ وهدوئيَّةٍ، انتقل القدّيس من دير والدة الإله إلى دير القدّيس جاورجيوس في كيزيكوس برفقة تلميذه انستاسيوس. هناك تفرَّغ للكتابة حول الصِّراع ضدَّ الأهواء والصَّلاة، واللّاهوى، والمحبَّة المقدَّسة. إلّا أنَّه ما لبث أن انتقل منه إلى جزيرة كريت هربًا من هجمات الفرس والآفار، فواجه فيها حربًا إيمانيَّةً ضدَّ القائلين بالطَّبيعة الواحدة للسَّيِّد المسيح، لا الطَّبيعتين البشريَّة والإلهيَّة.
ومن كريت توجَّه إلى قبرص ومنها إلى قرطاجة عام 632، حيث التقى بالقدّيس صفرونيوس الأورشليميّ الّذي كان أحد كبار اللّاهوتيّينَ فانضمَّ إليه. وقد تسنّى له هناك الغور في أعماق اللّاهوت والكتاب المقدَّس، الأمر الذي مكَّنه من تقديم ملخَّصٍ عن تألُّه الخليقة.
فيما بعد، وفي سياق الإصلاحات العسكريَّة والإداريَّة الّتي قام بها الإمبراطور هيراكليوس، تحضيرًا لهجوم ضدّ الفرس، سعى في نفس الوقت إلى استرضاء القائلين بهرطقة الطَّبيعة الواحدة، تجنُّبًا لتحوُّلهم نحو الفرس والعرب.
فدخل القدّيسان صفرونيوس ومكسيموس معهم في حرب لاهوتيَّةٍ دامت سنوات، كان هدف الإمبراطور هيراكليوس وخلفه قسطنديوس منها، الحفاظ على مصالحهما السّياسيَّة والجغرافيَّة، في حين أنَّ القدّيسين انشغلا في قول الحقِّ والحفاظ على تعاليم الرَّبّ والآباء القدّيسين الأوائل والمجامع المقدَّسة، رافضين أيَّ صياغةٍ توافقيَّةٍ تضرب جوهر الإيمان. وتذكر المراجع أنَّ حربهما لم تقتصر على مقاومة الأباطرة ومراسيمهم العقابيَّة وحسب، إنَّما كانت أيضًا مع بطاركةٍ أرادوا بدورهم استرضاء سلاطين العالم. والجدير ذكره أنَّ الإمبراطور هيراكليوس وقبل موته اعترف بسياسته الدّينيَّة الفاشلة أمام استقامة الرّأي.
أمّا قسطنديوس في عهده، فقد أصدر مرسومًا حرَّم فيه على كلِّ مسيحيٍّ مناقشة موضوع الطَّبيعتين والمشيئتين. وبعد موت القدّيس صفرونيوس، لجأ القدّيس مكسيموس إلى القدّيس مرتينوس أسقف رومية، الّذي عقد المجمع اللّاترانيّ عام 649 م والذي أدان فيه القول بالمشيئة الواحدة ونبذ المرسوم الإمبراطوريّ.
فإغتاظ الإمبراطور من الأمر واعتبره تمرُّدًا ، فأمر أوّلًا باستياق القدّيس مرتينوس الّذي أهين واستشهد عام 655. ثمَّ أوقف القدّيس مكسيموس وتلميذه ومندوب أسقف رومية، وأودعهم السِّجن. وقد وُجِّهت للقدّيس مكسيموس حينها اتّهامات سياسيَّة وحمّلوه مسؤوليَّة الانشقاق الحاصل في الكنيسة بسبب تمسُّكه بعقيدته. وقد حكم عليه بالنَّفي واستيق إلى بيزيا.
في المنفى عانى القدّيس الأمرّين، وعلى الرَّغم من المحاولات الّتي قام بها الإمبراطور ليستميله بغية استمالة بقيَّة المؤمنين، بقي القدّيس مكسيموس على موقفه. بعد ذلك جرى نقله إلى بربريس حيث احتجز. وفي سنة 662 م مَثُلَ أمام بطريرك القسطنطينيَّة ومجمعه.
فسألوه : "من أيَّة كنيسةٍ أنت؟ من القسطنطينيَّة؟ من رومية؟ من أنطاكية؟ من الإسكندريَّة؟ من أورشليم؟ فها هم جميعًا متَّحدون فيما بينهم" . فأجاب القدّيس مكسيموس: "إنَّ الكنيسة الجامعة هي الاعتراف بالإيمان الصَّحيح والخلاصيّ بإله الكون".
فهدَّدوه بالموت إلّا أنَّه بقي ثابتًا على إيمانه بقوله: "ليتحقَّق فيّ ما رسمه الله من قبل الدُّهور، لأعطي لله المجد الّذي له من قبل الدُّهور". فلعنوه وأهانوه وحكموا عليه بالجلد وقطع لسانه ويده اليمنى اللّذين بهما اعترف بإيمانٍ.
ثمَّ ساروا به في شوارع المدينة والدَّم يقطر منه، وأودعوه قلعةً في أقاصي القوقاز في لازيكوس حيث استشهد في 13 آب عام 662 م عن عمر يناهز الثَّانية والثَّمانين. وقد نقل أنَّ ثلاثة قناديل زيت كانت تشتعل على قبره من ذاتها كلَّ ليلة.