القدّيس مارون... ناسك قورش
ومن المعلوم في تلك الفترة، أنَّ جذور الوثنيَّة كانت قويَّةً جدًّا فينسب البعض نشر المسيحيَّة في المنطقة للقدّيس مارون. وتأتي شهادة ثيودوريتوس (393-466) وهو أسقف قورش والرُّكن الأساس الّذي منه عُرفت سيرة حياة القدّيس ولو بإقتضاب، لتؤكِّد من خلال رسالةٍ كان قد بعث بها إلى البابا ليون الكبير (440 -461) أنه يتولّى شؤون ثمانمائة كنيسةٍ، أيّ أنَّ أغلب سكّان المنطقة قد اعتنقوا المسيحيَّة.
لم يعرفه ثيودوريتوس شخصيًّا لكنَّه عرف تلميذه يعقوب ويُرَجَّح أنَّ حياته الّتي أوردها في كتاب "تاريخ أصفياء الله"، قد نُقلت على لسان تلميذه.
وفي أبرز ما جاء عنه أنَّه تنسَّك على رابيةٍ كان الوثنيُّون قد بنوا هيكلًا عليها، فحوَّله إلى كنيسةٍ. وأنَّه غالبًا ما كان يقضي يومه بالجهاد والعمل في العراء ونادرًا ما كان يدخل إلى منسكه. وقد منحه الله نعمة شفاء المرضى على اختلاف أوجاعهم، نفسيَّةً كانت أم جسديَّةً.
لا يوجد تاريخٌ مؤكَّدٌ عن رقاده إلّا أنَّ بعض المراجع تشير إلى انتقاله نتيجة وعكةٍ صحيَّةٍ أصابته، ويُرجَّح أنَّ ذلك كان حوالي عام 410 ميلاديّ.
بعد رقاده تنازع أهالي القرى المجاورة له للاستحواذ على جثمانه. ووفق شهادة ثيودوريتوس، فإنَّ إحدى تلك البلدات الّتي كان عدد رجالها كبيرًا قد تمكَّنت من الحصول على جسده المقدَّس عنوةً.
وتذكر المصادر نفسها أنَّ ثمَّة رسالة قد تلقّاها القدّيس مارون قبل رقاده بسنواتٍ من القدّيس الذَّهبيّ الفمّ الّذي كان حينها في المنفى. وهذا ما ورد فيها : "إنَّنا لمرتبطون معك برباط المحبّة والشُّعور. وعليه فإنَّنا نراك كأنَّك حاضرٌ هنا أمامنا، لأنَّ من شأن أعين المحبَّة أن تكون هكذا، فلا المسافة تحجبها ولا الزَّمان يخمدها. وكان بودِّنا أيضًا أن تكون رسائلنا إلى تقواك متواصلةً، ولكنَّ هذا ليس بالأمر السَّهل، بسبب صعوبة الطَّريق وقلّة سالكيها.
فعلى قدر استطاعتنا، نشيد نحن بفضلك ونعلن أنَّك لا تبرح من ذاكرتنا، حاملينك في أنفسنا أينما كنّا. فاجتهد الآن أنت أيضًا، أن توافينا سريعًا جدًا بما يتعلّق بسلامتك. حتّى ولو كنّا بعيدين بالجسد، نواصل التَّفكير بما يختصُّ بنشاطك، فيزداد اطمئناننا ونحصل على الكثير من التَّعزية ونحن هنا في المنفى، لأنَّه ليس بالقليل السُّرور الّذي يحلُّ بنا، لدى سماعنا أخبار سلامتك. وقبل كلِّ شيءٍ نطلب إليك أن تصلّي لأجلنا".