الصّعود الإلهيّ إلى أورشليم
"تضع الكنيسة الأرثوذكسيّة المقدّسة في الأحد السّادس من الصّوم الكبير تذكارًا مسيحيًّا لتمجيد ذلك الحادث (الدّخول إلى أورشليم) الّذي جرى في حياة يسوع المسيح قبل ستّة أيّام من يوم الفصح اليهوديّ. فإنّ التّلاميذ تمّموا إرادة معلّمهم بقيادتهم الجحش الّذي لم يركبه أحد بعد وفرشوا عليه الثّياب وأجلسوا عليه يسوع المسيح وساروا في موكب حافل مهيب من بيت عنيا إلى أورشليم. أسرع إلى لقاء المعلّم المحبوب المجيد بأعماله وعجائبه جماهير النّاس المجتمعين من كلّ مكان في الفصح حاسبين أنّ هذا الموكب هو ابتداء مملكة اسرائيل المنتظرة. سأبيّن أهمّيّة الصّعود إلى أورشليم عند الإنجيليّ لوقا لانّه يتميّز بإضافات ذات أهمّيّة بالغة في تصوير الدّخول عن باقي الأناجيل.
إنّ هدف لوقا الإنجيليّ هو التّركيز على صعود يسوع إلى أورشليم حيث تمّ هناك الفصح من خلال آلام المسيح بقيامته. إنّ بداية تبشير الرّسل بدأت بتبشير بسرّ الفصح من أورشليم إلى أقاصي المسكونة (أعمال الرّسل 1: 8). ويقصد لوقا صعود المسيح إلى أورشليم أيّ ارتفاعه على الصّليب إلى مجد الله. إنّ تركيز لوقا الأكبر على صعود يسوع إلى أورشليم على إنّه صعود لاهوتيّ أكثر من كونه صعودًا جغرافيًّا. أورشليم هي المكان الوحيد الّذي فيه تمّ ترتيب إنجاز عمل يسوع أنّ يتمّ سرّ الفصح لأنّه لا ينبغي لنبيّ أن يهلك في خارج أورشليم (لو 13-33). لوقا أدرك أنّ يسوع قد أتمّ التّدبير الإلهيّ الّذي تنبّأت به الكتب وإنّ أورشليم هي مركز التّدبير الإلهيّ للخلاص. كذلك فإنّ جغرافيّة لوقا تختلف عن باقي جغرافيّة الأناجيل ففي إنجيل لوقا كلّ شيء مركّز على أورشليم وبخاصّة في قلب الهيكل بيت أبيه كما أنّ يسوع القائم لا يظهر إلّا في أورشليم. إنّ رحلة "صعود" يسوع إلى أورشليم أخذت مكانًا في إنجيل لوقا الّذي وزّعها على عشرة فصول.
نشاهد تصميم يسوع على الصّعود إلى أورشليم وتمهيد لسلوكه طريق المدينة المقدّسة حيث يتمّ فيها الخلاص والجزء الأوّل لهذا التّصميم في (9: 51) حيث يقول: "وحين تمّت الأيّام لارتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم" هذا يعني أنّ لوقا يوجّه هذا الصّعود نحو أورشليم توجيهًا مفخمًا أيّ يسوع يذهب إلى موته ومجده "اللّذان ظهرا بمجد وتكلّما عن خروجه الذي كان عتيدًا أن يكمله في أورشليم (9: 31) والجزء الثّاني من تصميم الرّحلة في (13: 22) "واجتاز في مدن وقرى يعلّم ويسافر نحو أوراشليم" والجزء الثّالث في (17: 11) "ومن ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السّامرة والجليل". لهذا عمد لوقا على التّشديد على رسالة يسوع في أورشليم (19: 29) حيث يحصل الخلاص فيها وجعلها تمثّل اسرائيل تجاه يسوع المسيح في مأساة الصّليب وكان التّشديد عند الدّخول الشّعبيّ الظّافر إلى أورشليم (19: 35-40) وأيضًا على دمعة على أورشليم الكاذبة (19: 41- 42) ودخول الهيكل وطرد الباعة (19: 45-46).
أورشليم في حياة يسوع المركز الّذي ينتهي إليه كلّ شيء، يقدّم يسوع فيها وفي عمر 12 يصعد إليها ويظهر حكمته بين العلماء (لوقا 2: 41-50) ممّا يشكّل إعلانا مستترًا عن ظهوره وموته فكانت أورشليم مقصد حياته (لوقا 13: 33). لذلك ذكرها لوقا ثلاث مرّات، مرّة في إنجيليه و57 مرّة في أعمال الرّسل. أورشليم في عرف لوقا رمز للآلام والقيامة. أمّا الصّعود عند لوقا فيظهر انتصار يسوع وتأسيس مملكته بموته في أورشليم. نلاحظ إصرار وتشديد لوقا على ألّا يفصل أورشليم عن حدوث هذا العمل الثّاني ليسوع، غياب يسوع ووجوده في الهيكل هذا ما جعله يهمل ذكر ظهورات يسوع في الجليل بعد قيامته ولهذا هو وحده من الإنجيليّين الّذين انتبه لوجود المسيح في الهيكل بعد أن غاب عن والديه مدّة ثلاثة أيّام. لذلك الدّخول إلى أورشليم من الحوادث المميّزة في حياة يسوع لأنّها كانت هذه الحادثة من الأمور المهمّة في سرّ التّدبير الإلهيّ للخلاص وسبب إصرار يسوع أن يقدّم نفسه في عاصمة الأمّة اليهوديّة بوصفه المسيا المخلّص الموعود في موكب شعبيّ وبترتيب خاصّ وكلّ التّفاصيل تؤكّد المهابة الّتي علّقها يسوع على هذا الصّعود إذ أرسل تلاميذه لإحضار الآتان وهذا يدّل على خطّة مقصودة من جانبه ومعروف أنّ يسوع المسيح فقط هو الوحيد الّذي يرسل وليس أيّ أحد آخر. لهذا طرحوا الثّياب الخارجيّة كالرّداء والعباءة ووضعوها على جحش بدل عدّة الرّكوب واحترامًا للرّاكب (وأركبا يسوع). إعتادت النّاس على ركوب الحمير في وقت السّلم وكان أشرف الشّرفاء يركب الحمير، وركوب المسيح على ذلك الجحش كان علامة على أنّه ملك السّلام وله حقّ التّسلّط على هذا العالم ولكن ليس بمركبات الخيل مثل باقي الملوك إنّما المسيح أتى كرئيس السّلام وبوداعة وافتخار. وبهذا تمّم المسيح النّبؤة (زكريّا 9:9). لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لوقا لم يفصل أورشليم عن الهيكل. الهيكل هو مكان حضور مجد الله فإنّ دخول المسيح إلى الهيكل ما هو إلّا تأكيد على أنّ المسيح هو الّذي سيعيد مجد الله إلى الهيكل. ولهذا أصبح الهيكل مكان الوعظ والتّعليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض قبل آلامه. لذا تعليم المسيح من الهيكل أعطى رسالته طابعًا نبويًّا مشيحيًّا الّذي أتى لينقذ شعبه وليس بمجيئه مطبوعًا بطابع سياسيّ. أخيرًا، إنّ تصوير دخول الرّبّ بهذا الوصف المتضمّن معنى النّصر كان بمثابة اللّطمة الأخيرة على وجه أعداء المسيح من رؤساء الكهنة والفرّيسيّين والّتي عجّلت سريعًا بعمليّة الصّليب الّذي هو في الحقيقة التّعبير الإلهيّ الأخير والأبديّ لنصرة المسيح ليس على النّاس بل من أجل النّاس.
إذًا تعيّد الكنيسة هذا العيد قبل الفصح بأسبوع. الأحد السّادس للصّوم الكبير وكان يسمّى قديمًا "أحد الأزهار" لأنّه يقع في أوّل فصل الرّبيع وهو عيد قديم ذكر في كتاب الرّحالة "ايثريا" في القرن الرّابع."