دينيّة
06 تموز 2025, 13:00

الشّهيـد في الكهنـة يوسف الدّمشقيّ

تيلي لوميار/ نورسات
هو كوكب من كواكب دمشق الثّلاثة، هو علّامة ولاهوتيّ كبير ونموذج في الفضيلة والتّقوى. هو الشّهيد في الكهنة الأب يوسف مهنّا الحدّاد (الدّمشقيّ) من القدّيسين الأرثوذكس الجدد الّذين أعلنت قداستهم، والّذي اختار خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض، أن يضيء عليه في مقاله الجديد. وكتب:

"ينبغي أن يدرك كلّ مسيحيّ أنّ المسيحيّة أوّلًا وأخيرًا شهادة للمسيح (ونحن شهود له أعمال الرّسل 5 / 32 ). وكلمة شهيد تعني شاهد، وكانت تطلق في البدء على الرّسل فقط، بصفتهم شهودًا لحياة المسيح وموته وقيامته، كما أوصاهم الرّبّ، وتكونون لي شهودًا (أع 1 / 8). وأيضًا أطلقت على كلّ من قبل الموت من أجل المسيح باعتبار أنّه قد دخل في رؤية فعليّة لوجه الحبيب. فإنّ الشّهيـد قد يذكر في الطّقس الكنسيّ بعد الرّسل مباشرة، لأنّ سفك الدّم اعتبر أيضًا معموديّة أعمق ممّا تعنيه المعموديّة كصبغة وشركة في موت المسيح.

تنظر الكنيسة إلى يوم الاستشهاد بالنّسبة للشّهيد على أنّه الميلاد الحقيقيّ الذي فيـه تبـدأ الحيـاة الأبديّة الحقيقيّة وقد ذهبت الكنيسة في تكريم الشّهداء، إلى أقصى حدّ ممكن أن تفعله، في ذكـرى يوم الشّهيد، فتكون الخدمة كلّها لتكريم الشّهيد، من خلال تسبيح وصلوات وقراءات ووعظ، ثمّ تقدّم الذّبيحة الإلهيّة التي تعتبر قمّة التّعييد والتّمجيد.

هكذا يبدو الاستشهاد على اسم المسيح عملًا من أعمال الشّجاعة، النّابعة من قوّة الإيمان، ولكنّه في الحقيقة عمل من أعمال الرّوح القدس المباشرة، التي يطبعها في الإنسان، على أساس أنّه ينقل للإنسان الذي يؤمن بالمسيح صفة من صفات المسيـح والتي هي بذل الذّات، فالمسيـح وضع ذاته وأطاع الآب حتّى الموت، موت الصّلـيب (فيليبي 2 / 8).

لكن لا يظنّ أحد أنّ هذا المجد، وهذه الكرامة التي ينالها الشّهيد شيء بسيط، فالشّهادة للمسيح تحت التّهديد أمر صعب، لا بسبب الموت أو التّعذيب، بل بسبب ضرورة ارتفاع النّفس، فوق كلّ مغريات الحياة.

فالشّهادة للمسيح حبّ لا يقف إزاءه أيّ حبّ آخر في العالم. ولكي لا يأتي حبّ الشّهيد للمسيح من فراغ، يجب عليه أن يستحقّ أن يكون تلميذًا للمسيح، أن يترك كلّ علاقـة أو صلـة بأهله، ويصير أهلًا لحمل صليب المسيح ويتبعه، وأن يلزم أن يهزم الخوف في نفسه.

الشّهيد يطرح الخوف لأنّ المسيح حقيقته العظمى التي أمسك بها. إنّ غلبة الشّهيد للخوف هي غلبة كلّ شهوة وكلّ العالم معًا. من هنا تتضح الشّهادة الحقيقيّة، التي يأتي إليها كلّ إنسان مؤمن، ويرتفع بها بحسب المسيح فوق كلّ حبّ.

هذا ما فعله وطبّقه في حياته الشّهيد في الكهنة الأب يوسف مهنّا الحدّاد (الدّمشقيّ)، الذي يعتبر كوكب من كواكب دمشق الثّلاثة (بولس الرّسول – يوحنّا الدّمشقيّ)، والعلّاَمـة واللّاهوتي الكبير، والنّموذج في الفضيلة والتّقوى. تحتفل البطريركيّة الإنطاكيّة الأرثوذكسيّة بعيده في العاشر من تمّوز الحاليّ.

هـذا الشّيـخ، الذي قدّم ذاته على مذبح الحبّ الإلهيّ، نتيجة لسيرته الطّاهرة، التي كان يكتبها كلّ يوم في السّماوات، بجهاده وعبادته غير المرتبطة بحبّ العالم وشهوته أدرك الدّعوة في الحال، وكان على أتمّ استعداد للسّفر السّعيد. لم يكن متمسّكًا بشيء من حطام هذه الدّنيا. لقـد استوفى كلّ ديون البشر بالمحبّة. لقد افتدى الوقت العصيب بيقظة، فلم يأخذه النّعاس القاتل، ولا سقط كغيره في دلع الاهتمامات الكاذبة، ولا أدركته ظلمة اليأس عندما سمع رنين الحراب. لقد جمع القربان المقدّس في أواني الصّلاة، وأضاء المصباح بنار الحبّ المقدّس، وتأهَـب لملاقاة العريس مطمئنًا. لقد أكل الجسد الإلهيّ، وشرب الدّم الإلهيّ، فحسب فيهما جيّدًا حساب الألم، وأدرك بهما سرَّ المـوت، وبلغ فيهما يقين القيامة، فلما دعا داعي الاستشهاد، ولمع السّيف في يد القاتل، حسبها لحظة العمر لبلوغ الحياة والقيامة الأفضل.

هذا الشّيخ الجليل، أقبل على الموت وكأنّه الخلاص عينه، لكي ينال القيامة، ولكي نرث من بعده ميراث إيمانه ليكون مصباحًا لا ينطفىء نوره، أمام كلّ الذين يحبّون النّور، ويحبّون السّير وراءه في النّور من الجيل إلى الجيل.

"إذًا الخوري يوسف مهنّا الحدّاد، الذي كان يحمل كنيسة المسيح في قلبه، وعقله، ورعايته المتعدّدة الجوانب لم يبقَ له موضع في الأرض يسند إليه رأسه. نقله يسوع إليه بموت الشّهادة، في العاشر من تموز سنة 1860 بعد أن لجأ المؤمنون إلى الكنيسة المريميّة بدمشق، ظانّين أنّهم يهربون من الموت، فذهب إليهم متنقّلًا فوق سطوح البيوت، وقضى نهار التّاسع من تموز واللّيل الطّويل اللّاحق يشدّد المؤمنين في المريميّة، حتّى وصل إلى مأذنة الشّجم فأدركه القتلة، وكان معه جسد الرّبّ فتناوله فانقضَوا عليه، وقطعوا جسده المبارك وسحلوه في الأزّقة فارتفع على درجات المجد شهيدًا، ونورًا أبديًّا لكنيسة انطاكية." (رعيتي العدد 45 – 1993).

وإذا كان يوسف الدّمشقيّ ورفقته متواضعين، ومحتقرين، ومتضايقين، ومطرودين، وغير مشهورين لكي يكتبوا في كتب التّاريخ، ولكنّنا نعلم تمامًا، أنّ أسماؤهم قد كتبت في سفر الحيـاة، وشركتهم سوف تكون مع هؤلاء الذين كتب عنهم أنّهم :

"هؤلاء هم الذين أتوا من الضّيقة العظيمة.

وقد غسلوا ثيابهم.

من أجل ذلك هم أمام عرش الله.

ويخدمونه نهارًا وليلًا في هيكله.

والجالس على العرش يحلّ فوقهم.

لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد.

ولا تقع عليهم الشّمس، ولا شيء من الحرّ.

لأنّ الخوف الذي في وسط العرش يرعاهم.

ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيَّة.

ويمسح الله كلّ دمعة من عيونهم". (رؤية 7 : 14 – 17).

ولربّنا كلّ المجد، آمين."