الرّهبانيّة الأنطونيّة تودّع رئيسها العامّ الأسبق الأباتي الياس عطالله
وفي كلمة، تحدّث أبو جودة عن فضائل الرّاحل منطلقًا من قول بولس الرّسول في وصفه للعالم النّورانيّ الّذي أعدّه الله لمحبّيه "إنّ آلام هذه الدّنيا، لا توازي المجد المزمع أن يتجلّى فينا"، وقال: "فيما نودّع اليوم أخانا الأباتي الياس عطالله الرّئيس العامّ الأسبق لرهبانيّتنا الأنطونيّة، في مسيرته نحو عالم الأنوار السّماويّ، لا يمكننا أن ننسى السّنين الطّويلة من عمره الّتي قضاها في معانقة الصّليب حتّى النّفس الأخير".
هذا وأسهب متحدّثًا عن سيرة الرّاحل ذاكرًا أنّ: "الأباتي عطالله من مواليد غدراس 1930، والده الخوري يوسف عطالله والخوريّة نجيبة خيرالله، قصد فيّاض عطالله الرّهبانيّة الأنطونيّة، ودخل الابتداء عن عمر ثلاث عشرة سنة وحمل اسم الياس. وها هو اليوم يغادرنا عن عمر 87 سنة، أمضى منها 74 سنة في الرّهبانيّة، فكانت الرّهبانيّة بيته وحياته وطموحه وهمّه وكلّ شيء له. هنا ترعرع، وشرب حليب الإيمان، والتّقشّف، والتّكرّس، وعاش الصّلاة والعمل والغيرة على الرّهبانيّة والكنيسة. وهنا أسهم وربّى وبنى وفتح آفاقًا واسعة أمام الرّهبانيّة، جعلت منه مرجعيّة من مرجعيّاتها، وعلمًا من أعلامها، وقدّيسًا من قدّيسيها. من هذا المنظار، تتجلّى أمامنا حياة أخينا الأباتي الياس عطاالله الّذي أعطى ذاته بكلّيّتها للرّهبانيّة، فساهم في نموّها الرّوحيّ إسهامًا ملفتًا بشكل مميّز. وعمد إلى استثمار مواهبه الكثيرة في الرّهبانيّة".
وتابع: "بعد دراسته اللّاهوتيّة في اليسوعيّة في لبنان ثمّ في سانت انسلموس في روما، سيم كاهنًا في روما 1959. ثمّ تابع إجازة في الحقّ القانونيّ في جامعة اللّاتران. بداية مسؤوليّاته تسلّم إدارة الطّالبيّة الأنطونيّة في دير مار أنطونيوس الحدت، ثم إدارة المعهد الأنطونيّ ورئاسته لغاية 1978. هذه المرحلة من حياته أبرزت الكثير من مواهبه ومواهبيّته. وفي الوقت الّذي نقيم له صلاة المرافقة، نستحضر دوره التّربويّ الجامع في منطقة بعبدا، والّذي شكّل نواة للشّراكة بين المدارس الكاثوليكيّة آنذاك وفي أصعب ظروف الحرب اللّبنانيّة لمواجهة التّحدّيات والصّعوبات الّتي تعرقل حرّيّة التّعليم. فكان الأب والمناضل والمربّي، كما أسهم في حلّ الكثير من المعضلات. ولا ننسى مناشداته المتكرّرة للتّضامن وألمعيّة الكنسيّة، وللعمل المشترك بين المدارس الكاثوليكيّة. كما لا ننكر عليه، في ضوء سلسلة الرّتب والرّواتب مع تداعياتها السّلبيّة على حياة الأهل والمدرسة، أنه كان من الأوائل الّذين دعوا إلى أن تحمل الدّولة مسؤوليّتها التّربويّة في إعالة الأهلين، ودعا إلى إصدار البطاقة المدرسيّة لجميع التّلاميذ، الحلم الّذي لم يتحقّق بعد خمسين سنة على إطلاقه. وقوفنا أمامه اليوم يذكّرنا بضرورة نبذ التّشكيك برسالة مدارسنا ومحاولات البعض من الدّاخل ومن الخارج، النّيل من الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة، مؤكّدين، مع الرّاحل، على ضرورة التّمسّك بهذا النّهج، كبرنامج عمل ينبغي أن يستمرّ ويتعزّز لتتمكّن رسالتنا التّربويّة اليوم من متابعة طريقها في صقل النّفوس على العلم والانفتاح والشّراكة الوطنيّة في سعينا نحو الملكوت".
وزاد على كلمته مودّعًا: "المعلمّ والمتعلّم حتّى نفسه الأخير، وداعًا للنّزاهة والصّبر والتّواضع والكفاءة، وداعًا لمن زرع العطاء وكان من أوّل السّاعين لوحدة العائلة التّربويّة خاصّة خلال ترؤّسه بالمحبّة دير مار أنطونيوس والمعهد الأنطونيّ، والّذي كان يحلو له بتسميته "التلّة"، منارة لبيروت، وللبنان وللشّرق".
من جهة ثانية، أشار إلى إنجازات الرّاحل فهو أدخل إلى لبنان الأساليب التّربويّة المعاصرة، وأسّس "في المعهد الأنطونيّ سنة 1976 "حركة الإنماء اللّبنانيّ"، وسنة 1973 جمعيّة "كشّافة امالاستقلال"، و"نادي المعهد الأنطونيّ"، "وقدامى المعهد".
أمّا عن مرحلة رئاسته العامّة الّتي امتدّت من 1981 لغاية 1987، فأكّد أبو جودة أنّها كانت خصبة بما خبره ،"فأسهم بإدخال نهج جديد في التّعاطي الرّهبانيّ، كان ثمرة تفاعله مع تاريخ الرّهبانيّة ومعاصريه. تمتّع الأباتي عطاالله بروح الحوار والانفتاح على الآخر. أمّا على الصّعيد الجماعيّ، ورغم إتّساع رسالات الرّهبانيّة، فقد عمل على إحياء الرّوح الأخويّ والجماعيّ بين الأديار، مدفوعًا دائمًا بهم اللّقاء والحوار والعيش المشترك، فكانت لقاءات الرّهبان الأسبوعيّة في أديار الأطراف وفي سائر المناطق، محطّة أساسيّة في مسيرة الرّاهب نحو الملكوت".
أضاف: "في أيّامه تابعت الرّهبانيّة الأنطونيّة حركتها النّهضويّة، فأغناها بأفكاره ورؤيته ومشاريعه، وجدّد الأديار وعمل على تطويرها. هذه القيم في حياة الأباتي الياس عطاالله، هي مقاربة صغيرة، طبعت معرفتي به كما معرفة سائر إخوتي الرّهبان، وما يتناقله عنه الآخرون، ما أسهم في رسم شخصيّته الرّهبانيّة. وحتّى بعدما انكفأ بسبب المرض عن نشاطاته الاجتماعيّة، استمرّت صورته مشرقة في عقول وقلوب عارفيه".
وتابع: "تقديرًا لهذه المناقبيّة الّتي تعبّر عن روحانيّته العميقة، وتكريمًا لعمله التّربويّ والاجتماعيّ والوطنيّ، قلّد فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، وهو الشّاهد على نضاله وعمله والتزامه الوطنيّ، أخانا الأباتي الياس وسام الأرز الوطنيّ من رتبة ضابط في ديرنا الأمّ مار اشعيا، والّذي كان له أثر عميق في حياته، حيث تربّى فيه وتغذّى من روحانيّته، ورئسه بالمحبّة فترة من حياته، وفيه ختم جهاده الرّوحيّ بحمل صليب سيّده طريقًا إلى القيامة".
وصلّى أن يمنّ على الرّهبانيّة بدعوات صالحة تحمل نيره منذ الصّغر وتثابر على الأمانة للقيم الإنجيليّة والكنسيّة والإنسانيّة والوطنيّة.
وبعد الصّلاة وري الجثمان في الثّرى في مدافن الرّهبانيّة في دير مار روكز الّذي يفتح أبوابه لتقبّل التّعازي اليوم من الحادية عشرة صباحًا لغاية السّادسة مساء.