الرّاعي: ماذا سيكون مصير لبنان، إذا ظلّ الموكّلون عليه من مسؤولين سياسيّين ومواطنين، يمعنون في هدمه؟
1. هذه الاستعارة الإنجيليّة ترمز إلى الله الذي غرس كرمه، وهو الكنيسة، لتكون خميرة كرم في العائلة والمجتمع والدولة. وعبّر الربّ يسوع في كلمات الاستعارة حول اعتناء صاحب الكرم بكرمه، عن عنايته هو بالكنيسة التي أسّسها لتكون أداة خلاص شامل في العالم. فيغتذي الجميع من ثمار محبّتها الاجتماعية التي تغدقها من خلال خدمة أسرارها المقدّسة والخدم الليتورجيّة، ونشاطها الروحي والراعوي، المنظَّم بقوانينها وتشريعاتها، ومن خلال مؤسّساتها التربوية والاستشفائية، والإنسانية والإنمائية.
وقد أوكلها إلى رعاتها وشعبها: الرعاة بحكم الدرجة المقدّسة: الشمّاسية والكهنوتية والأسقفية، والشعب المؤمن بحكم المعمودية والميرون. الجميع فعلة موكّلون في كرم الكنيسة، والربّ يطالبنا بالثمار كما جاء في الاستعارة الإنجيلية.
2. يسعدني أن أخصّص، مع سيادة راعي الأبرشية المطران ميشال عون اليوم الثاني والأخير من الزيارة الراعوية لجبّة المنيطره لرعية العاقورة العزيزة بعد أن بدأناها صباح اليوم في المجدل. فإنّي أحيّي حضرة كاهن الرعية المونسنيور رزق الله أبي نصر وكلّ أبناء العاقورة وبناتها، في رعيّتَي مار جرجس والسيّدة، وفي رعية مار مارون في اللّقلوق. ونحيّي الآباء والراهبات ورئيس المجلس البلدي والمخاتير ولجان إدارة جميع الأوقاف القائمة على أرض العاقوره واللقلوق، والأخويات وسائر المنظَّمات الرسوليّة. كلُّكم فعلة في كرم الله الذي هو العاقورة. إنّنا نقدّم هذه الذبيحة المقدّسة على نيّتكم جميعًا، ذاكرين مرضاكم، وملتمسين الراحة الأبدية لموتاكم.
3. إنّ العاقورة غنيّة بأوقافها وكنائسها، وهذا دليل على إيمان عريق، تعيشونه وتحافظون عليه جيلًا بعد جيل. وبفضله أعطيتُم عائلات مارونيّة أصيلة كان منها بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات. فأحيّي بنوع خاصّ من أبنائها سيادة أخينا المطران بولس منجد الهاشم الذي توزّعت خدمته الأسقفيّة أوّلًا كرئيس أساقفة بعلبك دير الأحمر، ثمّ كسفير بابوي في بلدان الخليج.
4. أرضُكم هذه المجبولة بالصلاة وعطر القداسة وبعرق الجبين ودم الشهداء، أنتم تحافظون عليها إرثًا نفيسًا وتعيشون من ثمار تعبكم فيها. وهذا ما جعلكم تنتفضون، دفاعًا عنها وعن مشاعها في الماضي وفي هذه الأيام، مقدِّمين الوثائق القانونيّة التاريخيّة، عندما أصدر وزير المالية بتاريخ 31 كانون الأوّل 2015 المذكّرة رقم 4863/ص1 من دون استناد إلى أيّ قانون، ومن دون أن يذكر قانون الملكيّة العقارية رقم 3339 الصادر بتاريخ 12/11/1930. وكأنّه استند ضمنًا إلى المادّة السابعة من هذا القانون، مع إغفال المادة الخامسة التي "تستثني العقارات الواقعة في أراضي حكومة جبل لبنان السابقة المستقلّة ومنها مشاع العاقورة. فإنّ هذه العقارات المستثنات تبقى خاضعة لأحكام العرف والعوائد المحلية".
مشكور معالي وزير الماليّة الذي أعلن فيما بعد موضحًا العمل بموجب المادة الخامسة المذكورة واستثناء مشاع العاقورة وأمثاله في جبل لبنان القديم. لكنّنا نطلب من معاليه تعديل القرار رقم 1216/1 الصادر في التاريخ عينه مع المذكرة في 31 كانون الاول 2015، وقد قال فيه ان "اعتبار المناطق المتواجدة ضمن نطاق حكومة لبنان القديم لا تشتمل على املاك الدولة، هو من الاخطاء الشائعة". وبالتالي نطلب اليه تصحيح المذكّرة التي أصدرها بإدراج المادّة الخامسة فيها منعًا لأي إلتباس، ولأيّ تصرّف، حاضرًا ومستقبلًا، من شأنه أن يولِّد نزاعات كلّنا بغنى عنها.
5. ونأمل في المناسبة من الدولة اللبنانية، ونحن من المطالبين ان يحافظ المسيحي على ارضه والمسلم على ارضه، أن تضع حدًّا للتعدّي الحاصل في بلدة لاسا على أملاك نيابة جونيه البطريركيّة، بإكمال اعمال المسح القانوني وتحديد الملكيّات وفقًا للمستندات القانونيّة. وبذلك نضمن للجميع حقوقهم ونعيش معًا بسلام وتعاون واحترام. فالمادّة الخامسة عشرة من الدستور ترسم أنّ "الملكيّة هي في حمى القانون". على هذا الأساس نعمل مع المسؤولين المعنيّين في الطائفة الشيعيّة الكريمة على إنهاء هذا الموضوع لخير الجميع وخير لاسا وكل شعبها بعيدًا عن اي تشنّج طائفي او سياسي.
6. ما نقوله عن واجب المحافظة على الملكيّة الخاصّة وعن المشاعات التي ينتفع منها أبناء البلدة نقوله أيضًا عن الأرض اللبنانيّة الموكولة إلى اللبنانيّين كعطيّة ثمينة من الله، نشكره عليها. فلا يجوز بيعها بل تجب المحافظة عليها واستثمارها لخير الوطن والمواطنين، وجعلها مساحة للعيش الحرّ والكريم. وعليها نواصل كتابة تاريخنا، وتكوين هويّتنا التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة[1]. لكلّ هذه المعاني والأهداف أنتم، يا أبناء العاقورة وجبّة المنيطرة، متمسّكون بأرضكم ومشاعكم، ليس فقط كبيئة طبيعيّة تنعمون بجمالها وهوائها ومائها، وتعيشون من تعبكم في استثمارها بصبر وتضحية، ولكن كبيئة بشريّة تبنون عليها فيما بينكم علاقات مودّة وتضامن وأخلاقيّة، وتشدّدون الروابط بينكم وبين المنتشرين من أبناء بلدتكم في ما وراء البحار، وأيضًا كبيئة سياسيّة تحافظون عليها بإخلاصكم للبنان الحرّ، السيّد المستقلّ.
7. هذه الأرض اللبنانية، جعلها آباؤنا وأجدادنا، عبر مسيرة مارونية، بدأت في القرن الرابع مع ابراهيم القورشي الذي حمل الرسالة المسيحية المارونية إلى جبّة المنيطره الوثنية، ومع سمعان الذي حملها إلى جبّة بشري، وقادها بطاركتنا حتى إعلان لبنان الكبير على يد البطريرك الياس الحويك في أوّل أيلول 1920، وإنجاز الاستقلال التامّ مع البطريرك انطون عريضه، الذي في عهده كان الميثاق الوطني سنة 1943 القائم على العيش معًا مسيحيّين ومسلمين بالمساواة والمشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة. وتبقى البطريركية امينة لهذا المسار الطويل وتبقى ضامنة وعاملة بكل جهدها لحماية لبنان بكيانه وميثاقه وصيغته، وتتطلع الى اصحاب الارادات الطيبة لكي نعمل معا من المحافظة على لبنان.
8. إنّنا من أرض العاقوره وجبّة المنيطره، نوجّه النداء إلى الجماعة السياسيّة في لبنان، لتحافظ عليه دولة ومؤسّسات، ووطن رسالة في هذا المشرق. وندعو من جديد الكتل السياسيّة والنيابيّة، إلى انتخاب رئيس للجمهورية. فإنّه من العار أن يكون لبنان من دون رئيس منذ سنتَين وأكثر من ثلاثة أشهر، فيما الهيكل الوطني يتهدّم فوق رؤوس الجميع. ونكرّر أنّه لا يوجد أيّ مبرّر لعدم انتخاب رئيس منذ 25 ايار 2014، ومن غير المسموح لأحد جعل لبنان أرضًا سائبة تسودها الفوضى السياسيّة وينتشر عليها الفساد المالي والأخلاقي، وتتعطّل المؤسّسات الدستورية، ويفتقر الشعب ويهاجر. فانتخاب الرئيس هو المدخل لحلّ كل القضايا العالقة، والاّ البلاد تستمرّ في حالة تراجع مميت. فمن يستطيع تحمّل مسؤوليّة هذا الخراب؟
9. بالعودة الى الاستعارة الانجيلية، عندما قتل الموكّلون على الكرم، كلّ الذين أرسلوا لجمع ثماره، وهذا رمز إلى الأنبياء، وفي عهدنا الى شهداء وطننا الذين جاؤوا يعملون بإخلاص من أجله، فقُتلوا الواحد تلو الآخر، سلّم رب الكرم كرمه الى آخرين. فماذا سيكون مصير لبنان، ولمَن سيكون هذا الوطن الذي بناه الآباء والاجداد، إذا ظلّ الموكّلون عليه من مسؤولين سياسيّين ومواطنين، يمعنون في هدمه وتعطيل مؤسّساته والتعدّي على الدستور والميثاق والصيغة والأرض، في الانقسامات والخلافات والتشرذم ورفض الجلوس معا بشجاعة والتخلي عن المواقف والاراء الشخصية والبحث معا عن الحقيقة الضائعة؟ إنّنا نوجّه النداء إلى اللبنانيّين المخلصين لجمع الصّف والقيام بعمليّة إنقاذ، فالكنيسة والبطريركية تدعم كل الجهود من أجل خير لبنان وشعبه.
10. انّنا نصلّي معكم الى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء ومار جرجس شفيع هذه الكنيسة، وسائر شفعائنا في العاقورة وفي جبّة المنيطرة، أن يحفظ بلادنا وطنًا يمجّد الله بقدّسيه ومؤمنيه وكلّ العاملين في كرمه من أجل الخير والحقّ والجمال. للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، كلّ مجد وإكرام الآن والى الأبد. آمين.
* * *