لبنان
09 شباط 2018, 08:50

الرّاعي في عيد مار مارون: من تضحيات المسؤولين السّياسيّين، تقوم لنا دولة قادرة ومنتجة، ووطن محبوب من شعبه

ترأس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشاره بطرس الرّاعي قدّاس عيد مار مارون في كنيسة مار مارون في الجمّيزة، بمشاركة عدد من المطارنة وبحضور رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس مجلس النّوّاب نبيه بري وفعاليّات كنسيّة ومدنيّة، سياسيّة وديبلوماسيّة، قضائيّة وإداريّة وعسكريّة، ثقافيّة وإعلاميّة. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظة بعنوان ""حبّةُ الحنطة إذا وقعَتْ في الأرض وماتَتْ، أعطتْ ثمرًا كثيرًا" (يو12: 24)، جاء فيها:

 

فخامة رئيس الجمهوريّة،

دولة رئيس مجلس النّوّاب،

دولة رئيس مجلس الوزراء،  

سيادة أخينا راعي الأبرشيّة والسّادة المطارنة الأجلاّء،

أيُّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،

1. جميلٌ هذا الاحتفال بعيد القدِّيس مارون، أبي الطّائفة المارونيّة، عيدًا كنسيًّا ووطنيًّا، بحضوركم فخامة الرّئيس مع صاحبَي الدّولة، على رأس هذه الجماعة المصلّية المنتقاة من شخصيّات كنسيّة ومدنيّة، سياسيّة وديبلوماسيّة، قضائيّة وإداريّة وعسكريّة، ثقافيّة وإعلاميّة. كلُّكم مؤمنون أحبّاء جئتُم تبتهلون إلى الله، بشفاعة القدِّيس مارون، من أجل الاستقرار والنّهوض في وطننا لبنان، وفي بلداننا المشرقيّة. كما جئتم تكرّمون الطّائفة المارونيّة لفضلها التّاريخيّ في قيام لبنان عبر مسيرة طويلة من الصّمود والجهود والتّضحيات، والتّعاون مع المكوِّنات الوطنيّة الأخرى العزيزة.

2. يسوع المسيح هو "حبّةُ الحنطة" الذي مات على جبل الجلجلة فوُلدت منه الكنيسةُ، شعبُ الله الجديد. وراحت تكبر وتنمو وتنتشر بالعدد والمؤسّسات والرّسالات عبر ميتات أبنائها وبناتها، بدءًا من الرّسل الاثنَي عشر وصولًا إلى اليوم، ناشرةً في العالم إنجيل المحبّة والأخوّة والسّلام. فأصبحت صورةُ "حبّة الحنطة" نهجًا لقيام كلّ عائلة ومؤسّسة ودولة.

3. القدِّيس مارون، النّاسك في العراء على تلّة من منطقة قورش، بين انطاكية وحلب، "حبّة حنطة" مات في الأرض بالتّضحية والتّفاني هناك سنة 410، فوُلدت منه الكنيسة المارونيّة، ديرًا على ضفاف العاصي أوّلًا، ثمّ كبرت ونمت وأمّت جبل لبنان من جهَّتَي العاقوره، وجبّة بشري، وراحت تنتشر على الأرض اللّبنانيّة، جبلًا ووسطًا وساحلًا، من الشّمال إلى الجنوب، بقيادة بطاركتها العظام، بدءًا من القدِّيس يوحنا مارون، بانين مداميك صلبة في بنيان هذا الوطن.

3. إنّ أوّل من كتب سيرة القدِّيس مارون كان تيودوريطس مطران قورش، الذي ارتقى إلى الدّرجة الأسقفيّة بعد وفاة القدّيس مارون، لكنّه تتبّع أخباره، وتنشَّق أريج قداسته، وعاصر تلاميذه. وكانت إطلالتُهم معه في مجمع خلقيدونيّة سنة 451، الذي أعلن بفم القدّيس البابا لاون الكبير أنّ يسوع المسيح ذو طبيعتَين إلهيّة وإنسانيّة متّحدتَين ومتمايزتَين في شخصه الإلهيّ. ومذ ذاك الحين، والكنيسة المارونيّة، التي تكوّنت كنيسة بطريركية حوالي سنة 686، هي كنيسة كاثوليكيّة دائمة الاتّحاد بكرسيّ بطرس بروما.

4. لا يقتصر العيد على مباهجه، بل يتعدّاه إلى معانيه ومقتضياته في حياتنا. وأهمّها التّحلّي بفضائل القدّيس مارون وروحانيّته، فنختصرها بثلاث هي: الصّلاة التي كانت تُدخله في اتّحادٍ عميق مع الله، وتنقّي عقله وقلبه من كلّ ميل إلى الخطيئة والشّر، وتملأه حبًّا وعطفًا وحنانًا نحو الجميع؛ روحُ التّوبة بالتّقشّف التّكفيري عن خطاياه وخطايا النّاس؛ التّجرّدُ الكامل من الذّات وخيرات الدّنيا. في هذه الثّلاث عاش تلاميذ القدّيس مارون تابعين نهج "حبّة الحنطة" التي أثمرت الجماعة المارونيّة طائفةً وكنيسة وأمّة. فتفاعلت مع مجتمعها العربيّ ومحيطها الإسلامي في حوار الحياة واللّغة والمصير، ومع مختلف الكنائس في حياة مسكونيّة على أساس المحبّة في الحقيقة، ومع دول الانتشار في الاغناء والولاء. وهي في كلّ ذلك تحمل هوّيةً ورسالةً أنطاكيّة – سريانيّة وخلقيدونيّة كوّنتا ثقافتها التي كتبتها على أرض لبنان فأغنته، وجعلت منه وطنًا روحيًّا لموارنة العالم، على تنوّع جنسيّاتهم.

5. بصفتها الأنطاكيّة، الكنيسة المارونيّة بطريركيّة فيها جسم أسقفيّ واحد رأسه البطريرك. وهي كنيسة بطرسيّة، إذ في أنطاكية بدأ بطرس الرّسول رسالته كرأس للكنيسة النّاشئة، وفيها دُعي تلاميذ المسيح لأوّل مرّة "مسيحيين" (أع 11: 26). إنها مؤتمنة مع الكنائس الأخرى على التّراث الأنطاكيّ وعلى الحضور المسيحيّ الفاعل في بلدان هذا الشَّرق.

بتراثها اللّيتورجيّ السّريانيّ، تستمدّ روحانيّتها من القدّيسين الآباء السّريان، أمثال القدّيسين أفرام ويعقوب السّروجيّ. وهي روحانيّة مريميّة، ودعوة دائمة إلى توبة القلب لملاقاة العروس الإلهيّ في نهاية الأزمنة.

بصفتها الخلقيدونيّة، تواصل الكنيسة المارونيّة أمانتها لسرّ المسيح، المخلّص والفادي، الإله المتجسّد والمتّحد نوعًا ما بكلّ إنسان، على ما نصلّي في ليتورجيا القدّاس: "وحَّدتَ يا ربّ لاهوتك بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. أخذتَ ما لنا ووهبتَنا ما لك، لتحييَنا وتخلّصنا، لك المجد إلى الأبد". إنّ إيمان الكنيسة المارونيّة بسرّ التّجسّد منحها روحانيّة جسّدتها في بيئتها اللّبنانيّة والمشرقيّة، ما حمل الموارنة، مع شركائهم في المصير، من مسيحيِّين ومسلمين، على العمل معًا في تكوين الوطن اللّبنانيّ الواحد الغنيّ بالثقافتَين، والتّعاون في شتّى المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، من أجل ترقّي الإنسان والمجتمع.

6. من القدّيس مارون وديره على العاصي، أخذت كنيستُنا البطريركيّة طابعًا نسكيًّا رهبانيًّا من ناحية روحانيّتها القائمة على الشّهادة للمسيح التي تجعله حاضرًا بمحبّته وخلاصه لكلّ إنسان، عبر مؤسّساتها المتنوّعة، وعلى اكتشاف المواهب المتعدّدة وتنميتها، والانطلاق بها للخدمة والرّسالة، انطلاقةً متجدّدة من المسيح.

7. بشركتها الدّائمة مع الكرسيّ الرّسوليّ الرّومانيّ، انفتحت الكنيسة المارونيّة على الغرب، ونهلت من مقدّراته العلميّة والفكريّة، ودخلت آفاق الإنسان والتّاريخ والعالم، وفي عمق التّراث الإنسانيّ. فتخلّصت من الانعزاليّة، واعتمدت الحقيقة والحرّيّة. وبفضل مدرستها في روما، التي تأسّست سنة 1584، بنت جسرًا ثقافيًّا متبادلًا جمع بين كنوز الشَّرق وكنوز الغرب، على يد خرِّيجيها الذين لمعوا في بلدان أوروبا حيث علّموا وكتبوا وترجموا، والذين كانوا في أساس النّهضة الثقافيّة العربيّة في شرقنا. ومع البطريركَين يوحنا مخلوف وجرجس عميره الإهدنيَّين، اللَّذَين دامت حبريّتهما من سنة 1609 إلى 1664، تعاون الأمير فخر الدّين الثّاني الكبير في توحيد الجبل اللّبنانيّ والبناء وانفتاح البلاد، وفي إجراء تحالفات اقتصاديّة وثقافيّة مع الغرب بدءًا من أمراء توسكانا بإيطاليا (راجع المجمع البطريركيّ المارونيّ، النصّ الثّاني: هوّية الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها، 7-34).

8. قاد البطاركة الموارنة هذه المسيرة المارونيّة، برسالتها الكنسيّة والوطنيّة، حتى إعلان دولة لبنان الكبير في أوّل أيلول 1920، على يد البطريرك الياس الحويّك الذي ترأَّس الوفد اللّبنانيّ إلى مؤتمر فرساي بباريس للسّلام، بعد سقوط الأمبراطوريّة العثمانيّة. فكانت بكركي، على ما كتب في 25 آب/أغسطس 1980 المغفور له شارل مالك الوزير والسّياسيّ وكاتب مقدّمة الشّرعة العالميّة لحقوق الإنسان: "مركزًا روحيًّا فريدًا في الشَّرق الأوسط. الكلُّ يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه لجمع الشَّمل. بكركي من الأهميّة بحيث إذا خرب لبنان، وبقيت هي سليمة معافاة وقويّة، ماسكة بيد من حديد بزمام دعوتها التي انبطت بها، فباستطاعتها وحدها أن تعيد إعمار لبنان. أمّا لا سمح الله، إذا وهنت بكركي أو حلّ بها سقم ما، فلبنان وحده لا يستطيع إغاثتها كي تستعيد عافيتها. أيّ مؤسّسة أخرى في لبنان يصحّ فيها هذا القول؟ إذا قدّرنا ماذا يعنيه لبنان تاريخيًّا ومشرقيًّا، تجلّى لنا مركز بكركي الفريد، وتبعتها العظمى، في لبنان والشَّرق الأوسط". انتهى كلام شارل مالك، ابن الكنيسة الأنطاكيّة الرّوم أرثوذكسيّة.

9. "حبّة الحنطة، إذا وقعت في الأرض وماتت، أعطت ثمرًا كثيرًا" (يو12: 29).

من تضحيات الزّوجين والوالدين تنشأ أحسن عائلة مجمّلة بالأولاد والقيم والعلم. ومن تضحيات المعلّمين والمربّين، يتكوّن لنا جيل جديد مؤمن مخلص لله وللوطن، خلوق وصاحب قدرات كبيرة، بنّاء. ومن تضحيات أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات، تأسّست رهبانيّات رجّالية ونسائيّة ملأت الدّنيا برسالتها ومؤسّساتها في خدمة كلّ إنسان.

ومن تضحيات المسؤولين السّياسيّين، تقوم لنا دولة قادرة ومنتجة، ووطن محبوب من شعبه، غنيّ بتراثه، ومعتزّ بتاريخه. إنّ هذه التّضحيات كفيلة بمواجهة التّحدّيات. وأوّلها تعزيز العيش المشترك كتجربة لبنانيّة نموذجيّة مميّزة بنمط الحياة الذي يؤمّن فرص التّفاعل والاغتناء المتبادل، ويحترم الآخر في تمايزه وفرادته وثقافته، ويتشارك معه في حكم الشّأن الوطنيّ وإدارته. وثاني التّحديات بناء دولة ديموقراطية حديثة تحمي صيغة العيش المشترك، وتوفّق بين المواطنة للأفراد والتّعدّدية للجماعة. لقد أعلنت الكنيسة المارونيّة في مجمعها البطريركيّ (2003-2006) إيمانها بمثل هذه الدّولة وحدّدت مقوّماتها بأربعة:

1- التّمييز الصّريح، حتى حدود الفصل، بين الدّين والدّولة، بدلًا من اختزال الدّين في السّياسة، أو تأسيس السّياسة على منطلقات دينيّة لها صفة المطلق.

2- الانسجام بين الحرّيّة، التي هي في أساس فكرة لبنان، والعدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، التي من دونها لا يقوم عيش مشترك.

3- الانسجام بين حقّ المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤونه ورسم مستقبله، وبين حقّ الجماعات في الوجود الفاعل على أساس خياراتها.

4- الانسجام بين استقلال لبنان ونهائيّة كيانه، وبين انتمائه العربيّ وانفتاحه على العالم (راجع المجمع البطريركيّ المارونيّ: النّص 19: الكنيسة المارونيّة والسّياسة، 45).

10. هذه هي مقتضيات عيد القدّيس مارون الكنسيّ والوطنيّ. نسأل الله بشفاعته أن يساعدنا بنعمته لنكون "حبّة الحنطة" تموت عن الذّات ليحيا لبنان معافًا وقادرًا على تأدية رسالته التي تسلّمها من تضحيات الآباء والأجداد، لمجده تعالى الإله الواحد والثّالوث، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.