الرّاعي في قدّاس رأس السّنة: لبنان مريض بفقدان هويّته ومن الواجب أن تعاد إليه عافيته
"1. في اليوم الثّامن لولادة الطفل، تمّت بحسب الشّريعة الإلهيّة ختانته "ودعي اسمه يسوع" (لو 2: 21). وهو الإسم الّذي كشفه الملاك لمريم يوم بشارتها (لو 1: 31)، وليوسف في الحلم مضيفًا معنى الإسم وهو "الله الّذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متّى 1: 21).
في يوم عيد اسم يسوع نتذكّر أنّ ابن الله صار إنسانًا لكي يخلّص كلّ إنسان من خطاياه. فهو لا يريد أن يعيش أيّ إنسان في حالة الخطيئة الدّائمة، بعيدًا عن الله الّذي خلقه ويحبّه ويريد إشراكه في النّعيم السّماويّ. وقد استودع الكنيسة خدمة سرّ التّوبة لكي يتمكّن التّائب من نيل الغفران الإلهيّ، والولادة روحيًّا من جديد فنلجأ دائمًا إلى يسوع لكي يخلّصنا من خطايانا.
2. ولأنّ اسم يسوع يعني "الله الّذي يخلّصنا من خطايانا"، فهو مصدر السّلام الحقيقيّ في قلب الإنسان، بل "هو سلامنا" (أفسس 2: 14). ولهذا السّبب اختار القدّيس البابا بولس السّادس اليوم الأوّل من كلّ سنة جديدة ليكون "يوم السّلام العالميّ" وجرى الاحتفال سنويًّا منذ 1967. واعتاد البابوات توجيه رسالة خاصّة بهذا اليوم. فوجّه قداسة البابا فرنسيس رسالته لسنة 2022 بعنوان: "حوار الأجيال، تربية وعمل: آليّات لبناء السّلام". وقد اعتدنا في لبنان أن نحتفل "بيوم السّلام العالميّ" في الأحد الأوّل من كانون الثّاني. وعليه سنقيم غدًا هذا الاحتفال، ونقدّم مضمون رسالة قداسة البابا فرنسيس لهذا اليوم.
3. يسعدني في عيد رأس السّنة 2022، أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة ومعنا معالي الدّكتور هيكتور حجّار وزير الشّؤون الاجتماعيّة، ونقيب الصّيادلة الجديد الدّكتور جو سلّوم، وإنّنا في هذه المناسبة نشدّد على السّعي الّذي تقوم به الوزارة لخدمة شعبنا في هذه الظّروف الّتي تزداد حدّة. كما وأنّنا نشدّد مع النّقابة في سعيها وبخاصّة ضرورة تأمين التّمويل للبطاقة الدّوائيّة الّتي تتيح للمواطن شراء الدّواء من الصّيدليّات.
بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة نفتتح السّنة الجديدة شاكرين الله على السّنة المنصرمة وعلى ما أفاض علينا فيها من خير ونعم بالرّغم من خيباتها وأحزانها؛ وعلى حفظه لنا ولوطننا لبنان بيده الخفيّة وغير المنظورة. ويطيب لي أن أهنّئكم جميعًا، وأعرب لكم ولعائلاتكم عن أطيب التّمنّيات، راجين أن يجعلها ربّنا يسوع سنة سلام وخير وخلاص من المعاناة الّتي نعيشها في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط وسواها من البلدان. وأوجّه هذه التّهاني والتّمنّيات إلى شعبنا اللّبنانيّ في الوطن وبلدان الانتشار، وكذلك إلى أبناء كنيستنا ورعاتهم في لبنان والنّطاق البطريركيّ والقارّات الخمس.
4. لا بدّ في بداية السّنة الجديدة من أن يقف اللّبنانيّون عمومًا والسّياسيّون والنّافذون والحزبيّون خصوصًا أمام واقع لبنان المنهار بيقظة ضمير، ويعترفوا بأخطائهم. ألم يأتوا هم بحروب الآخرين على أرضنا فكانت بدايات الانحدار؟ ثمّ ألم يذهبوا إلى حروب هؤلاء الآخرين على أراضيهم فكان الانهيار والانعزال عن الأسرتين العربيّة والدّوليّة والفقر والهجرة؟ إلى متى يهملون عن قصد أو غير قصد معالجةَ أسباب أزماتنا الوطنيّة الكبيرة، وتغييرَ مسار الانهيار، وإيجادَ الحلول وتنفيذها؟
5. لبنان مريض بفقدان هويّته، وكأيّ مريض يشكو من فقدان صحّته، من الواجب إعادتها إليه. من الواجب أن تعاد إلى لبنان عافيته الّتي خسرها. فهو بحكم موقعه الجغرافيّ، وتنوّعه الدّينيّ والثّقافيّ، وانفتاحه على جميع الدّول، ودوره التّاريخيّ كجسر ثقافيّ واقتصاديّ وتجاريّ، ومكانٍ للتّلاقي والحوار، وعنصر للاستقرار في المنطقة، هو دولة هويّتها الحياد الإيجابيّ النّاشط. وبهذه الصّفة لبنان "دولة مساندة لا مواجهة" كما جاء في أعمال وضع ميثاق جامعة الدّول العربيّة (1945)، بناءً على إعلان حكومة الاستقلال "التزام لبنان الحياد بين الشّرق والغرب". في الحياد خير لبنان وازدهاره وخير جميع اللّبنانيّين.
6. إنّنا نقدّر الخطوة الأوّليّةِ الواعدةِ الّتي اتّخذها رئيسُ الجمهوريّةِ ورئيسُ الحكومة ووزيرُ الدّاخليّة بتحديدِ موعدِ الانتخابات النّيابيّة والتّوقيع على مرسومِ إجْرائها. ونعوِّلُ على أن تُركّزَ السّلطةُ اهتمامَها في الأشهرِ المقبلةِ على التّحضيرِ الجِدّيِّ لها وخلقِ الأجواءِ السّياسيّةِ والأمنيّةِ لحصولِها مع الانتخاباتِ الرّئاسيّة في تشرين المقبل. ونُشدِّدُ هنا على ضرورةِ حصولِ هذه الانتخابات بإشرافِ مراقِبين دوليّين، خصوصًا أنّه توجدُ رغبةٌ بذلك لدى الرّأيِّ العامِّ اللّبنانيّ ولدى الأممِ المتّحدة.
7. إذا سلُمت النّوايا وتغلّب الإخلاص للبنان وشعبه، تكون الفترة الباقية كافية لإحياِء العملِ الحكوميِّ، ولإنهاءِ المفاوضاتِ مع المؤسّساتِ الماليّةِ الدّوليّة، ولضبطِ الحدود، ولترميمِ العَلاقاتِ مع دولِ الخليجِ وفي طليعتها المملكة العربيّة السّعوديّة، ولتصويبِ موقعِ لبنان. فينتقلُ من الانحيازِ إلى الحِياد، ومن سياسةِ المحاورِ إلى سياسةِ التّوازنِ. وهكذا يوفِّرُ لبنان المناخَ الملائم مستقبَلًا لإطلاقِ حوارٍ وطنيٍّ برعايةِ الأممِ المتّحدةِ في إطار مؤتمرٍ دُوليٍّ يُعطي للحوارِ ضمانة أمميّةً وآليّةً تنفيذيّة. فالحواراتُ الدّاخليّةُ، الّتي طالما رحبّنا بها وأيدّنا توصياتِها وقراراتِها، ظلّت من دون تنفيذ، بل تنصلّ منها بعضُ الأطراف المشاركين فيها. وما يُحتِّمُ مؤتمرًا دوليًّا أيضًا هو أنَّ بعضَ جوانبِ الأزْمةِ اللّبنانيّةِ يَتعلّقُ بقضايا إقليميّةٍ ودُوليّة كمصيرِ اللّاجئين الفِلسطينيّين، وعودةِ النّازحين السّوريّين، وحسمِ المشاكلِ الحدوديّةِ والأمنيّةِ مع إسرائيل.
8. إنّ الكنيسة، ببطريركيّتها وأبرشيّاتها ورهبانيّاتها ومؤسّساتها، تبقى جادّة في مساندة شعبنا روحيًّا ومعنويًّا ومادّيًّا. وعلى هذا الأساس، وفيما انهيار الدّولة يتواصل، الكنيسة مدعوّة لتجدّد ذاتها وقواها بقوّة الرّوح القدس، لأنّها قُبلة أنظار الشّعب ومحطّ آماله. وهي، كما يسميّها القدّيس بولس الرّسول، "عمود الحقّ وأساسه" (1 طيم 3: 15). ينبغي أن يشمل هذا التّجدّد كلّ أبناء الكنيسة وبناتها، لكي نبدأ سنة جديدة، ملتزمين بتتميم إرادة الله، لأنّه هو الّذي ينمّي، ونحن عاملون معه (1 كو 3: 5-9). إنّ التّجدّد يقتضي منّا الإصغاء إلى إلهامات الرّوح القدس، والاعتراف بأنّنا خطئنا عندما نفّذنا إرادتنا عوض أن نتمّم الإرادة الإلهيّة (رجاء جديد للبنان، 38). وإنّنا سندرس مع إخواننا السّادة المطارنة والرّؤساء العامّين مساحات هذا التّجدّد لكي نكون أكثر فعاليّة في خدمتنا الرّاعويّة المثلّثة: نشر كلمة الإنجيل لتشديد الإيمان وثبات الرّجاء، وتقديس النّفوس بتوزيع نعمة الأسرار، وخدمة المحبّة الّتي تتزايد حاجاتها وقطاعاتها.
9. إنّنا باإسم يسوع، الله الّذي يخلّصنا من خطايانا، نبدأ العام الجديد 2022. فرجاؤنا به لا يُخيّب، وهو لا يدعنا أيتامًا في شدائدنا، بل يأتي لنجدة ضعفنا. له المجد والتّسبيح مع أبيه وروحه القدّوس، الآن وإلى الأبد، آمين".