عوده في قدّاس الميلاد: لا خلاص لوطننا بلا مصالحة حقيقيّة مع الحقّ
وللمناسبة، ألقى عظة قال فيها:
"المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة.
أحبّائي، نقف اليوم أمام ميلاد مخلّص العالم، لا كحدث تاريخيّ مضى، ولا كذكرى نزيّن لها الشّوارع والمنازل، بل كحقيقة خلاصيّة حيّة تهزّ كيان الإنسان وتدعوه إلى مراجعة ذاته وحياته وموقعه في هذا العالم. ميلاد المخلّص هو إعلان الله الحاسم أنّه لم يترك الإنسان فريسةً للظّلمة والخطيئة والموت، بل دخل بنفسه تاريخنا، ولبس جسدنا، واختبر ضعفنا وخوفنا، ليقيمنا معه في نور الحياة. نعم، "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمةً وحقًّا" (يو 1 : 14).
في ميلاد المسيح نشهد انقلابًا جذريًّا في منطق هذا العالم الّذي يبني المجد على القوّة، والعظمة على التّسلّط، والنّجاح على إقصاء الآخر وتحطيمه. الله اختار طريقًا مغايرًا. إختار أن يأتي طفلًا ضعيفًا، لا يملك شيئًا، مولودًا في مغارة، موضوعًا في مذود، محاطًا برعاة وغرباء، لا بملوك وجيوش. وكأنّ الله أراد منذ اللّحظة الأولى أن يعلن أنّ الخلاص لا يبنى على القهر أو يفرض بالقوّة، بل يعطى بالمحبّة والاتّضاع.
يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "حيث الإتّضاع، هناك يحلّ الله". هذا الاتّضاع الإلهيّ ليس تفصيلًا ثانويًّا في إيماننا، بل هو قلب الإنجيل. المسيح لم يتّضع فقط في ميلاده، بل جعل التّواضع نهج حياته كلّها، حتّى الصّليب. فمن المذود إلى الجلجلة، نرى إلهًا يخدم الإنسان عوض أن يطالبه بخدمته، ويبذل ذاته عوض أن يطلب ذبيحةً. لذلك يقول الرّبّ: "من أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا" (متّى 20: 26). الميلاد مدرسة جديدة للإنسان، تعلّمه كيف يكون عظيمًا بالمحبّة، قويًّا بالتّواضع، غنيًّا بالرّحمة والعطاء، صانع سلام.
هذا السّرّ العظيم يساء فهمه حين يتحوّل العيد إلى مجرّد تقليد اجتماعيّ أو موسم استهلاكيّ. هذا ما يحصل في العالم وفي معظم المدن والشّوارع اللّبنانيّة، حيث يتنافس الجميع على إقامة أكبر أو أجمل أو أغرب شجرة يسمّونها شجرة الميلاد لكنّها لا تمتّ إلى معنى الميلاد بصلة. قد تكون وسيلةً لإدخال بعض البهجة إلى القلوب أو إنعاش الاقتصاد، لكنّ الميلاد ليس زينةً ولا موائد، بل دعوة إلى ولادة جديدة. هل نعي معنى ولادة الطّفل الإلهيّ في عالمنا؟ وهل نسمح للمسيح بأن يولد في قلوبنا؟ هل تغيّر فينا شيء من خلال هذا السّرّ؟ أم نكتفي بالمظاهر الزّائلة فيما قلوبنا مغلقة، وعلاقاتنا مكسورة، وأنانيّتنا مسيطرة؟
عيش الميلاد اليوم يعني أن نعيش منطق المسيح في عالم تحكمه المصالح والأنانيّة، وأن نختار الحقّ ولو كان الخيار مكلفًا، والمحبّة ولو بدت ضعفًا، والخدمة دون انتظار مكافأة. يقول القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ: "فلنكرم ميلاد المسيح، لا بالأطعمة والشّراب، بل بالأعمال الصّالحة ونقاوة القلب". فحيث يولد المسيح يولد معه إنسان جديد، له فكر جديد وسلوك جديد ونظرة جديدة إلى الحياة وإلى الإنسان.
يا أحبّة، نحتفل بعيد الميلاد في وطننا لبنان فيما الجراح مفتوحة والأوجاع كثيرة والأسئلة مصيريّة. نحتفل والمواطن مثقل بالهموم اليوميّة، خائف على لقمة عيشه وصحّته، وقلق على مستقبل أولاده. نحتفل فيما الدّولة لم تلتقط أنفاسها بعد، ولم يسمح لها بفرض الوجود، والمؤسّسات ما زالت مستضعفةً، يتحكّم بها ذوو النّفوذ، والانقسامات ما زالت عميقةً، والتّشبّث بالرّأي أو المكتسبات يزداد، والاستهتار بالدّستور والقوانين ما زال سلاح الجميع، ما يفقد الثّقة بينهم ويعمّق الخلافات. نحتفل فيما المواطنون يعانون، يشعرون بأنّهم متروكون، غير مسموعين، وغير مرئيّين.
في هذا الواقع، يأتي الميلاد ليضعنا أمام مسؤوليّتنا الوطنيّة والأخلاقيّة والرّوحيّة. فالإيمان ليس انفصالًا عن الشّأن العامّ، ولا الكنيسة مدعوّة إلى الصّمت أمام الظّلم أو الخطأ. بتّجسّده دخل الله حياة البشر بكلّ أبعادها، لذلك لا يمكننا أن نفصل بين إيماننا وسلوكنا كمواطنين، ولا بين صلاتنا وموقفنا من الفقر والفساد والظّلم والقتل والاستغلال. قال الرّبّ يسوع: "روح الرّبّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأطلق المنسحقين في الحرّيّة" (لو 4: 18).
فيا من أوكلت إليكم شؤون هذا الوطن، الميلاد يذكّركم بأنّ السّلطة ليست إمتيازًا بل خدمة، وأنّ المركز ليس ملكًا شخصيًّا بل أمانة. المسيح، ربّ المجد، لم يأت ليخدم بل ليخدم، فكيف بمن أمّنوا على شعب مجروح ومتألّم؟ الشّعب ليس قطيعًا يقاد بحسب ما يناسب المصالح، ولا ورقة ضغط لنيل المكاسب، ولا أصواتًا تستعمل في المواسم ثمّ تنسى. الشّعب وجوه حقيقيّة، عائلات تتألّم، شبّان يهاجرون، شيوخ متروكون، أطفال يستعطون، مظلومون ينتظرون العدالة. الميلاد يدعوكم إلى النّزول من أبراج الخطابات إلى مغارة الواقع، وإلى رؤية واقع النّاس كما هو. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "من لا يهتمّ بأخيه الإنسان، لا يعرف الله كما ينبغي". أولى واجبات المسؤول أن يعي حاجات شعبه وأن يعمل على تلبيتها، كما أنّ أولى مهام الحاكم أن تعمّ المساواة والعدل في رعيّته.
الميلاد يخاطبنا أيضًا كمواطنين. المسؤوليّة لا تقع فقط على من هم في الحكم، بل على كلّ واحد منّا. الميلاد يدعونا إلى رفض ثقافة اللّامبالاة، والخروج من منطق الشّكوى العقيمة، وتحمّل مسؤوليّتنا في بناء مجتمع أكثر عدلًا وصدقًا وإنصافًا. يدعونا إلى تربية أولادنا على القيم لا على التّحايل على القانون واستغلال الآخر، وعلى الخدمة لا على المصلحة، وعلى الأمانة لا على استغلال النّفوذ. لو أهمل الرّبّ شعبه وعامله بحسب أعماله وعقوقه هل كان تنازل وأفرغ ذاته وتجسّد متّخذًا طبيعتنا ليخلّصها؟
أيّها الأحبّة، إنّ التّواضع والمحبّة اللّذين أعلنهما المسيح بميلاده هما الطّريق الوحيد للخروج من أزمتنا العميقة. لا خلاص لوطننا بلا مصالحة حقيقيّة مع الحقّ، ولا قيامة بلا صليب، ولا ميلاد بلا توبة. الله لا يفرض خلاصه، لكنّه يضعه أمامنا كدعوة، فإمّا أن نقبل منطق المذود، أو نبقى أسرى منطق القصور الوهميّة الّتي تنهار على ساكنيها. لنتذكّر دومًا أنّنا زائلون وأنّ الإنسان لا يعرف متى تأتي ساعته، وأنّه يذهب خالي اليدين، لا يحمل معه إلّا تواضعه وأعماله، لذلك، عوض تضييع الأيّام في ملاحقة الشّهوات وجمع الثّروات والإساءة إلى الإخوة، ليكن ذكر الموت ماثلًا أمامنا، لا يغيب عن أذهاننا، كما يفعل الرّهبان، لكي تكون حياتنا مجالًا لتوبة مستمرّة، وممارسة المحبّة والرّحمة والخير، مجالًا للسّلام مع أنفسنا ومع إخوتنا. فلنرفع صلاتنا من أجل بلدنا الحبيب، علّه يخلص من منطق الأسلحة الفعليّة والكلاميّة، ومن سيطرة الأنا وطغيان الحسد والحقد والمصلحة، فيولد المسيح في ضمائر الجميع وينعكس خيرًا في سلوكهم وقراراتهم وخياراتهم. لنصلّ من أجل أن يعتق الرّبّ الإله شعب لبنان من كلّ ما يكبّل حياته، ويمنحه السّلام والكرامة الّتي تليق بأبناء الله. ولنرفع الصّلاة من أجل كلّ متألّم ومريض ومقهور ومخطوف، ومن أجل أن يعيد إلينا أخوينا المطرانين بولس ويوحنّا سالمين.
ألا سكن النّور المشرق من بيت لحم قلوبكم، وحوّل طرق حياتكم من ظلمات هذا الدّهر الفاسد الخدّاع إلى نور يشعّ منكم لينير العالم، آمين."
