لبنان
19 تموز 2021, 05:00

الرّاعي في عيد مار شربل: نلتمس منه أعجوبة خلاصنا من هذا الانهيار الشّامل

تيلي لوميار/ نورسات
"اليوم في عيد القدّيس شربل، قدّيس لبنان، نحن نؤمن أنّه لن يدع لبنان ينهار". بهذا الإيمان، رفع البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الصّلاة إلى الله، خلال قدّاس الأحد من الدّيمان، متضرّعًا مع المؤمنين من أجل خلاص لبنان.

وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة على ضوء الآية الإنجيليّة "روح الرّبّ عليّ: مسحني وأرسلني" (لوقا 4: 18)، فقال: "1. دخل يسوع كعادته يوم السّبت إلى مجمع النّاصرة، وقام ليقرأ من نبوءة أشعيا كلامًا قيل فيه قبل خمسماية سنة وهو: "روح الرّبّ عليّ: مسحني وأرسلني" (لوقا 4: 18). بهذه النّبوءة انجلت هويّته ورسالته الّتي أشرك فيها الكنيسة، جسده السّرّيّ وهو رأسها. فأصبحت بالتّالي هويّة المسيحيّين ورسالتهم يقبلونها بمسحة الرّوح القدس في المعموديّة والميرون. وفي النّبوءة أيضًا اعتلن الزّمن المسيحانيّ الجديد.

2. يسعدنا أن نحتفل بهذه اللّيتورجيا معكم ومع رعيّة الدّيمان العزيزة فنحيّي كاهنها الخوري حبيب صعب، ولجنة الوقف ورئيسها الخوري خليل عرب وكلّ أبناء وبنات الدّيمان الأحبّاء. فنهنّئكم على ما أنجزتم في الكنيسة الجديدة بسخائكم وسخاء أبناء الدّيمان المنتشرين والمحسنين. نذكرهم ونذكركم جميعًا في هذه الذّبيحة المقدّسة، أحياءً وأمواتًا، أصحّاء ومرضى. ونلتمس من الله، بشفاعة القدّيس شربل في يوم عيده، أن نلتزم بحفظ هويّتنا المسيحيّة والقيام برسالتنا.

3. "روح الرّبّ عليّ: مسحني وأرسلني". هذه هي هويّتنا المسيحانيّة  

الرّوح يملأ بشريّة يسوع ويكرّسه لرسالة الفداء والخلاص. فظهر إنسانًا مثلنا بملء إنسانيّته، وكشف الإنسان للإنسان، ودعوته السّامية. إشتغل بيدَي إنسان، وعمل بإرادة إنسان، وأحبّ بقلب إنسان. وشابهنا في كلّ شيء، ما عدا الخطيئة (عب 4: 15).

كون المسيح رأسَ جسده الّذي هو الكنيسة، فقد أشرك كلّ أعضاء الجسد بمسحة الرّوح بواسطة سرّي المعموديّة والميرون. هذا الرّوح جعلنا كمسيحيّين على شبه صورة المسيح في إنسانيّته، الّذي هو على ما قال بولس الرّسول: "البكر بين أخوة كثيرين" (روم 8: 29؛ كول 1: 18).

4. وأرسلني: هذه رسالتنا المسيحانيّة

رسالة المسيح الخلاصيّة بحسب نبوءة أشعيا تشمل ستّة أبعاد، وسلّمها للكنيسة ليقوم بها رعاتها وأبناؤها وبناتها، بالوسائل الرّوحيّة والأسراريّة، وبواسطة مؤسّساتها على اختلاف أنواعها. هذه الأبعاد هي:

‌أ. تبشير المساكين أيّ حمل البشرى الإلهيّة لكلّ إنسان منفتح العقل والقلب على الله، بوداعة وتواضع، للاستنارة بنوره، والامتلاء من عزائه ومحبّته، من دونهما فراغ في حياة الإنسان عبّر عنه القدّيس أغسطينوس بقوله: "لقد خلقتنا لك يا ربّ، ويظلّ قلبنا مضطربًا فينا إلى أن يستقرّ فيك".

‌ب. شفاء منكسري القلوب يعني الغفران للتّائبين، والتّعزية للحزانى، والتّشجيع للّذين يعيشون ألم التّهميش أو عدم فهمهم أو العزلة.

‌ج. تحرير الأسرى بممارسة العدالة الملطّفة بالإنصاف والرّحمة؛ عدالةٍ مرتكزة على الحقيقة الموضوعيّة، ومنزّهة من كلّ كذب وتضليل وافتراء، ومحرّرة من كلّ تدخّل سياسيّ أو تسييس. وتحرير مَن هم أسرى مواقفهم وآرائهم المتصلّبة، وأسرى الإدمان على المخدّرات أو المسكّرات.

‌د. إعادة البصر للعميان يعني بصر العقل المنحرف عن نور الحقيقة، وبصر الضّمير الّذي يخنق صوت الله، وبصر القلب المتحجّر ورافض الحبّ والمشاعر الإنسانيّة.

‌ه. الإفراج عن المظلومين من كلّ أنواع الظّلم والعبوديّات، ومن الاستغلال الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ، وانتشالهم من حالة الخطيئة والعادات السّيّئة.

‌و. إعلان سنة مرضية عند الرّبّ: هذا هو الزّمن المسيحانيّ الجديد. إنّه زمن ملكوت الله: ملكوت الحقيقة المحبّة والحرّيّة والعدالة والأخوّة والسّلام. هذا الزّمن يشكّل التزام الكنيسة بنشر هذه الثّقافة المسيحيّة.

5. إنّنا بإسم الشّعب الفقير والمقهور والجائع والمشتّت كخرافٍ لا راعي لها، وبإسم وطننا لبنان الواقع في حالة الانهيار، نطالب القوى السّياسيّة كافّة بأن تتكاتف بحكم المسؤوليّة الوطنيّة، وتتشاور في ما بينها، وتسمّي في الاستشارات النّيابيّة المقبلة شخصيّةً سنّيّةً لرئاسة مجلس الوزراء الجديد، تكون على مستوى التّحدّيات الرّاهنة، وتتعاون للإسراع في التّأليف. إنّه وقت تحمّلِ المسؤوليّات لا وقتُ الانكفاء. فالبلادُ لا تواجِهُ أزمةً حكوميّةً عاديّة، بل أزمةً وطنيّةً شاملةً تستدعي تضافرَ الجهود من قبل الجميع؛ وتواجه انقلابًا جارِفًا على النّظامِ والدّستورِ والمؤسّسات الشّرعيّة، وتفكّكًا للقوى الوطنيّةِ الّتي من شأنها خلق واقعٍ سياسيٍّ جديدٍ يُعيد التّوازنَ ويلتقي مع مساعي الدّول الصّديقة. ينبغي بحكم المسؤوليّة الوطنيّة تجاوز الأنانيّات والمصالحَ والحساباتِ الانتخابيّةَ الضّيّقةِ الّتي تُسيطر بكلّ أسف على عقولِ غالِبيّةِ القوى السّياسيّة، على حسابِ المصلحةِ الوطنيّة العليا.

كيف تسير الدّولة من دون السّلطة الإجرائيّة؟ فبها منوط إجراء الإصلاحات في البُنى والقطاعات الّتي هي شرط للدّعم الدّوليّ الماليّ من أجل قيام الدّولة وإنقاذها من حالة الانهيار؛ وبها منوط ضبط الوزارات والإدارات ووضع حدّ للفساد الماليّ فيها والإفراط في ممارسة سلطة هذا أو ذاك من الوزراء أو المدراء العامّين كأنّه سيّد مطلق، في وزارته، ولإيقاف التّعدّي على العاملين بإخلاص وفبركة ملفّات كاذبة بحقّهم لأغراض سياسيّة أو طائفيّة أو مذهبيّة؛ ومنوط بها دعم المحقّق العدليّ بشأن انفجار مرفأ بيروت، وحلّ إشكاليّة رفع الحصانة عن الوزراء والنّوّاب والعسكريّين المعنيّين، فالحصانة تتبخّر أمام ثمن الضّحايا والأحزان والجرحى والدّمار.

كيف يعاد بناء المرفأ والمنطقة المهدّمة من بيروت، وكيف يُعوّض على الأهالي من دون وجود سلطة إجرائيّة؟ مَن غير الحكومة يأمر وينفّذ التّدقيق الجنائيّ الشّامل في مصرف لبنان وكلّ وزارة من الوزارات وكلّ صناديق المجالس وأجهزة الرّقابة؟ ومَن غير الحكومة يضبط ويضع حدًّا للتّهريب والهدر وسرقات المال العامّ؟ ومَن غير الحكومة ينهض بالاقتصاد في كلّ قطاعاته، ويعيد الحركة الماليّة، يؤمّن فرص العمل، ويعيد للّيرة اللّبنانيّة قيمتها، ويحافظ على شبيبتنا وقوانا الحيّة والخلّاقة ويجنّبهم هجرة الوطن؟

6. إنَّ ما جرَى ويَجري من إهمال وانتفاء للحوار والتّعاون، يُعزّزُ فكرةَ عقدِ مؤتمرٍ دوليّ خاصٍّ بلبنان لإخراجِ لبنان واللّبنانيّين من ضيقتِهم المتعدّدة الأوجه. فالجماعةُ السّياسيّةُ تعطي كلَّ يومٍ الدّليلَ بعد الدّليلِ على عجزِها عن القيامِ بأبسطِ واجباتِها تجاه الشّعب والوطن، وعلى فشلِها في الحفاظِ على مؤسّساتِ الدّولةِ واستقلاليّةِ الشّرعيّةِ الوطنيّة. هذه الجماعة عاجزةٌ عن حلٍّ للمسائلَ اليوميّةِ البسيطةِ كالنّفاياتِ والكهرباءِ والغذاءِ والدّواءِ والمحروقات، وعاجزةٌ عن مكافحةِ الفساد، وتسهيلِ عملِ القضاءِ، وضبط ممارسة الوزارات والإدارات، وإغلاقِ معابرِ التّهريب والهدر، وعاجزةٌ عن تحصينِ نفسِها بتأليفِ حكومة، وعاجزةٌ عن معالجةِ القضايا المصيريّةِ كإجراءِ إصلاحاتٍ وترسيمِ حدودٍ وحسمِ خِيارات الدّولة، واعتمادِ الحياد.

7. اليوم في عيد القدّيس شربل، قدّيس لبنان، نحن نؤمن أنّه لن يدع لبنان ينهار. إليه نكل وطننا وشعبنا ملتمسين منه كعجائبيّ مرضيّ عند الله، أعجوبة خلاصنا من هذا الانهيار الشّامل، فبها نشكر ونمجّد الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."