لبنان
18 حزيران 2017, 10:15

الراعي في عيد الأب : إنّ العائلة هي الخليّة الحيّة للمجتمع والوطن

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس عيد الأب، على مذبح الباحة الخارجية للصرح "كابيلا القيامة". بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان:"من يحبني يحفظ كلمتي. أبي يحبه، وأنا أحبه ، وإليه نأتي وعنده نجعل منزلا"(يو14: 21 و23)، جاء فيها:

 

1. هو الله، الواحد والثالوث، يرفع شأن الإنسان، فيجعله سكناه، لأنّه يحبّ المسيح حافظًا كلمته. هذه هي محبّة الله العظمى لكلّ شخص بشري. فهو لا يريد أن يسكن في بيوت من حجر بل في كيان الإنسان. أما الكنيسة المبنيّة من حجر فهي بيت الله من حيث أنّها المكان الذي تتوفّر لنا فيه الوسائل  المقدّسة التي تهيِّئنا لنكون سكنى الله. والوسائل هي كلمة الله، ونعمة الأسرار الخلاصيّة والأفعال الليتورجيّة الأسراريّة وغير الأسراريّة. في هذا المكان يتمّ  بامتياز وعد الربّ يسوع في إنجيل اليوم: "مَن يحبّني يحفظ كلمتي. أبي يحبّه، وأنا أحبّه، وإليه نأتي، وعنده نجعل منزلًا (يو14: 21 و23).

 

2. يسعدنا أن نحتفل بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، ونحن نحيي عيد الأب ونكرّم فيه عائلات تميّزت بكثرة الإنجاب، والتحدّيات الإيمانيّة، والدعوات التي تكرّست لشهادة الإيمان، والمصالحة الزوجيّة بعد محنة الانفصال. كما نكرّم جمعيّتين تتفانيان في خدمة المحبة الاجتماعيّة، وهما جمعيّة "أمّ النور" ونحيّي مؤسّسها ورئيسها سيادة أخينا المطران غي-بولس نجيم، ومنظّمة فرسان مالطا ذات السيادة، ونحيّي رئيسها في لبنان السيّد مروان صحناوي.

 

وأودّ أن أوجِّه تحيّة شكر وتقدير لمنسِّقي مكتب راعويّة الزواج والعائلة في الدائرة البطريركيّة وهم الأباتي سمعان أبو عبدو، والمهندس سليم وقرينته السيدة ريتا الخوري.

 

فنشكرهم على تنظيم هذا الاحتفال والدعوة إليه، ونقدّر العمل الكبير الذي يقومون به في خدمة راعوية الزواج والعائلة، والخير العميم الذي يصنعونه. وفي المناسبة نهنّئ بالعيد كلّ أب، ومعه وكلّ أمّ، ونهنّئ الآباء الروحيّين وأولياء الأمر، وأبا الأمّة اللبنانية فخامة رئيس الجمهورية.

 

3. وإني، إذ أرحّب بكم جميعًا وبالعائلات المكرّمة وأفرادها ومحبّيها، أحيّي بيننا ثلاث عائلات فقدت أعزاء على قلوبهم وقلبنا. نحيّي عائلة المرحوم وديع أبي غصن مختار جبيل، زوجته السيّدة نوال وأولاده وعائلاتهم؛ وعائلة المرحومة جميله باسيل، زوجها السيد إيلي باسيل وابنها وابنتها؛ وعائلة المرحوم الخوري بطرس نصر، كاهن رعية عبادات (جبيل)، زوجته السيدةمريم وأولاده وعائلاتهم. كما نحيّي أنسباءهم جميعًا ومرافقيهم. إننا نجدّد لهم تعازينا القلبيّة، ونصلّي لراحة نفوس أعزائكم في مجد السماء.

 

4. إنّ أوّل منزل سكن فيه الله، من بعد أن بناه، إنّما هو الزواج والعائلة. ففي أوّل صفحة من الكتب المقدّسة، وتحديدًا في كتاب التكوين أسّس الله الزواج، خالقًا الإنسان رجلًا وأنثى، وباركهما لكي تظهر فيهما، كجماعة حياة وحبّ، صورة الله غير المنظور (راجع تك1: 27-28). وعندما دنّس الإنسان بخطيئته وشروره هيكل الله الاوّل هذا، عاد فرمّم تقديسه بتجسّد ابن الله في عائلة بشريّة، سكن فيه الثالوث الأقدس بشكل واضح وصريح: الآب بمحبّته، والابن بنعمته، والروح القدس بحلوله. فكانت العائلة المقدسة.

 

وافتدى المسيح الربّ الزواج والعائلة بموته وقيامته، وجعل منه سرًّا مقدّسًا، يمنح الزوجين نعمة ترفع حبّهما إلى كماله، وتشدّد وحدتهما غير القابلة للانفصام، وتعضدهما في تقديس الذات المتبادل، وفي عيش الحياة الزوجية بإسعاد الواحد الآخر، وفي قبول هبة الاولاد وتربيتهم (كتاب التعليم المسيحي، 1641).

 

5. وامتدّت النعمة من الزوجَين لتشمل الأولاد والعائلة فتجعل منها كنيسة بيتيّة تنقل الإيمان من جيل إلى جيل، وتعلّم الصلاة. فتكون في ذلك على صورة كنيسة المسيح، على ما كتب القدّيس بولس الرسول، مشبِّهًا الحبّ بين الزوجَين كالحبّ بين المسيح والكنيسة، ومؤكِّدًا أنّ الكنيسة وُلدت من محبّة المسيح وماء المعمودية، وهي نقيّة لا دنس فيها، وأنّ في قلب هذه الكنيسة المقدّسة وُلدت الكنيسة العيليّة (راجع أفسس5: 21-23).

 

6. بفضل نعمة سرّ الزواج، كوّن الأزواج والعائلات المكرَّمون اليوم كنيسة منزليّة في بيوتهم، سكن فيها الله، الواحد والثالوث. فحفظوا كلمة المسيح وتقبّلت العائلات هبة الأولاد: هذه 18 ولدًا، وأخرى أربعة عشر، وأخرى عشرة مع انتظار الحادي عشر، وغيرها عشرة، وأخرى سبعة من بينهم أربع راهبات والوالد كاهن.

 

ومن بين هذه العائلات زوجان أُصيبا في انفجار كنيسة سيّدة المعونات بزوق مكايل سنة 1994، وهما يساندان جمعيّات اجتماعيّة مثل كاريتاس لبنان وأنت أخي، وعائلات أدّت شهادة الدّم. وعائلة استعادت أمانتها للرباط الزوجي ونعمة سرّ الزواج المقدّس. وسنتعرّف بالتفصيل إلى كلّ هذه العائلات في ختام القداس الإلهي.

 

7. إنّ النعمة الإلهيّة التي قبلها الأزواج في سرّ الزواج، ورافقتهم في حياتهم الزوجيّة وعضدتهم وأنارت دروبهم، وامتدّت إلى عائلاتهم، كانت لهم القوّة في مسيرة حياتهم الزوجيّة والعائليّة الخاصّة. فيهم تحقّق وعد المسيح الربّ في إنجيل اليوم: "مَن كانت لديه وصاياي ويحفظها، هو الذي يحبّني. ومَن يحبّني يحبّه أبي، وأنا أحبّه وأُظهر له ذاتي" (يو14: 21). وحدهم الأزواج والعائلات، أمثال المكرّمين في هذا الاحتفال، اختبروا كلمات الربّ يسوع، بكلّ أبعادها.

 

8. إنّ العائلة هي الخليّة الحيّة للمجتمع والوطن. إذا كانت كنيسةً منزليّة، يسكن فيها الله، وتصبح العائلة الاجتماعيّة والوطنيّة هي أيضًا "كنيسة" حاضر فيها سرّ الله بكلمته ومحبّته ونعمته الخلاصيّة، التي تقدّس الشؤون الزمنيّة.

 

وبحقّ يقال أنّ الوطن أبٌ وأمّ. فيجدر بالذين يتولّون إدارة شؤونه السياسيّة والإداريّة والقضائيّة والأمنيّة، أن يتحلّوا بمزايا الأبوّة والأمومة، وهي التفاني المعطاء مع التجرّد، والحزم مع الحنان، والعدالة مع الإنصاف، والاعتناء بتأمين مستقبل الأجيال الطالعة، وتعزيز العائلة وحمايتها.

 

9. أمّا الآن وقد أُنجز قانون الانتخاب الجديد، بعد طول انتظار علّق الاهتمام بالشؤون الوطنية الاخرى، ننتظر من السلطة السياسيّة الانكباب بكلّ جهد على معالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية، والقضايا الاجتماعية والأمنية، وتداعيات أعداد النازحين واللاجئين التي تهدّد الكيان اللبناني بمقدّراته وإمكاناته ومعيشة أهله ومستقبل أجياله.

 

10. ولكنّنا في عيد الأب، نعرب عن قربنا الإنساني والعاطفي مع كلّ أب يعيش مع عائلته مأساة التهجير والنزوح واللّجوء، والتشريد على الدروب، والإذلال على بوابات الدول. وإنّا نكرّر بدون ملل النداء إلى ضمائر حكّام الدول في الأسرتَين الدولية والعربية، مطالبينهم بإيقاف الحروب في سوريا والعراق واليمن وفلسطين، ومكافحة المنظّمات الإرهابية وعمليات التفجير ولاسيّما في مصر حيث الاعتداءات المبرمجة على المسيحيين، وتحديدًا الإخوة الأقباط. كما نطالبهم بإيجاد حلول سياسيّة مسؤولة للنزاعات، والعمل الجدّي على توطيد سلام عادل وشامل ودائم، والالتزام بإعادة جميع المهجّرين والنازحين واللاجئين والمخطوفين إلى بيوتهم وأوطانهم بحكم حقهم الطبيعي وحق المواطنة.

 

11. وإلى الله الذي منه كلّ أبوّة وأمومة، نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الابد، آمين.