الفاتيكان
25 كانون الثاني 2024, 06:55

الذّكاء الاصطناعيّ وحكمة القلب محور رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالميّ للاتّصالات الاجتماعيّة

تيلي لوميار/ نورسات
"الذّكاء الاصطناعيّ وحكمة القلب، من أجل اتّصالات إنسانيّة بالكامل"، تحت هذا العنوان صدرت أمس الأربعاء رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالميّ الثّامن والخمسين للاتّصالات الاجتماعيّة، والّتي يتوقّف فيها عند أهمّيّة حكمة القلب في التّعامل مع الذّكاء الاصطناعيّ وذلك من أجل اتّصالات إنسانيّة بالكامل.

وبحسب "فاتيكان نيوز"، "تحدّث الأب الأقدس في بداية الرّسالة عن التّطوّر الّذي يشهده ما يُطلَق عليه اسم الذّكاء الاصطناعيّ وما يُحدِثه من تغيّرات جذريّة في الإعلام والاتّصالات أيضًا، ومن خلالها في بعض أسس التّعايش المدنيّ. وأكّد البابا أنّ هذا التّغيّر لا يقتصر على العاملين في هذا المجال بل يشمل الجميع، حيث يُسرّع انتشار ابتكارات كثيرة لا يمكن للجزء الأكبر منّا أن يفهم عملها وقدراتها، ويثير دهشة تتأرجح ما بين الحماسة والتّخبّط، ويضعنا هذا بالضّرورة أمام تساؤلات أساسيّة: ما هو الإنسان إذًا، ما هو تميّزه، وما هو مستقبله في زمن الذّكاء الاصطناعيّ.

وتابع البابا فرنسيس متحدّثًا عن ضرورة الانطلاق من القلب، وحذّر في هذا السّياق من التّحليل الكارثيّ للمستجدّات ومن التّشدّد أمامها، كما وأشار من جهة أخرى إلى ضرورة دخولنا المستقبل كلٌّ في مكانه، ولكن شرط الحفاظ على حساسيّتنا، بقلوب غير قابلة للإفساد، إزاء كلّ ما في هذا المستقبل من مدمِّر وغير إنسانيّ حسبما كتب رومانو غوارديني قبل قرن من الزّمان والّذي ذكر، حسبما تابع الأب الأقدس، أنّنا نتحدّث عن مواضيع تقنيّة وعلميّة وسياسيّة إلّا أنّه لا يمكن حلّها إلّا انطلاقًا من الإنسان، ويستدعي هذا إنسانًا يتميّز بروحانيّة أكثر عمقًا وحرّيّة وحياة داخليّة جديدة. وشدّد البابا فرنسيس بالتّالي على أنّ في هذه الحقبة، الّتي يهدّدها خطر أن تكون غنيّة بالتّقنيّات وفقيرة في الإنسانيّة، لا يمكن لتأمّلاتنا إلّا أن تنطلق من قلب الإنسان. وتابع أنّه فقط من خلال نظرة روحيّة واستعادة حكمة القلب يمكننا أن نقرأ ونحلّل مستجدّات زمننا وأن نكتشف مجدّدًا الطّريق نحو اتّصالات إنسانيّة بالكامل. وأوضح قداسته أنّ هذا القلب حسب الكتاب المقدّس هو مكان الحرّيّة والقرارات الأكثر أهمّيّة في الحياة، هو رمز الاستقامة والوحدة، وأيضًا مرجع المشاعر والأمنيات والأحلام، وهو في المقام الأوّل المكان الدّاخليّ للّقاء مع الله. وواصل قداسة البابا أنّ حكمة القلب هذه يمكن أن يجدها مَن يبحث عنها ويمكن أن يراها مَن يحبّها، وتبحث هي عمّن هو جدير بها، هي مع مَن يصغي إلى النّصائح وله قلب مطيع، قلب يصغي. حكمة القلب هي عطيّة من الرّوح القدس تُمَكّننا من أن نرى الأشياء بعينَي الله، أن نفهم الرّوابط والأوضاع والأحداث وأن نكتشف معناها.

وتابعت الرّسالة مشيرة إلى أنّه لا يمكن أن ننتظر مثل هذه الحكمة من الآلات، كما وقال البابا فرنسيس إنّ تعبير الذّكاء الاصطناعيّ قد حلّ محلّ تعبير أصحّ ألا وهو "تعلُّم الآلة"، وسلّط الضّوء على أنّ استخدام كلمة ذكاء في حدّ ذاته هو غير صحيح. وواصل الأب الأقدس أنّ الآلات لديها قدرات أكبر من الإنسان على حفظ البيانات ولكن الإنسان فقط هو مَن عليه كشف معنى البيانات والعلاقات فيما بينها. لا يمكن بالتّالي أن نطلب من الآلة أن تبدو كما الإنسان، بل يجب بالأحرى إيقاظ الإنسان ممّا هو فيه من تنويم مغناطيسيّ بسبب هوس القدرة على كلّ شيء واعتقاده بأنّه مكْتفٍ ذاتيًّا، ونسيانه كونه مخلوقًا. وعاد البابا فرنسيس إلى الحديث عن القلب البشريّ فقال إنّه وانطلاقًا من توجّهات هذا القلب يمكن لكي شيء بيد الإنسان أن يكون فرصة أو خطرًا. وأشار قداسته إلى ما لمسنا منذ بداية انطلاق الذّكاء الاصطناعيّ في وسائل التّواصل الاجتماعيّ من فرص ومخاطر وأمراض. وأكّد البابا على ضرورة أن تتوفّر إمكانيّة فهم وتنظيم الأدوات الّتي يمكنها، في الأيادي الخاطئة، أن تفتح مشاهد سلبيّة. وكرّر قداسته هنا النّداء كي تعمل جماعة الأمم بشكل موحّد من أجل معاهدة دوليّة ملزِمة تنظِّم تطوير الذّكاء الاصطناعيّ واستخدامه بأشكاله المتعدّدة. وأضاف قداسته أنّه، وكما في كلّ مجال إنسانيّ، لا يكفي وضع القواعد.

تحدّث البابا فرنسيس في الرّسالة من جهة أخرى عن كوننا مدعوّين إلى أن ننمو معًا بإنسانيّة وكإنسانيّة، وأمامنا تحدّي أن نُحدث نقلة نوعيّة كي نكون على مستوى مجتمع مركَّب، متعدّد الإثنيّات، تعدّديّ ومتعدّد الأديان والثّقافات. وتحدّث قداسته مجدّدًا عمّا توفّره أدوات الاتّصالات والمعرفة الحديثة من فرص وما يرتبط بها من مخاطر، وأشار تحديدًا إلى خطر أن يتحوّل كلّ شيء إلى حسابات مجرّدة وأن يُختزل الإنسان إلى بيانات والفكر إلى نموذج والخبرة إلى حالة والخير إلى الرّبح، وفي المقام الأوّل أن يُنكر تفرُّد كلّ شخص وقصّته وأن تصبح ملموسيّة الواقع سلسلة من البيانات الإحصائيّة. وشدّد قداسة البابا في هذا السّياق على أنّه لا يمكن الفصل بين الإعلام والعلاقات، وأعطى مثلاً ما وصفها بالحروب الموازية الّتي يتمّ تقديمها من خلال حملات تزييف إعلاميّ، ومن جهة أخرى الصّحفيّين والمراسلين الّذين يصابون ويموتون كي يمكّنونا من أن نرى ما رأوا بأعينهم. وأضاف الأب الأقدس أنّ فقط من خلال لمسنا بالبيد معاناة الأطفال والنّساء والرّجال يمكننا أن نفهم عبثيّة الحرب.

وفي ختام الرّسالة تحدّث البابا فرنسيس عن أسئلة تُطرح بشكل تلقائيّ، مثل كيف يمكن أن نحمي احترافيّة وكرامة العاملين في مجال الاتّصالات والإعلام ومستخدميها في العالم كلّه؟ كيف نضمن أن تتحمّل شركات المنصّات الرّقميّة مسؤوليّتها عمّا تنشر؟ كيف نضمن شفافيّة معايير وخوارزميّات محرّكات البحث القادرة على محو شخصيّات أو آراء أو قصص أو ثقافات؟ كيف يمكننا التّعرّف على أصحاب ما يُنشر ومعرفة ما إذا كان فيديو أو صورة ينقلان حدثًا حقيقيًّا أم اصطناعيًّا؟ كيف يمكن تفادي أن يكون هناك مصدر واحد، أيّ فكر أوحد تُعدّه الخوارزميّات؟ وتابع الأب الأقدس أنّ الإجابة على هذه التّساؤلات وغيرها ستجعلنا ندرك إن كان الذّكاء الاصطناعيّ سيبني نظام طبقات جديدًا يقوم على الهيمنة المعلوماتيّة مؤدّيًا إلى أشكال جديدة من الاستغلال واللّامساواة، أم أنّه سيقود في المقابل إلى مساواة أكبر وسيعزّز إعلامًا صحيحًا ووعيًا أكبر بتغيّر الحقبة الّذي نعيشه، مشجّعًا الإصغاء إلى الاحتياجات المتعدّدة للأشخاص والشّعوب، وذلك في منظومة إعلاميّة متشعّبة وتعدّديّة. وأكّد البابا أنّ هذه الإجابات تتوقّف علينا، على الإنسان، إن كان يريد أن يصبح طعامًا للخوارزميّات أم أن يغذّي قلبه بالحربة الّتي لا يمكن بدونها أن ننمو في الحكمة."