البابا: الزّمن الّذي نعيشه اليوم أيضًا يحتاج إلى شفاء
وفي تعليمه، قال البابا بحسب الموقع الرّسميّ للكرسيّ الرّسوليّ: "نختتم بدرس التّعليم المسيحيّ هذا مسيرتنا في حياة يسوع العلنيّة، الّتي تميّزت بلقاءات وأمثال وشفاءات.
الزّمن الّذي نعيشه اليوم أيضًا يحتاج إلى شفاء. فَعَالَمُنا يعيش في مناخ من العنف والكراهيّة يُهين كرامة الإنسان. ونعيش في مجتمع بدأ يمرض بسبب نوع من "الشّرَه" في استخدام وسائل التّواصل الاجتماعيّ: فنحن مفرطون في التّواصل، ومُنهَكون بصورٍ مُضلّلة أو مُشوّهة أحيانًا. تغمرنا رسائل كثيرة تثير فينا عاصفة من المشاعر المتناقضة.
في هذه الحال، قد تنشأ في داخلنا رغبة في إطفاء كلّ شيء. وقد نصل إلى أن نفضّل بألّا نشعر بشيء. حتّى كلامنا يوشك أن يصير معرّضًا لسوء الفهم، ويمكن أن تراودنا تجربة الانغلاق على أنفسنا في الصّمت، في حالة من انعدام التّواصل حيث لا نعود قادرين على قول أبسط الأمور وأعمقها، مهما بلغ قربنا بعضنا من بعض.
وفي هذا، أودّ أن أتوقّف اليوم عند نصّ من إنجيل مرقس الّذي يُقدِّم لنا رجلًا لا يتكلّم ولا يسمع (راجع مرقس 7، 31–37). وكما يمكن أن يحدث لنا اليوم، لعلّ هذا الرّجل قرّر أن يكفّ عن الكلام لأنّه لم يشعر أنّ النّاس تفهمه، وأن يغلق أذنَيه لأنّه صار محبطًا ومجروحًا ممّا كان يسمعه. في الواقع، هو لم يذهب إلى يسوع ليَطلب الشّفاء، بل جاء به أشخاص آخرون إليه. يمكن أن نعتقد أنّ الّذين قادوه إلى المعلِّم هم الّذين كانوا قلقين من عزلته. إلّا أنّ الجماعة المسيحيّة رأت في هؤلاء الأشخاص أيضًا صورة الكنيسة الّتي ترافق كلّ إنسان إلى يسوع لكي يصغي إلى كلمته. دارت أحداث هذا المشهد في أرض وثنيّة، لذا نحن في سياقٍ طغت فيه أصوات أخرى على صوت الله.
وقد يبدو تصرّف يسوع غريبًا في البداية، لأنّه أخذ الرّجل جانبًا على انفراد (راجع الآية 33). فزاد عزلته، لكن إن دقّقنا النّظر، ساعدنا يسوع لنفهم ما يختفي وراء صمت هذا الرّجل وانغلاقه، كما لو أنّه أدرك حاجته إلى الصّلة الحميمة والقرب من النّاس.
قدّم يسوع أوّلًا للأصّم مَعقود اللِّسان مودّة صامتة، بأعمال تعبّر عن لقاء عميق: لمس أذنَيه ولسانه (راجع الآية 33). لم يستخدم يسوع كلمات كثيرة، بل قال الشّيء الوحيد اللّازم في تلك اللّحظة: "إِنْفَتِحْ" (الآية 34). وقد نقل مرقس الكلمة باللّغة الآراميّة: "إِفَّتِحْ!"، كأنّه يريد أن يُسمعنا الصّوت واللّفظ كما هو. هذه الكلمة، البسيطة والجميلة، تحمل في طيّاتها الدّعوة الّتي يوجّهها يسوع إلى هذا الرّجل الّذي توقّف عن السّماع والكلام. كأنّ يسوع يقول له: "افتح نفسك على هذا العالم الّذي يخيفك! افتح نفسك على العلاقات الّتي أصابتك بالإحباط! افتح نفسك على الحياة الّتي تخلَّيت عن مواجهتها!". فالإنغلاق على الذّات ليس حلًّا على الإطلاق.
وبعد اللّقاء مع يسوع، لم يعد هذا الرّجل يتكلّم فحسب، بل تكلّم "بِلِسانٍ طَليق" (الآية 35). هذا الوصف الّذي أضافه الإنجيليّ يبدو أنّه يريد أن يقول لنا شيئًا أكثر عن سبب صمته. لعلّ هذا الرّجل توقّف عن الكلام لأنّه كان يشعر بأنّه لا يُجيد التّعبير، أو لأنّه لم يكن يشعر بالكفاءة في الكلام. كلّنا نختبر بأنّ النّاس يمكن أن يسيئوا فهمنا. وكلّنا بحاجة إلى أن نطلب إلى الرّبّ يسوع أن يشفي طريقتنا في التّواصل مع الآخرين، ليس فقط لنتكلّم بصورة صحيحة، بل أيضًا لنتجنّب الإساءة بكلامنا إلى الآخرين.
العودة إلى الكلام بِلِسانٍ طَليق هي بداية المسيرة، وليست نقطة الوصول. فالمسيح في الواقع منع ذلك الرّجل من أن يروي ما حدث له (راجع الآية 36). لمعرفة يسوع معرفة حقيقيّة، من الضّروريّ أن نقوم بمسيرة، ونبقى مع يسوع، ونتألّم أيضًا بمثل آلامه. عندما نراه مُهانًا ومتألّمًا، وعندما نختبر قدرة صليبه الخلاصيّة، إذّاك يمكننا أن نقول إنّنا عرفناه حقًّا. لكي نصير تلاميذَ يسوع، لا توجد طرق مختصرة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنطلب إلى الرّبّ يسوع أن يعلّمنا أن نتواصل بصدق وحكمة مع الآخرين. ولنصلِّ من أجل كلّ الّذين جرحهم كلام الآخرين. ولنصلِّ من أجل الكنيسة، لكي لا تتخلّى يومًا عن مهمّتها في ارشاد النّاس إلى يسوع، حتّى يقدروا أن يصغوا إلى كلمته، فتشفيهم، ويصيروا هم أيضًا حاملي بشارته الخلاصيّة."