لبنان
29 كانون الثاني 2020, 09:45

البطريرك لحّام: "صفقة القرن" ستكون الضّربة القاضية لكلّ عمليّة سلام في المنطقة!

تيلي لوميار/ نورسات
علّق بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق والإسكندريّة وأورشليم للرّوم الكاثوليك سابقًا، ومطران القدس على مدى 26 سنة، غريغوريوس الثّالث لحّام، على خطاب الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب الّذي طرح فيه أمس خطّة للسّلام في الشّرق الأوسط تحت اسم "صفقة القرن"، فشجب لحّام الأمر في رسالة جاء في نصّها نقلًا عن "الوكالة الوطنيّة للإعلام":

"القدس ليست سلعة، وفلسطين ليست سلعة. أتابع وباهتمام كبير، أخبار ما يسمّى "صفقة القرن"، وأشعر من خلالها أنّ الإنسان ما عاد له قيمة، وأصبح سلعة، والوطن أصبح سلعة والقيم أيضًا أصبحت سلعة، فالقدس سلعة، وفلسطين سلعة. سلعة يتاجر بها من ليس له علاقة بها، ولا يملك قيراطًا منها ولا شبرًا من ترابها، ويتاجر بها كأنّها ملكه.
وتذكّرني صفقة القرن، بصفقة أخرى جرت أيضًا في فلسطين قبل أكثر من ألفي سنة. بطل هذه الصّفقة هو يهوذا الإسخريوطيّ الذّي خان يسوع معلّمه، وقال لليهود: "ماذا تعطوني، وأنا أسلّمه (يسوع) إليكم . فجعلوا (اليهود) له ثلاثين من الفضّة. ومنذئذ كان يطلب فرصة ليسلمه" ( متّى 26: 15-16) ( مرقس 14 :10-11) ( لوقا 22 :3-6 ) الثّمن بخس جدًّا في الصّفقتين صفقة بيع يسوع وخيانته وصفقة بيع فلسطين وخيانتها.
هذا ما تؤكّده صلواتنا حول خيانة يهوذا ومن تآمر معه حيث نقرأ في صلوات خميس أسبوع الآلام "جعل (يهوذا) الصّفقة رخيصة! وبحسب عادة التّجّار تاجر بالمبيع ولم يدقّق في تحديد الثّمن! فإنّ من عادة اللّصوص أن يجازفوا في الأسعار.
ولهذا فإنّ الإسم الحقيقيّ لما دعي صفقة القرن، هو أنّها فخّ القرن وكذبة القرن ومسرحيّة القرن ومؤامرة القرن، وستكون هذه الصّفقة الضّربة القاضية لكلّ حوار في المنطقة. ولكلّ عمليّة سلام في المنطقة! وستكون المدخل للمزيد من الحروب والصّراعات في المنطقة. لا بل إنّ هذه الصّفقة هي قمّة المؤامرة على مصير الدّول العربيّة بأسرها، وستدقّ إسفينًا في العلاقات العربيّة، وفي العيش المشترك في المنطقة، وتجرّ المنطقة إلى صراعات دينيّة، تقود إلى قيام كانتونات في البلاد العربيّة على أساس دينيّ مثل الدّولة اليهوديّة!
هذه الصّفقة ستكون منطلقًا لمزيد من العنف والإرهاب والفرق التّكفيريّة، وجحافل الدّواعش، وتجّار الحروب أصحاب القبضة الّتي ظهرت في الثّورة اللّبنانيّة مؤخّرًا. لا بل ستكون هذه الصّفقة النّار والوقود لنار اللّاسامية والإسلاموفوبياAntisémitisme et Islamophobie في الشّرق والغرب، وستؤجّج الحقد والكراهيّة للغرب بأسره، لا بل ستتسبّب في تفشّي الأصوليّة الدّينيّة في كلّ مكان، وفي علاقات الدّول والشّعوب!
وأقول متوجّهًا إلى ضمير العالم بأسره: "هل تعقلون وهل تتصوّرون أن يقبل الفلسطينيّون بصفقة القرن؟ هل يقبلون بها بعد تشريدهم في العالم أجمع؟ بعد آلاف وآلاف من الشّهداء والأسرى؟ بعد الدّماء الّتي سالت في كلّ شبر في فلسطين وخارجها؟ هل يقبل الفلسطينيّ بأن لا يكون له وطن؟ ولا حقوق ولا استقلال؟ هل يقبل الفلسطينيّ أن يكون تحت حماية ورحمة وإدارة دولة أخرى، هي تقرّر في الأمور الأساسيّة، الإداريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والدّوليّة والثّقافيّة، الّتي تنظّم حياته وسياسته وعلاقاته محلّيًّا وعالميًّا؟.. إنّ بنود صفقة القرن هي نوع جديد من التّمييز العنصريّ، ومن الاستعباد، ومن الاحتلال، ومن نظام العبيد الّذي كان قائمًا على سنوات طويلة في بعض ولايات أميركا. لا يمكن لأيّ فلسطينيّ إلّا أن يرفض هذه الصّفقة جملة وتفصيلًا وبطريقة قطعيّة ونهائيّة.
هذه الصّفقة المشؤومة تكرّس شريعة الغاب والتّمييز العنصريّ كما كان سابقًا في أميركا بوجود الهنود الحمر وفي أفريقيا، والظّلم الدّوليّ، وغياب العدالة والحقوق المشروعة للشّعوب... وتضرب عرض الحائط بكلّ قرارات الأمم المتّحدة والمجتمع الدّوليّ والقانون الدّوليّ. وكأنّ أميركا هي الحكم الوحيد في هذه القضيّة العالميّة الّتي كانت سبب حروب وأزمات أغرقت وتغرق الشّرق العربيّ بالدّماء.
هذه الاعتبارات هي ثمرة خبرتي في فلسطين وفي القدس بالذّات على مدى ستّة وعشرين سنة. وفيها حاولت أن أكون دائمًا قريبًا من الجميع من المسيحيّ والمسلم واليهوديّ. وكنت داعية سلام وحوار. لكي أجنّب المنطقة المزيد من الحقد والكراهيّة، لاسيّما لدى الشّباب.
وهذا ما عبّرت عنه في مواقفي وخطاباتي ومحاضراتي في ظروف الانتفاضة الأولى في فلسطين. وهذه سطور من خطاب عام 1982: حضارة المحبّة، وأقول في الختام لكلّ أبناء هذه الدّيار المقدّسة، من كلّ قوميّة ودين واتّجاه سياسيّ وقوميّ، رافعين صوتنا بالصّلاة لأجل كلّ شهيد وقتيل، وجريح وسجين ومعتقل ومقعد ومتألّم، رافعين صوتنا بالصّلاة لأجل العدل والسّلام والمصالحة، قائلين: لماذا الحرب يا إخوان؟ لماذا العنف؟ لماذا الكراهيّة؟ لماذا البندقيّة؟ لماذا الحجر؟ فلنرم بكلّ هذا جانبًا، ولنجمع حجارة الوطن، وتراب الوطن، وطاقات الوطن، طاقات هذه الأرض المقدّسة، بقداسة كتبها وأنبيائها وأوليائها، ولنبن بها كلّها وكلّنا، حضارة المحبّة والسّلام، في أرض المحبّة والسّلام.
اليوم أوجّه هذا النّداء إلى العرب، ملوكًا وأمراء ورؤساء وحكّام ورجال دولة وأعمال... قفوا صفًّا واحدًا في وجه هذه الصّفقة الّتي ستجلب الويلات ومزيدًا من الحروب والخلافات في عالمنا العربيّ. وأوجّه النّداء نفسه إلى حكّام العالم بأسره لاسيّما الولايات المتّحدة الأميركيّة وروسيا وأوروبا الغربيّة والشّرقيّة... قفوا صفًّا واحدًا في وجه صفقة القرن. وضمّوا جهودكم لأجل الحل ّالوحيد المشرّف الإنسانيّ، ألا وهو دولتان متساويتان في الحقوق والواجبات. وسعي مشترك محليًّا وفي العالم في الشّرق والغرب، لأجل سلام عادل شامل ثابت، عربيّ، فلسطينيّ، إسرائيليّ، مسيحيّ إسلاميّ، محلّيّ وعالميّ.
وهكذا تكون الأرض المقدّسة الّتي هي مهد الدّيانات الإبراهميّة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، وانطلاق الايمان المقدّس إلى العالم بأسره، وبشارة السّلام، وفيها أنشد ملائكة بيت ساحور وبيت لحم نشيد الميلاد، نشيد السّلام، "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام"... هذه الأرض تكون أيضًا اليوم منطلق السّلام العالميّ.
هذا هو ندائي الإنسانيّ والوجدانيّ، والرّوحي والدّينيّ. هذا هو ندائي كمطران للقدس على مدى 26 سنة، خدمت فيها الإنسان كلّ إنسان. وأحببت الإنسان كلّ إنسان، وكنت رسول سلام الأرض المقدّسة في كلّ مكان وإلى كلّ إنسان.
إيماننا المقدّس، وأقول تعليم الإنجيل المقدّس، يدعونا دائمًا إلى رؤية جديدة في العلاقات بين النّاس، بين الأمم، بين الشّعوب، بين البشر، بين الدّول.
هذا التّعليم المقدّس هو أساس ندائي هذا أمام هذه الأخطار المميتة المدمّرة الّتي تجابه فلسطين، والقضيّة الفلسطينيّة، ومسيرة السّلام في المنطقة وفي العالم بأسره.
ومع السّيّد المسيح أخاطب الجميع قائلًا: "طوبى لصانعي السّلام فإنّهم أبناء الله يدعون"."