البطريرك ساكو: من أجل خطّة راعويّة عمليّة ومعاصرة ومناسبة لمؤمنينا في العراق
وحيث أنّ الكنيسة تُجسّد الضّمير المسيحيّ أينما وجدت، يتعيّن عليها أن تضطلع بدور استباقيّ في مواجهة التّغييرات الجادّة التي طرأت وتطرأ على المجتمع العراقيّ في مجالات عدّة، والتّحديات المتعاظمة، والانتهاكات التي تعرّض لها المسيحيّون، والتي أثّرت سلبًا على وجودهم وعلاقاتهم، وعليه يغدو من صميم واجب الكنيسة تحديد استراتيجيّتها لتجسيد هذا الشّعار وتعزيز حضورها وصمودها.
في ظروف كالّتي نمرّ بها، ينبغي على الكنيسة الكلدانيّة والكنائس الأخرى، أن تستنهض كلّ طاقاتها، لتفكر مليًّا وتتحرّك بأسلوب جديد مختلف عن الأسلوب التّقليديّ، لبلورة رؤية شاملة وواضحة تمثّل مشروعًا كاملاً للعيش بسلام وأمان مع مواطنينا بشكل ثابت، بحيث تضمن حقوقهم ومساواتهم وتؤمِّن حياتهم وتحافظ على تراثهم ومناطقهم ولغتهم وعقيدتهم وتقاليدهم، وتُعطي المسيحيّين دفعًا وزخماً للبقاء على أرض الوطن والتّواصل. على الكنيسة، أن تبذل مزيدًا من الجهود المدروسة والمنتظمة لإصدار قوانين تُقرُّ بشكل صريح بوجودهم أسوة بالمكوّنات الأخرى، وعدم اعتبارهم مواطنين من الدّرجة الثّانية، فهم أهل العراق الشّرعيون، وكنائسهم وأديرتهم مغروسة في طول البلاد وعرضها قبل مجيء المسلمين من الجزيرة العربية عام 637، وبعد مجيئهم.
وضعُنا كأقلّية باقية في بلدنا الأم “العراق”، يتطلب مِنَّا وعيًّا كبيرًا برسالتنا ككنيسة، ويحتّم علينا وضع خطة تمثّل مشروعًا كاملاً لفعاليّات إيمانيّة واجتماعيّة وثقافيّة وخدميّة وفق معايير حديثة، ورؤية واضحة ومعمَّقة تستجيب لمتطلبات المرحلة الحاليّة والقادمة المتزايدة. وبهذا وحده سنستطيع الخروج من حالة التّشتت والتّرهل والرّكود والهجرة، ونستعيد دورنا وحيويتنا كملح وخميرة ونور، كما دعانا المسيح.
وعليه أقترح أن نركّز في خطّتنا الرّاعويّة هذه على محورين أساسيّين، متداخلين ومتلازمين هما التّنشئة المسيحيّة وخدمة المحبّة.
أتمنّى أن يحظى الشّباب من خلال هذه الخطّة بالاهتمام الذي يستحقّونه، لما يمتلكونه من طاقات ابداعيّة، لا بدّ أن تُستثمر بشكل صحيح، لاسيّما أنّ الكنيسة هي الرّاعية والحاضنة لهم.
والشّباب كما يؤكّد البابا فرنسيس مرارًا، هم من يفتح باب الرّجاء في وقت الأزمات، وأنّ الكنيسة التي لا تتجرّأ على فتح طرق جديدة تكون محكومة بالشّيخوخة. لهذا يتوجّب على الكنيسة أن تشجّع الشّباب على الانخراط في العمل الاجتماعيّ والمجال السّياسيّ، من أجل بناء السّلام والعدالة والمساهمة الفاعلة في خدمة الإنسان في مجتمعاتنا؛ نأمل أن ينتج عن سينودس أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة الذي سينعقد في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018 حول موضوع: الشّباب، الإيمان وتمييز الدّعوات، ما يعزّز هذا الاهتمام.
التّعليم هو وصيّة يسوع: “اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين” (مرقس 16/15).
الكنيسة “أمّ ومعلّمة”، والتّنشئة أو التّلمذة المسيحيّة هي محور رسالتها. هذا ما تؤكّده الكنيسة الجامعة ضمن وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثّاني ورسائل البابوات التي تشدّد على أهميّة تثقيف المؤمنين بإيمانهم ليعيشوه بفرح وسلام، وينقلوه الى أولادهم : “لِتَنزِلْ فِيكم كَلِمَةُ المسيحِ وافِرةً لِتُعلِّموا بَعضُكم بَعضًا” (كولوسي 3/16). وهنا أشدّد على ضرورة الاستفادة من وسائل التّواصل الاجتماعيّ التي هي في متناول عامّة النّاس، ويمكن تسخيرها كنسيًّا لأغراض التّنشئة الصّحيحة.
لتنشئة مؤمنينا بكل فئاتهم نحتاج إلى برامج متنوّعة مختلفة عن المناهج السّابقة، برامج إنسانيّة سليمة، ومسيحيّة عميقة بعيدة عن السّطحيّة والرّتابة. الإيمان علاقة حبّ ووجدان وليس معلومات نحفظها على ظهر القلب، الإيمان علاقة بشخص المسيح الذي نُحبُّه، ونجُلُّه، وننطلق بفرح لنخبر الآخرين بما اختبرناه (طالع خبر تلميذي عماووس في إنجيل لوقا 24). ولتعميق إيمان المؤمنين وتجذّره في حياتهم اليوميّة، نحتاج إلى تنشئة مستدامة من خلال تنظيم: دورات كتابيّة، ولاهوتيّة وراعويّة، رياضات روحيّة، دورات صيفيّة ومخيّمات، ورحلات حجّ إلى المزارات والأديرة وهي كثيرة في بلادنا، وإصدار كتب ومجلات وإنشاء مواقع الكترونيّة وفتح مكتبات. هذا فضلاً عن فتح مدارس ومعاهد وجامعات لتصبح مراكز إشعاع روحيّ وانسانيّ.
هذه التّنشئة المستدامة تتمّ من خلال ادإعداد برامج مفهومة للتّعليم المسيحيّ: (النّص: الكلمة والمعنى) وتأهيل كادر كفوء، وبيئة مناسبة، لذلك نحتاج في أبرشيّاتنا إلى مركز راعويّ حيويّ: قاعات وغرف للقاءات وورشات عمل ومخيّمات ورياضات روحيّة وساحات لعب وأنشطة رياضيّة وفنّيّة ووسائل إعلام. إنشاء الله سوف نحقّق ذلك في بغداد.
ضمن مشروع التّنشئة هذا يأتي المجال اللّيتورجيّ بالدّرجة الأولى لإعداد المؤمنين من خلال دورات لتأهيل المقبلين على المعموديّة، والمناولة الأولى، والزّواج (للمخطوبين)، والعائلة. وليس أقلّ أهميّة من ذلك الاحتفال بالقداس أيّام الآحاد والأعياد، وصلاة المساء والصّباح اليوميّة، هذا فضلًا عن إعداد رتب خاصّة بالأطفال والشّباب والمسنّين. فاللّيتورجيا هي المناسبة التي نعمّق فيها إيماننا ونتدرّب على عيشه. ومن الجدير بالذّكر، أنّ لدينا في بغداد "مركز الدّراسات المسيحيّة المشرقيّة" الذي يهتمّ بهذه التّنشئة، ومعهد تأهيل الشّمامسة، ومعهد التّثقيف المسيحيّ في بغداد والبصرة واربيل ودهوك، فضلًا عن كلّيّة بابل والجامعة الكاثوليكيّة في أربيل. هنا أودّ أن أحثّ الأبرشيّات على تشكيل لجان للاهتمام بكلّ هذه الجوانب والإعداد للاحتفال بهذه المناسبات المهمّة.
هل القدّاس احتفال مُعَدٌّ حقًا كعيد؟ هل هو والرّتب الأخرى مناسبة للصّلاة والمشاركة حتّى تغدو حياة المؤمنين ليتورجيا؟ هل رموز اللّيتورجيا ومعانيها وحركاتها وجمال فنّها معروفة ومفهومة، أم هي روتين معين؟ هل ينمو المؤمنون في الصّلاة، شخصيًّا وعائليًّا وكجماعة؟ هل يعرفون أن يصلّوا ويعلّموا أولادهم الصّلاة؟ الاهتمام بالطّقوس أمر جميل، لكن أليس ثمّة شعور بغياب عنصر أساسيّ في صلب حياتنا المسيحيّة ألا وهو المشاركة وإبراز من نحتفل به؟ هذه أسئلة أساسيّة ولا بدّ أن نجتهد للإجابة عليها.
إنّي وبكل محبّة أشجّع الكهنة والشّمامسة الإنجيليّين على الاهتمام بهذه الجوانب وبجوانب أخرى كتنظيم رتب صلاة خاصّة: صلاة القلب، الصّلاة الصّامتة، الصّلاة التّلقائية. مع الإشارة إلى صلاة الورديّة والصّلوات التّقويّة التي تمارسها الأخويّات وجماعات المؤمنين. هذا كلّه يتطلّب تحرّكًا سريعًا للتّجديد والبرمجة والعمل الدّؤوب، فالعالم يسير قُدمًا إلى الامام، ولا بدّ للكنيسة أن تواكب التّطورات وتتحرّك لتأوين رسالتها وتعليمها. هذه فرصة يجب ألّا نضيعها.
“الحَقَّ أَقولُ لَكم: كلّما صنعتم ذلك لِواحِدٍ مِن إخوتي هؤُلاءِ الصِّغار فَلي قد َصنَعتموه” (متى 25/40).
إيماننا هو محرّكُ خدمتنا. والجماعة “الكنيسة” هي قناة الرّحمة ومكان تجسيد الإيمان العامل بالمحبّة (غلاطية 5/6). وعندما تكون الجماعة حيّة نشعر بفرح اللّقاء ودفء التّضامن والاقتسام. والأسرار وبخاصّة الإفخارستيّا (القدّاس) تفترض ديناميكيّة – حيويّة هذه العلاقة – الشّركة التي تجعلنا نمتلئ من الله المحبّة والرّحمة. علينا أن نعرف تعليم الكنيسة الاجتماعيّ ودعوات البابا فرنسيس المتكرّرة إلى أن نفتح باب قلبنا وباب كنيستنا لإخوتنا الفقراء والكشف عن معاناتهم وتسليط الضّوء على قضاياهم، وحاجاتهم سواء كانوا من المهجرين أو الأيتام، الأرامل، الوحدانيّين، المسنّين، وتقديم العون لهم كما فعل المسيح وتفعل حاليًّا الجمعيّات الخيريّة العالميّة والمحلّيّة كأخويّة المحبّة – كاريتاس.
ثمّة مزايا متعددة مطلوبة للخدمة كالانفتاح والاستقبال والإصغاء والسّخاء والطّوعيّة. هذه أمور أساسيّة. من يؤمن ويصلّي يصبح قلبه بسيطًا ومنفتحًا. فمن واجب كنائسنا أن تجذب النّاس لا أن تُنفِّرهم، لأنّ الكثيرين ممن هم خارج الكنيسة، إنّما بسبب من هم في داخلها.
وفيما يخصّ النّازحين في الموصل وبلدات سهل نينوى، فلولا متابعتنا وتواجدنا منذ بداية المشوار لكُنّا قد فقدنا أرضنا وتراثنا وهويّتنا. وما زال المشوار أمامنا طويلاً لتوفير المستلزمات الضّروريّة للعائلات الرّاغبة في البقاء، رغم الظّروف الاستثنائيّة التي يمرّون بها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنّهم بحاجة الى:
ترميم بيوتهم وتطوير بلداتهم التي لم تحظ بالاهتمام اللّازم منذ سنوات طويلة.
توفير ظروف مناسبة للمحافظة على كرامتهم من خلال السّعي لتحسين ظروفهم المعيشيّة وإيجاد وسائل فعّالة للاستجابة لاحتياجاتهم.
فتح مركز للتّأهيل والاستشارة للدّعم النّفسيّ، وإقامة ورشات عمل لاكتساب مهارات وتعلّم مهنة، ومراكز ثقافيّة وصحّيّة واجتماعيّة وشبابيّة ونسائيّة لتطوير قدرات المرأة، وإيجاد استثمارات وفرص عمل.
نسعى في كل هذا وذاك إلى خلق تفاعل مسؤول بين القيادات الكنسيّة والمؤمنين لتأصيل رسالة بقائنا على أرضنا الأصليّة، كمسيحيّين شهود إيمان. وهنا، أُشدّد على أهميّة اشراك الرّابطة الكلدانيّة في هذا العمل الرّاعويّ والإنسانيّ، وخصوصًا إنّها مؤسّسة إنسانيّة وثقافيّة واجتماعيّة.
كيف نقوم بهذا العمل؟
تشكيل لجنة عليا من أشخاص أكاديميّين وفاعلين لتحديد الاحتياجات والتّحديات ودراستها وتقديم حلول تتناسب مع بيئة كلّ منطقة، وتتعاون الكنيسة مع اللّجان في كل ذلك .
لجنة ماليّة عليا تسعى لإيجاد التّمويل اللّازم من الدّولة ومن الكنائس ومن الجمعيّات الخيريّة، يتعيّن تشكيلها من أشخاص مهنيّين ونزيهين ومخلصين لضمان الشّفافية والمساءلة.
إنشاء مركز إعلاميّ لتغطية كلّ هذه النّشاطات المختلفة وما إلى ذلك، لإسماع صوت المسيحيّين في جميع أنحاء العالم.
بأيّة روحيّة نعمل؟
الصّلاة. عندما نفكر بمشاريع كهذه، علينا أن نصّلي أوّلاً كما كان المسيح يصلّي (لوقا 6/12)، لأنّنا نحتاج إلى نور الله حتى يأتي عملنا بثمار.
الوحدة الدّاخليّة: “وكانَ جَماعَةُ الَّذينَ آمَنوا قَلبًا واحِدًا ونَفْساً واحِدة (أعمال الرسل 4/32). معًا نحن أقوى، لذا علينا أن نضع خلافاتنا جانبًا من أجل الخير العامّ.
تعاون الإكليروس والمؤمنين، لأنّنا جميعًا شركاء، كلّ واحد بحسب موهبته من أجل بناء الكلّ: “كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعمَةِ على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح” (افسس 4/7).
ثمّة حاجة قد تكون حثيثة في بعض أبرشيّاتنا، لرفع الغبن عن المؤمنين العلمانيّين لتأدية رسالتهم المسيحيّة، من خلال معموديّتهم وموهبة كهنوتهم الملوكيّ: “أَمَّا أَنتم فإِنَّكم ذُرِّيَّةٌ مُختارة وجَماعةُ المَلِكِ الكَهَنوتِيَّة وأُمَّةٌ مُقَدَّسَة وشَعْبٌ اقتَناه اللهُ ” (1 بطرس 2/9). كذلك الإصغاء إلى الدّعوات المتكرّرة في الكنيسة الجامعة بأن ترفع المرأة المسيحيّة المعاصرة رأسها، وتدعم ما نسمّيه بموهبة “كاريسما” المرأة المؤمنة المبشّرة، بما في ذلك الزخم الواجب إعطاؤه للرّهبانيّات النّسائيّة للاضطلاع بدورها في قلب الشّعب المؤمن لتأتي المشاركة بأكبر قدر من التّكامل وعلى أوسع نطاق ممكن.
بروح مسكونيّة مع الدّيانات الأخرى بخاصّة مع المسلمين الذين تجمعنا معهم روابط إنسانيّة واجتماعيّة ووطنيّة. من واجب الكنيسة أن تسعى لإقامة شراكة فاعلة معهم في مجالات عديدة: لاسيّما فيما يتعلّق بالدّفاع عن المساواة والعدالة الاجتماعيّة والعيش المشترك، والوقوف صفًّا واحدًا ضدّ الخطابات الاقصائيّة التي تحثّ على الكراهيّة.
أُفكّر في تنظيم لقاء دراسيّ موسّع تتبنّاه البطريركيّة يضمّ أساقفة الأبرشيّات وبعض الكهنة والعلمانيّين وممثّلين عن الرّهبانيّات.