العراق
25 تشرين الثاني 2020, 12:50

البطريرك ساكو متسائلاً: أيّ أسقف للقرن الحادي والعشرين؟

تيلي لوميار/ نورسات
عن الأسقف والصّفات الّتي يجب أن يتحلّى بها في القرن الحادي والعشرين، كتب بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو مقالاً نشره موقع البطريركيّة الرّسميّ، وجاء فيه:

"الأسقف Episcopus، لفظة يونانيّة مستعربة تعني السّاهر على "التّعليم الصّحيح"، أمّا في السّريانيّة فتبقى لفظة "آبون-ܐܒܘܢ" هي المفضَّلة، لأنّ الأولويّة في حياة الأسقف هي للأبُوّة المسؤولة والمُحِبَة. الأسقف وهو أعلى رتبة كهنوتيّة في الكنيسة، يرسم من قبل ثلاثة أساقفة وفق التّواتر الرّسوليّ وتعبيرًا عن الشّركة. إنّه شخص محوريّ في الكنيسة. تكون أبرشيّته حيّة عندما يكون هاجسه الرّسالة وتعليمه شهادة حياة مؤثّرة، ويكون أسقف المعيّة، ومؤمنًا بمواهب الآخرين.

الأسقف خليفة الرّسل

عندما اختار يسوع الإثني عشر رسولاً من بين تلاميذِه العديدين، أفرزهم للرّسالة وأولاهم السّلطة: "فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا. قالَ هذا ونَفَخَ فيهم قائلا: خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (يوحنّا 20/ 21-22). وأوصاهم: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميعَ ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كلّ الأيّام وإلى انقضاء الدّهر (متّى 28/ 19-20).

نستدلّ من هذا حضورَه الدّائم في الكنيسة من خلال الرّوح القدس، ومساعدتَه الرّسل وخلفاءَهم في مهمّة التّعليم والتّدبير، والاحتفال باللّيتورجيّا، واختيار خدّام جدد بِـ "وضعِ اليد".

نجد ذلك في الرّسائل الرّاعويَّة لبولس، وفي نصوص الآباءِ الأوائل. أذكر هنا رسائل إغناطيوس الأَنطاكيّ (استشهد عام 107)، الّتي ترسم صورةً شبه كاملةٍ للنّظام التّراتبيّ في الكنيسة في نهاية القرن الثّاني وبداية الثّالث. يقول: "إنّي لأرجو أن تفعلوا كلَّ شيء برئاسة أسقفكم كرمزٍ لله، والقسس كرمزٍ لمجمع الرّسل، والشّمامسة الّذين أُحبّهم كمؤتَمنين على خدمة يسوع المسيح" (مغنيسة 6/1). ويؤسّس دور الأسقف ومكانته على اعتبارات لاهوتيّة: "أنّ طاعتكم لا توجّه إليه (الأسقف)، بل إلى الله الأسقف الجامع أبي يسوع المسيح. ينبغي أن تكون طاعتُكم خاليةً من كل شائبة، لأنّ احترامنا هو لله الّذي أحبّنا فإذا خدعنا الأسقف، نكون قد كذبنا على الأسقف غير المنظور" (مغنيسة 3/2). وحدة الجماعة تتمثّل في الطّاعة للأسقف: "عليكم أن تكونوا برأي واحد مع أسقفكم في كلّ ما تفعلونه. إنّ مشيختكم المحترمة جديرة بالله، ومرتبطة بأسقفها ارتباط الأوتار بالقيثارة. من المفيد أن تكونوا في وحدة لا تشوبها شائبة، فهي وحدة دائمة مع الله" (أفسس 4/1، تراليان 6، فيلادلفيا 3). الأسقف هو الشّخص المختصّ بمنح الأسرار، وله وحده السّلطة في انتداب أشخاص آخرين للخدمة: "لا يفعلنَّ أحد منكم شيئًا، بدون إرادة الأسقف. سرّ الشّكر هو الّذي يتممه الأسقف أو من أوكلَ إليه ذلك. بدون الأسقف لا يجوز العماد ولا ولائم المحبّة" (ازمير 8/1-2) و "على الرّجال والنّساء الّذين يتزوّجون أن يكون اتّحادُهم على يد الأسقف حتّى يكون الزّواج بحسب الرّبّ" (إلى بوليكربس 5/2).

أسقف اليوم

عالمنا الحاليّ تغيّر ثقافيًّا واجتماعيًّا وجغرافيًّا ودينيًّا وغدا "قرية رقميّة"، لذا تحتاج الكنيسة اليوم إلى أشخاص قياديّين، لهم كاريزما خاصّ، كاريزما يمكّنهم من القيام برسالتهم الرّاعويّة على أحسن وجه في هذه الظّروف الصّعبة، ببعد نظر وحكمة، وهِمّة عالية، وعين ساهرة ويقِظة، بصدق واستقامة. أشخاص لهم رؤية عن المجتمع، يعرفون تركيباته واختلافاته، وقادرين على التّخطيط والبرمجة، يعرفون إلى من يقودون أبناء أبرشيّتهم، وكيف يقودونهم.

 

فيما يلي بعض الصّفات الأساسيّة الضّروريّة الّتي ينبغي أن يتحلّى بها الأسقف في كنائسنا حتّى يكون لها حضور وللكنيسة دور مؤثّر. وقد أصدر مجمع الأساقفة بروما، لائحة  جديدة بصفات الأسقف المنتخب. من المؤكّد لا أحد  منّا هو كامل، لكن يجب أن يكون ثمّة سعي متواصل نحو هذه الرّسالة الوجدانيّة، والّتي ليست بالأمر السّهل.

1. أن يتمتّع الأسقف بكاريزما بحسن التّدبير (القيادة) والتّعليم- التّبشير، وتقديس النّفوس.

ينبغي اختيار الأساقفة من بين الكهنة الّذين لهم كاريزما الرّسالة، أيّ من بين الكهنة الّذين لهم ثقافة عالية، وروحيّة عميقة وانفتاح كبير، ممّن لهم مبادرات جريئة، ونجحوا في إدارة خورنتهم أو إدارة المعهد الكهنوتيّ. الرّوح القياديّة leadership مطلوبة عند الأسقف بكونه المسؤول الأوّل في الأبرشيّة، وخادم الشّركة collegiality في الكنيسة البطريركيّة (السّينودس) وفي الكنيسة الجامعة. يؤكّد المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني في دستور عقائديّ "نور الأمم– Lumen gentium  إنّ الأسقفيّة هي أعلى درجات الكهنوت، أسّست بإرادة المسيح. وإنّ الأسقف يمارس سلطته كاملة بتناغم مع أسقف روما، خليفة بطرس والرّاعي الجامع للكنيسة. وبالنّسبة للكنائس الشّرقيّة مع البطريرك كأب وكأخ، وتقوية العلاقة بين الأساقفة، ليكونوا فريقًا واحدًا لخدمة الكنيسة وتقدّمها.

2. الأسقف نائب المسيحvicar  ينبعي أن يعي أنّه وكيل حقيقيّ وليس ممثّلاً،representative ، أيّ هو المسؤول عن الأبرشيّة بكلّ معنى الكلمة. ترسم وثيقة نور الأمم أولويّة مسؤوليّاته: التّعليم- التّبشير بكلّ الوسائل المتاحة، وتقديس النّفوس من خلال الاحتفال باللّيتورجيا (الأسرار) والإرشاد وإلقاء المحاضرات وإصدار الرّسائل الرّاعويّة. هذه المهمّة ينبغي أن تأخذ كلّ مشاعره وتفكيره واهتمامه. على الأسقف أن يدرك أنّ عمله الرّعويّ هو عمل المسيح الرّاعي الّذي بذل حياته في سبيل الرّعيّة، ويبقى هو مثاله. يعيش ما يعلمه ويعظ به، فيغدو تعليمه شهادة لفرح الإنجيل، ورحمة الله، ومحبّته في خدمة الفقراء. أسقف رسول ومتواضع يعرف أن يتوارى ببساطة وفرح فتترسّخ ثقة النّاس به.

3. الأسقف هو أب ورأس الأبرشيّة، هذا لا يعني أن ينفرد بكلّ شيء ويتسلّط بعقليّة إكليروسانيّة، وأن يفكّر أنّ الأبرشيّة "دكّانه"، إنّما أن يكون أسقف المعيّة، يعمل مع الجماعة من خلال اختيار معاونين كفوئين له من الكهنة والعلمانيّين، وبالتّنسيق معهم خصوصًا في مجال الإدارة والأموال حتّى يتاح له المجال للتّعليم والتّبشير وتقديس النّفوس، هاجسه الأوّل.

4. يحسن قراءة علامات الأزمنة بحسٍّ نبويّ، ويوجّه حياة الرّعيّة الآن وهنا hic et nunc وليس ليقوم بممارسات محدّدة روتينيّة كما كان في السّابق، وحسب أنماط تقليديّة.

5. صفات أخرى أساسيّة مطلوبة اليوم:

- أن يكون ملمًّا بقوانين الكنيسة البطريركيّة وبقوانين الكنيسة الجامعة مع ما يستجدّ في هذا المجال باستمرار.

- أن يكون مستقرًّا نفسيًّا وحكيمًا باتّخاذ القرار الصّائب، ويشجّع المبادرات والنّشاطات وتكوين فرق عمل.

- أن يحبّ الجميع من دون استثناء، يجمع ولا يفرّق، يقرّب ولا يبعد.

- أن يكون مصغيًا للرّعيّة، مكرّسًا وقته لها، يهتمّ بالكلّ وخصوصًا بالّذين يحتاجونه أكثر.

-أن يكون منفتحًا على الكلّ، وعلى كلّ الثّقافات والأساليب، ولا ينغلق على نمط معيّن، فالانغلاق علامة الموت.

- أن يكون صاحب مبادرات، ولا يتحوّل إلى حارس نظام معيّن أو منفّذ للطّقوس، يبحث دائمًا عن الجديد المفيد والمغذّي.

- أن يكون مثقّفًا بدرجة عالية، وأقلّه يعرف لغة أجنبيّة،  يقرأ ليس لكي يواكب، بل ليكون في الطّليعة: يغذّي ثقافته بواسطة المطالعات والمشاركة في النّدوات والدّورات… ولا ينبغي أبدًا أن يتوقّف على المعلومات الّتي أخذها من المعهد لأنّها غير كافية وما هي إلّا مداخل.

- أن يكون رجل الصّلاة: للصّلاة أهمّيّة كبرى في حياته. إنّه مرتبط بالّذي يُرسله، فإذا استمرّ يعمل من دون أن يعود إلى الينبوع، سوف ينضب، أو يتحوّل إلى إداريّ (موظّف) عاديّ.

- أن يكون مستقيمًا وواضحً ودقيقًا في كلّ شيء (الحسابات) ولا يعمل شيئًا في الخفية، وليست له محاباة ولا صداقات ضيّقة، مشبوهة.

- أن يكون شفّافًا ومرهف الحسّ، لا يعامل الآخرين بترفّع. شخص متواضع يعرف ضعفه وحدوده.

من المؤكّد أنّه  ليس من السّهولة جمع كلّ هذه الصّفات، لكن أقلّه أن تكون الأساسيّة منها موجودة. من المؤسف أنّ بعض أبرشيّاتنا تعاني من الرّكود والمشاكل بسبب عدم كفاءة رعاتها!!

الرّعيّة صورة الأسقف

يقول مار أفرام الرّعيّة صورة الرّاعي. كما هو الأسقف هكذا تكون الرّعيّة. الأسقف هو الأب لبنات وأبناء رعيّته، وهو المسؤول عنهم، يعيش في سبيلهم ويوظّف كلّ إمكانيّاته من أجل بنيانهم، ونموّهم وسعادتهم وخيرهم. الرّعيّة هي عائلته الكبيرة، ولكلّ فرد من أفرادها مكانته، يسأل عنه ويتابعه سعيًا لاكتشاف دوره وبلورته وتنميته. عمله لا يتوقّف على الجانب الرّوحيّ فحسب، بل يمتدّ إلى كلّ الجوانب الأخرى للحياة: الإنسانيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، تأخذ كلّ مشاعره ووقته. يعيش في وسطهم ويهتمّ بهم ويتفاعل معهم معتبرًا إيّاهم إخوة وليس قطيعًا يقودهم. فنجاحه وعزّه يتوقّفان على سعادة أبناء رعيّته ورضاهم. كلّ شيء متوقّف على الرّوحيّة أو الدّافعmotivation  الّذي من أجله يعمل!".