العراق
04 أيار 2020, 13:30

البطريرك ساكو: كنيسة اللّغة أم لغات الكنيسة؟

تيلي لوميار/ نورسات
ردّ بطريرك بابل للكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو على الكلام الوارد في الآونة الأخيرة عن عدم تمسّك الكنيسة باللُّغة الكلدانيّة– السّورث في طقوسِها، والمنتقد "بقسوة استعمالنا اللُّغة العربيّة خصوصًا بسبب بثّ القدّاس عِبر فيسبوك البطريركيّة بسبب العزل الوقائيّ من تفشّي جائحة كورونا، وتعليق الصّلوات العامّة في الكنائس"، فكتب نقلاً عن موقع البطريركيّة:

"الكنيسة الكلدانيّة تستعمل اللُّغة الّتي يحكيها أبناؤها أينما وِجدوا، فمثلاً في كلّ قرى سهل نينوى وإقليم كوردستان وقرى إيران وتركيا نستعمل "الكلدانية– السّورث" للقدّاس، ولكن هناك  كلدان يتكلّمون فقط العربيّة في الموصل وبغداد وكركوك والبصرة وسوريا ولبنان، ومن حقّهم أن يفهموا طقوسنا ويشتركوا فيها وإلّا خسِرناهم. كذلك من حقّ مواطنينا العرب الّذين يرغبون في الاطّلاع على صلواتنا أن يُتابعوها بلغتهم! من هذا المنطلق وللمرّة الأولى في تاريخ كنيستنا قمنا بطبع رُتب القدّاس المؤوَّنة بالسّريانيّة والعربيّة والكلدانيّة– السّورث والإنكليزيّة، وسوف تُترجم لاحقًا إلى الفرنسيّة والألمانيّة والسّويديّة والفلامكنيّة وإلى لُغات أخرى. اليوم لا يمكننا التّصرّف كما كنّا في السّابق حيث كان 90% من الكلدان في العراق، والغالبيّة منهم يتكلّمون السّورث!

إنّنا نعتزّ بكلدانيّتِنا وتراثِنا، لكنّنا أنا والأساقفة والكهنة مكرَّسون لحمل رسالة المسيح الجامعة إلى كلّ أبناء الكنيسة، ليس في العراق فحسب، بل في كلّ مكان، ومساعدتهم على فهم إيمانهم وعيشِه، كلّ بحسب لغة بلادِه. هذه هي الدّعوة الّتي دعانا الله إليها ونجتهد لتحقيقها.

تؤكّد الكنيسة الكلدانيّة أنّ اللّغة وسيلة، وليست الهدف، الهدف هو رسالة المسيح وهو أولويّتها. أمّا موضوع اللّغة والتّراث فهو مسؤوليّة المجتمع المدنيّ الكلدانيّ. على العلمانيّين الكلدان وأخصّ بالذكر الأكاديميّين والسّياسيّين والنّشطاء المدنيّين والقوميّين (وليس القومجيّين)، أن يخلقوا مؤسّسات لغويّة وتراثيّة وفولكلوريّة واجتماعيّة وقوميّة وسياسيّة وإعلاميّة، ونوادٍ اجتماعيّة ورياضيّة، كما فعل الإخوة الآشوريّون والأرمن،  بتأسيسهم أحزابًا ومحطّات إذاعة وتلفزيون وفرق فولوكلوريّة! على الكلدان تحمُّل مسؤوليّاتهم وتقديم تضحيات، وليس إلقاء اللّوم على الكنيسة!

التّعصُّب والتّحيُّز والجهل هي من أهمّ أسباب عدم تقدّم أيّ مجتمع ومؤسّسة. التّعصّب- التّطرّف يُحنِّط الإيمان في منظومة "الموروث" وتراكم "الأدبيّات القديمة!" نفتخر بتراثنا لأنّه درسٌ لنا، لكن التّراث ليس تُحفًا في المتاحف. أملنا كبير بأن يتخلّص مؤمنونا من فايروس كورونا، ومن فايروسات تطرُّف العقل والرّوح، ويفكّروا جدّيًّا في الإعداد لمستقبل أفضل.

تراث كنيسة المشرق بفرعيها "الكلدانيّ والآشوريّ" لا يتوقّف عند اللّغة وحدها، إنّما تراثها أرض وفكر وثقافة وأدب وخطٌ لاهوتيٌّ وروحيٌّ وقانونيٌّ متميّز، رسمته الكنيسة عبر تاريخها الطّويل، حتّى يتمكّن المسيح من الدّخول إلى قلوب مؤمنيها عِبر تجسّده وقيامته. هذا يجب أن نفهمه وأن نحافظَ عليه في التّأوين والتّرجمة لأنّ تراثنا جزءٌ أساسيّ من ثَراء الكنيسة الجامعة.

التّقدّم العلميّ والثّقافيّ والاجتماعيّ المتسارع، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ ونقاشات فلسفيّة ولاهوتيّة عميقة، هي واقع يجب أن نقبل به حتّى على الصّعيد الدّينيّ. التّجديد ضرورة لأنّه يبعث الأمل عند المؤمنين ويقوِّي تعلقهم بقيم الإيمان والحبّ والسّلام والحياة والكرامة، وعلى المرجعيّات الدّينيّة ألّا تتهرَّب من مسؤوليّتها.

 

اللُّغة وسيلة

ولدت المسيحيّة في فلسطين وعبَّر عنها المسيح في اللّغة العبريّة وكذلك الرُّسل الأوائل، قبل أن ينتقلوا إلى خارج فلسطين للتّبشير بها. وفي أنطاكيا أطلقت تسمية "المسيحيّين" لأوّل مرّة على أتباع يسوع. وبعده  انتشروا في الشّرق والغرب. في الشّرق استعملوا في الغالب اللّغة السّريانيّة وفي الغرب اللّغتين اليونانيّة واللّاتينيّة. وبمرور الزّمن ضمَّت الكنيسة في أحضانها شعوبًا ولغات متنوّعة، وتبنَّتها في تعليمها وطقوسها حتّى تُجسِّد رسالة المسيح في وسط الشّعوب المختلفة.

خلال سينودس 2010 من أجل الشّرق، طلبنا أن يتبنّى الكرسيّ الرّسوليّ رسميًّا اللّغة العربيّة كإحدى اللّغات الرّسميّة له، وحصل ذلك بالفعل.

ومنذ مجيء المسلمين إلى هذه المناطق واستحواذهم على الحكم، برزت الحاجة في كنيسة المشرق إلى استعمال اللّغة العربيّة. وقد استخدمتها أوّلاً مع القبائل المسيحيّة العربيّة في إمارة الحيرة. ثمّ تشكّل رويدًا رويدًا في زمن العبّاسيّين أدب مسيحيّ عربيّ ثريّ في مجال الطّقوس والحوار اللّاهوتيّ مع المسلمين والتّاريخ والفقه والعلوم الأخرى. هذه طبيعة الكنيسة بتبليغ رسالتها للنّاس وفقًا لطلب المسيح: "اذهبوا إلى العالم كلّه، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مرقس 16 / 15).  يقول القدّيس أغسطينوس The church must always be reformed أيّ أن تكون الكنيسة في تفكير مستمرّ وتأوين وبحث مستدام عن إيجاد لغة بسيطة ومفهومة في خطابها اللّاهوتيّ واللّيتورجيّ والرّاعويّ لمساعدة المؤمنين على فهم غنى إيمانهم وعيشِه بفرح وقوّة، في تفاصيل حياتهم اليوميّة المعقّدة.

توجد لغة رسميّة للكنيسة الكلدانيّة، ولكن لها لغات أخرى لكون رسالتها جامعة. هذا ما فهمه آباؤنا في الإيمان.

لم تتشكّل الطّقوس دفعة واحدة، وإنّما برزت ملامحها ونصوصها شيئًا فشيئًا بمرور الزّمن، وأعطت الكنيسة الحرّيّة لرجال الإكليروس ولغيرهم أن يُبدعوا فيها. وعُقِدت مجامع وتبنَّت الكنيسة فيها ما كان ملائمًا لزمانها كما فعل مار ابَّا الكبير، وايشوعياب الثّالث وطيمثاوس الأوّل والثّاني، وإلى اليوم.

لقد تبنَّت كنائس عديدة دعوة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، لتكون الكنيسة في إصلاح دائم لخيرها وخير مؤمنيها (الدّستور العقائديّ الكنيسة "نور الأمم" رقم: 8)، لكن تأخّرت كنيستنا عن الرّكب.

يُحفِّز الإصلاح على الإبداع وابتكار طُرق وأساليب جديدة تحافظ على الأصالة والثّوابت وتكون في الوقت عينِهِ أمينة للنّاس المعاصرين كي يكتشفوا الحضور الإلهيّ في طقوسنا وصلواتنا والمشاركة فيها وتواصلها في شهادة حياتهم.

إنّي متيَقنٌ بأنّ هذا سيحصل، وبفعل الرّوح القدس الّذي يقود الكنيسة بمواهبه المتنوّعة، وثمّة علامات عديدة لهذا الحضور. والشّكر لله".