العراق
15 حزيران 2021, 08:45

البطريرك ساكو: العيش المشترك في العراق كان مشرقًا، فلنعد إليه

تيلي لوميار/ نورسات
حدّد بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو نقاطًا تسمح للعيش المشترك أن يعود أكثر قوّة في العراق، فكتب في مقال نشره موقع البطريركيّة الرّسميّ ما يلي:

"التّعدّديّة والتّنوّع والاختلاط والعولمة ظاهرة عالميّة، لذا يشكّل موضوع العيش المشترك الهاجس المشترك والمحوريّ للشّعوب، بكونه ضمان وحدة تعدّديّة المجتمع، وتنوّعه، وتماسك اللّحمة الوطنيّة، والعيش معًا بتفاعل وتناغم. ضروريٌّ البحث عن القواسم المشتركة الّتي تساعد على فهم الآخر وتقييمه واحترامه، وتجنّب البحث عن الاختلافات الّتي تُوسّع الخلافات والانقسام.

موضوع العيش المشترك وتعزيز قيم الاعتدال والتّسامح والاحترام ليس عمليّة ترويج شعارات  “slogans”، بل هو عمليّة تنشئة مستدامة للنّاس وبناء مؤسّساتيّ. هناك الكثير ممّا يجب القيام به في مسائل الدّولة المدنيّة والمواطنة، والعدالة الاجتماعيّة، والمصالحة.  

العراق جامع للحضارات

كانت بلاد ما بين النّهرين (العراق) مهد الحضارات والفكر، كالحضارة السّومريّة والأكديّة والكلدانيّة- البابليّة والآشوريّة والفارسيّة والعربيّة والمسيحيّة والإسلاميّة. فيها ولدت أولى الكتابات، ومنها انطلقت أولى الدّيانات التّوحيديّة مع إبراهيم الخليل. العراق كلّه متحف كبير. هذه الحضارة الأُمّ ينبغي أن تتواصل اليوم وتتفاعل مفرداتُها القيميَّة وتتعزّز.

في العراق الحديث عاش العرب والكورد والتّركمان والأقلّيّات الأخرى، والمسلمون والمسيحيّون والصّابئة والايزيديّون جنبًا إلى جنب بتسامح وأمان لأنّهم كانوا يشعرون بانتمائهم إلى أرض واحدة، ولهم صلات القرابة واللّغة والإيمان بالرّغم من اختلاف الدّين. لم يكونوا ينظرون إلى بعضهم البعض كمواطنين مختلفين، بل كإخوة متنوّعين ومتّحدين. ولم يكونوا يسألون عن الدّين والمذهب والطّائفة والقوميّة. كانوا كلّهم يشكّلون شعبًا واحدًا يحتضنهم الوطن الواحد، ساهموا في بنائه وازدهاره. هنا أحبُّ أن أشير إلى إسهام المسيحيّين الكبير في التّراث العربيّ في زمن العبّاسيّين والعراق الحديث.

يتحسّر اليوم العراقيّون على أيّام زمان، لأنّهم يشعرون بأنّ ذهنيّة المحاصصة والإقصاء الدّينيّ والمذهبيّ والعرقيّ والفوضى السّياسيّة، خرَّبت وطنهم، وفكَّكت مجتمعهم، وأربكت مستقبلهم ومستقبل وطنهم. يتمنّون أن تكون لهم الإرادة والقدرة لاستعادة العيش المشترك الّذي فقدوه.

كيف يعود العيش المشترك أكثر قوّة وتماسكًا؟

أطرح هذه الأفكار للتّفكير والتّحليل من أجل البحث عن أسباب الفرقة والتّشتّت، ومن أجل التّشجيع على إيجاد سبل المعالجة لإرساء قاعدة سليمة والارتقاء بالعيش المشترك ليكون سلوكًا طبيعيًّا للعراقيّين فيعيشوا بوئام:

1. 1. الإستفادة من مخرَجات زيارة البابا للعراق. خطابات البابا فرنسيس خلال زيارته للعراق 5-8 آذار 2021 شدَّدت على أنّنا أخوة متّحدون بتنوّعنا. ودعت لتصمت أصوات الأسلحة، وألّا يقوم إنسان بقتل آخر بإسم الدّين، وحان وقت السّلام السّلام السّلام. هذه الرّسائل إلى جانب وثيقة الأخوّة الإنسانيّة (أبو ظبي، 4 فبراير 2019) الموقّعة بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر د. أحمد الطّيّب من أجل السّلام العالميّ والعيش المشترك، فضلاً عن قول المرجع الشّيعيّ الأعلى آية الله العظمى السّيّد علي السّيستاني في 6 آذار 2021 للبابا: أنتم جزءٌ منّا ونحن جزءٌ منكم، هذه المواقف والتّصريحات تشكّل قاعدة أساسيّة للعيش المشترك. فالكلّ مدعوّ للعمل على بلورتها وإرسائها، خصوصًا وأنّ دولة رئيس الوزراء العراقيّ السّيّد مصطفى الكاظمي أعلن أن يكون يوم 6 آذار من كلّ عام يوم التّسامح والوئام.

2. 2. نبذ الأصوليّة بكلّ أشكالها. الأصوليّة ليست الأصالة، أيّ العودة إلى الجذور الممتازة. الأصوليّة تعني التّعصّب والتّطرّف، وغدَت إيديولوجيّة خطرة. الأصوليّة غالبًا ما تستعمل الدّين غطاءً للوصول إلى مصالح سياسيّة وماليّة. الأصوليّة تؤمن بلون واحد، وترفض التّعدّديّة وتحرّض على إلغاء الآخر. الأصوليّة غريبة عن طبيعة العراقيّين وحضارتهم المتَّسمة بالتّعدّديّة وقبول الآخر باحترام. لذا لا بدّ من تفكيكها عبر وسائل التّنوير للرّسالة الدّينيّة السّمحاء. وهنا اُشدّد على دور علماء الدّين ورجاله في جعل الدّيانات جسرًا للتّفاهم والاحترام المتبادل والمصالحة والسّلام والاستقرار في المنطقة والعالم.

3. 3. إصلاح القوانين. إصلاح القوانين القديمة ضروريّ، وثمّة حاجة إلى سنّ قوانين جديدة خصوصًا ما يتعلّق بالأحوال الشّخصيّة وحرّيّة المعتقد لتتلاءم مع الواقع الدّينيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الّذي يعيشه المجتمع المعاصر.

4. 4. التّربية البيتيّة والمدرسيّة. خلق بيئة معتدلة، سليمة ومتكاملة، ينمو فيها الأطفال في البيت، والطّلّاب في المدرسة تساعدهم على تطبيق تعاليم دينهم بثقة، واحترام ديانة زملائهم على أساس الأخوّة والمواطنة والقيَم الّتي ذكرناها. وكما قال البابا فرنسيس: "مهمّ جدًّا أن يتحلّى الطّالب بضمير حيّ".

أمّا التّربية المدرسيّة فيمكن اعتماد شرعة حقوق الإنسان العالميّة كقاعدة أساسيّة للعيش المشترك لمناداتها بالحرّيّة والعدالة والمساواة. وتدريب الطّلّاب عليها عبر ورشات مختلطة، للحيلولة دون الانجرار وراء التّعصّب والتّشدّد والكراهيّة، واستخدام كرّاس للأخلاق العامّة وتعريف الدّيانات بإيجابيّة كما هو معمول في العديد من دول العالم.

5. وسائل الإعلام. الإعلام رسالة وليس إثارة. الإعلام المسؤول والمتّزن يركّز على المشتركات الوطنيّة والاجتماعيّة ويقلّل الكلام عن الخلافات، فيخلق ثقافة ووعيًا خصوصًا عندما يقدّم المعلومة الصّحيحة بمهنيّة عالية.

5. 6. التّربية الرّوحيّة في الجوامع والكنائس. وسط ما يعيشه مجتمعنا من تشظّي وتشتّت يتعيّن على القيادات الدّينيّة إبراز غنى المجتمع المتنوّع دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. ثمّة آيات من الكتاب المقدّس والقرآن الكريم تدعم هذا التّوجّه، ينبغي إبرازها في المناهج الدّينيّة لأنّ جوهر الدّين هو الإيمان بالله والمعاملة الحسنة. للبعد الرّوحيّ أهمّيّة بالغة في حياة النّاس، ويؤثّر على علاقتهم ببعضهم. هذه العلاقة الرّوحيّة السّليمة ستسهّل العيش المشترك في بلد متعدّد الأديان على أساس أنّهم جميعًا إخوة وأبناء لخالقٍ واحدٍ أوجدهم مختلفين. وتصميمه أن يعيشوا معًا بالتّسامح والمحبّة والتّضامن لتستقيم الأمور.

حبّذا أن تقتني المدارس والعائلات نسخة من كتاب تعريف الدّيانات في العراق بشكل منهجيّ وإيجابيّ أعدّته لجنة مشتركة من فريق الحوار المسيحيّ الإسلاميّ. وقد ذكر معالي وزير الثّقافة د. حسن ناظم وهو عضو في اللّجنة أنّ الكتاب جاهز للطّباعة."