البطريرك ساكو: الروحانيّة المسيحيّة بحاجة الى الصّحوة
"فَقَدَ معظمُ المسيحيّين اليوم، البعد الرّوحيّ في أولويّاتهم، بالرّغم من كونه أساسيًّا، وينبغي أن يَظلَّ أوّل الأولويّات.
هذا هو التّحدّي الأبرز لنا كرعاة. لذا علينا أن نبحث عن لغة تناسب زماننا ومعاصرينا، الّذين تغيّروا كثيرًا بتأثير العلمانيّة الّتي تعدّ القيم الدّينيّة نسبيّة وأقلّ أهمّيّة، ودور وسائل التّواصل الاجتماعيّ والحجر المنزليّ بسبب جائحة كورونا فصرنا أمام ثقافة مختلفة، وعالم افتراضيّ مخيف. خطابُنا التّقليديّ وبراهيننا النّظريّة لم تعُد تؤثّر فيهم. لذا يتحتَّم علينا أن نهتمّ بالتّنشئة المسيحيّة الشّاملة، عبر إرساء البنيّة التّحتيّة الإيمانيّة والرّوحيّة والإنسانيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة بلغة جذّابة ومفهومة وبصوابيّة مقبولة، وإيجاد أدوات فعّالة تشجّع على عيشها، وخصوصًا أنّ المسيحيّة ليست عصيّة على التّأوين والحداثة. حتّى يغدو الإنسان المسيحيّ شخصًا مبدعًا ومؤثّرًا وناجحًا في محيطه. هذه نقطة رئيسيّة في خدمتنا الرّسوليّة، لهذا السّبب أرتأيت أن أقدّم خلاصة للرّوحانيّة المشرقيّة عساها تنفع لهذا التّأوين الضّروريّ اليوم.
روحانيّة كنيسة المشرق
الإنسان تركيب عجيب (الأنتروبولوجيا)
أفلاطون وأفلوطين: الإنسان جسدٌ ونفسٌ وروحٌ. ويُعَدُّ الرّوح العنصر الحيويّ الخالد. هذه الثّلاثيّة منتشرة عند الآباء الشّرقيّين.
أرسطو: الإنسان جسد ونفس على قاعدة ثنائيّة المادّة والشّكل. إعتمدها اللّاهوتيّون الغربيّون. هذه ثقافات وطرق مختلفة، لكن الحقيقة هي أنّ الإنسان واحدٌ في كلتي الحالتين، واحدٌ بكُلِّيته integrity. له بعدٌ روحيّ واجتماعيّ فعّال وخلّاق، وليس مجرّد كائن استهلاكيّ.
الكتاب المقدّس
في العهد القديم، الإنسان صورة الله ومثاله (تكوين 1/ 26). في العهد الجديد، الإنسان ابن الله، "الّذين آمنوا باسمه مكَّنهم أن يَصيروا أبناء الله" (يوحنّا 1/ 12). وصلاة المسيحيّين تبدأ بـِ"أبانا الّذي في السّموات" (متّى 6/ 9). من هذا المنطلق نستعمل في القدّاس الكلدانيّ عبارتي (الوجوه المكشوفة – ܐܦܐ̈ ܓܠܝܬܐ) و(الدّالّة البنويّة– ܦܪܝܣܝܐ)، في وصف العلاقة مع الله.
في الإسلام: الإنسان عبدُ الله.
جهد الإنسان: خلق التّناغم
أمام نزعة الانفصال والاستقلال والقطيعة، الإنسان العاقل يُحارب الشّرّ (الفوضى)، وينجح في خلق التّوازن والانسجام والوحدة والتّناغم في داخله، ويعكسه في العلاقة مع الخارج فيتمتّع بالسّلام والفرح.
يقدّم لنا الكتاب المقدّس مثال آدم وحوّاء عندما انجرّا إلى نزعة الانفصال– الاستقلاليّة، تعرَّيا من تناغمهما الطّبيعيّ (تكوين فصل 3)، وكذلك الابن الضّالّ في انجيل لوقا (فصل 15) فقدَ بنوَّته، وصار عبدًا لشهواته الّتي لا تُشبع.
التّوبة. الخطيئة هي الانفصام، أيّ فقدان التّوازن. التّوبة محاولة لاستعادة الوحدة الدّاخليّة والتّناغم والعلاقة. يقول إسحق النّينويّ (القرن السّابع): "إنّ التّوبةَ هي السّفينة، والمخافةَ رُبَّانُها، والحبَّ هو الميناء الإلهيّ. تُركبنا المخافةُ في سفينةِ التّوبة وتَعبُر بنا البحرَ النَّتنْ لهذا العالم، وتوصِلنا إلى الميناء الإلهيّ الّذي هو الحبّ؛ ومن هذا الميناء نَنظرُ إلى جميعِ الأتعابِ الشّاقَّة الّتي هي في التّوبة. لأنّنا ما أنْ نصلَ إلى الحبّ حتّى نكون قد وصلنا إلى الله"1.
الإنسان في نظر الآباء المشرقيّين.
الإنسان في نظرِ الآباء ثُنائيّ بشكل عامّ: جسد ونفس. وأحيانًا ثُلاثيّ: جسد ونفس وروح، لكنّه واحدٌ في كلِّ الأحوال، فالجسد يشير إلى الإنسان بكلّ أوجهه، وكذلك النّفس. يقول ططيانس (+189): خلقه الله بفعل حرّ ومجّانيّ وليس بالمصادفة (الخطاب7). ونرساي (+503) "خلقه ذكرًا وأنثى، وهو مركز الخليقة" (المقالة الثّانيّة).
الطّبيعة (كيانا ܟܝܢܐ)، هي الطّبيعة الأصيلة: الكون، والجنس البشريّ والطّبيعة الشّخصيّة، الّتي خلقها الله صالحة في حدِّ ذاتها: "ورأى الله إنّ كلَّ شيٍء كان حسنًا" (تكوين 1/4 – 10). الإنسان مدعوٌ إلى التّسامي- الارتقاء (ܠܥܠ ܡܢ ܟܝܢܐ فوق الطّبيعة)، أيّ إلى البنوَّة الإلهيّة، بينما الخروج عن الطّبيعة (ܠܒܪ ܡܢ ܟܝܢܐ)، هو نزع الإنسانيّة والبنوَّة الإلهيّة (افراهاط الحكيم+346). يقول مار أفرام: "إنّ الشّرّ، يكمن بكلّ وضوح، في استعمال الإنسان للحرّيّة، فآدم والشّيطان بحريَّتهما وإرادتهما أدخلا الشّرّ" (ضدّ البدع 22/7). وفي مكان آخر يقول "إنّ الإنسان لا يحصد إلّا الخير الّذي يزرعه" (البتوليّة 34/15). ويؤكّد برديصان (+ 222) أنّ "الصّلاح من طبيعة الإنسان، والشّرّ شذوذ" (شرائع البلدان عمود 533).
مصطلح الرّوحانيّة
تشير الرّوحانيّة في المفهوم المسيحيّ إلى الرّوح القدس، روح الله. هذا واضح من قول يسوع "روح الرّبّ عليَّ" (لوقا 4/ 8)، كذلك تشير إلى الجزء الأعمق في الإنسان.
الرّوحانيّة مشروع تقديس حياة بأكلمها، يُتيح المجال للرّوح القدس أن يُدخل تدريجيًّا شيئًا من عالم الله (الحياة الإلهيّة) إلى حياتنا الطّبيعيّة، لنتّحد به ونتحوّل إليه. يقول يسوع: "خذوا الرّوح القدس" (يوحنّا 20/ 22)، نأخذه ليُعطينا شيئًا من قداسته وقوّته وخلوده، ولهذا نُرتِّل: "قدوسٌ الله، قدّوسٌ القويّ، قدّوسٌ الّذي لا يموت، ارحمنا". للتّجاوب مع الرّوح القدس يحتاج المؤمن إلى النّور الإلهيّ حتّى تكون "عينه الدّاخليّة" مستنيرة. يقول مار أفرام: "العين الّتي تستطيع أن ترى الأشياء المحجوبة" (أناشيد الإيمان 65/ 10). يتكلّم الغربيّون عن الحبِّ الإلهيّ في الرّوح القدس، والشّرقيّون عن الحياة الإلهيّة.
ثمّة طريقتان للرّوحانيّة المسيحيّة: الأولى حفظ الوصايا ومن خلالها يمنح الرّوح القدس النّعمة ليحيا المؤمن في حضور الله في أعماقه، ويقدّس حياته. والطّريقة الثّانية هي التّكريس الرّهبانيّ في عيش العفّة والفقر والطّاعة. وما التّصوّف إلّا وجود الله في قلب الإنسان. تقول هذه التّرتيلة المتداولة في كنائسنا:
سلمتُ قلبي، خصّصتُ حُبّي قدّمتُ ذاتي، لك يا ربّي
أنا لك، كلّي بجُملتــــــــــي وأنت لي هنا في غربتي
الفعاليّات الّتي ينبغي أن يتمرَّن عليها المؤمن كالرّياضيّ هي: الصّلاة والصّمت، والتّأمّل وقراءة معمّقة للكتاب المقدّس وشيء من الرّهد وخدمة المحبّة. الرّوح، القلب، الفكر، الجسد، عناصر أساسيّة في الرّوحانيّة.
الرّوحانيّة مشروع إلهيّ وإنسانيّ. فيها تظهر كلُّ الأشكال الّتي يُجسِّد فيها الإنسان حضور الرّوح القدس فيه. الرّوحانيّة حياة إلهيّة، أيّ الحياة في الثّالوث، تُحقّق فينا صورة الله عبر ابنه يسوع المسيح، وبفعل الرّوح القدس.
المسيح في الرّوحانيّة المسيحيّة هو المثال الرّئيسيّ archetype لنقتدي به. مثالٌ حسّيّ ( واقعيٌّ)، وليس نظريّ، هو صورة الله والإنسان. في القدّاس الكلدانيّ: "مثال الله والإنسان". لقد جعل الله الآب معرفة مجده في "وجه يسوع المسيح" (2 قورنثيّة 4/ 6). جاء في موشّحات سليمان القرن الرّابع: "صار شبيهًا بي، لكي استقبله. بالشّكل صار مثلي، لاتَّشِح به، لم أخفْ لما رأيته، لأنّه صار لي من يُحبُّني بحنانه" 2.
نستلم "الرّوح القدس" ونختبر حضوره فينا لكي نسلّمه بدورنا إلى الآخرين. والسّؤال المطروح علينا هو: كيف نُعدّ أنفسنا لهذا الاستقبال، والتّفاعل معه حتّى تتغيّر حياتنا؟ ثمّ كيف نقدر أن نشهد لهذا الاختبار الّذي هو أحلى ما في حياتنا، للآخرين ونشجّعهم على اختباره.
المسيحيّون الاوائل والرّوحانيّة
فَهِم المسيحيّون الأوائل أنّ الرّوحانيّة هي اتّباع يسوع في كلّ ما عمله، لكي يكونوا "حنطة" لا "زؤانًا" (متّى 13/ 14-30)، ونورًا لا ظلامًا وموتًا كما جاء في كتاب ديداكيه (نحو سنة 100) الّذي يعدّد محطّات طريق النّور (2/ 2-10).
من هذا المنطلق العمليّ تتقدّم الرّوحانيّة المسيحيّة بشكل بسيط عبر تطبيق الوصايا، وأوّلها وصيّة المحبّة "بهذا يعرفون أنّكم تلاميذي" (يوحنّا 13/ 35).
لم يفتأ آباء الكنيسة عن التّأكيد على المحبّة. يقول سهدونا: "أرأيتَ كيف أنّ كلَّ القداسة الّتي تأتي من حفظ الوصايا، تكتمل بالمحبّة؟ وكيف أنّ من له المحبّة، يُصبح هيكلاً للثّالوث الأقدس، ويتمتّع بالمشاهدة الإلهيّة contemplation بشكل خفيّ؟ فطوبى لمن هو جديرٌ بهذه المشاهدة" 3.
آباء الكنيسة الشّرقيّون بعيدون عن تنظير وبلاغة الفلاسفة اليونان. إنّهم ينتقدون الّذين يتفحّصون الأمور ويُعلّلونها، ولا يكتفون بالأعمال الصّالحة. يقول يعقوب السّروجيّ (+520): "على النّفس العاقلة أن تندهش أمام المسيح لأنّه المعجزة، وأن تكفَّ عن التّفحص" (الرّسائل ص 73).
يميل اليونان بسهولة إلى التّأمّل النّظريّ Theory والمشرقيّون إلى الممارسة praxis. بالنّسبة لأفغاريوس البنطيّ (+399) حفظ الوصايا هو المرحلة الأولى من المسيرة الرّوحيّة. هدفها تنقيّة النّفس، وتَحييد الحواس، وعدم التّأثّر بالأهواء الشّريرة، للبلوغ الى ملءِ المحبّة، أيّ الحبّ النّقيّ وليس الحبّ الأنانيّ. هنا يشدّد الآباء على أهمّيّة المواظبة حتّى النّهايّة.
يعتبر الرّوحانيّون الأوائل واللّاهوتيّون الجسد بؤرة فساد. وبناء عليه ينبغي تحييده وتشفيفه لتحرير الرّوح الّذي يُعدّ العنصر النّقيّ والخالد. هذا غير مقبول، لأنّ جسدي هو أنا، لكن عليَّ أن أسيطر عليه. وراحوا يدعون إلى الانعزال في خلوة داخليّة وخارجيّة لتعميق العلاقة مع الله وتعزيز الشّركة معه بناءً على قول الإنجيل: "أمَّا أنتَ فمتى صلّيتَ، فأدخل إلى مخدعك وأغلق بابَك" (متّى 6/ 6)، ودعوة يسوع: "هلمَّ وانظر" (إنجيل يوحنّا 1/ 46)، أيّ الاتّصال المباشر به، والبقاء معه وبقربه للتّتلمذ على يده.
تتيح هذه التّمارين للإنسان التّأمّل في الطّبيعة (كيانا) ليكتشف الكلمة Logos علّة كلّ المخلوقات "في البدء كان الكلمة... به كان كلّ شيء" (يوحنّا 1/ 1-2). ويتخطّى الرّوحانيّ الطّبيعة إلى الرّوح، أيّ من الصّور الحسّيّة إلى اللّاهوت، ويتأمّل عبر نور العقل في الثّالوث. والبرنامج الّذي يقترحه الآباء هو: أهرب، أسكت، إهدأ. يقول ابراهيم النّثفريّ: "هناك صمت اللّسان، وصمت الجسد، وصمت الحواس، وصمت العقل، وصمت الرّوح. صمت الرّوح هو عندما لا تستقبل إغراءات الأرواح المخلوقة، بل تبقى مطبوعًا بالكائن الأزليّ نفسه، وتستجيب لنداءاته" (آبآونا السّريان ص 252).
يركّز الرّوحانيّون على انتباه الفكر ويقظة القلب، أيّ الوعي الرّوحيّ. القلب هو مركز العواطف، لذا وجوب صونه من الأفكار غير النّافعة.
من المؤسف أنّ هذه النّزعة أخذت منحى مبالغًا به عند تيّار المصلّين (ܡܨܠܝ̈ܢܐ) في القرن السّادس، الّذين لا يستسغيون أيّ نعمة إن لم تكن محسوسة ومدرَكة. صحّح مكاريوس المنحول أخطاء المصلّين في مواعظه، لكنّه احتفظ بأهمّيّة الشّعور بالأمور الإلهيّة. أهمّيّة هذه العمليّة هي في تمييز الأرواح وتحليل التّعزيات والأحزان. رشقهم البطريرك حزقيال بالحرم في مجمع سنة 576.
ثمّة انطباع عن إهمال الرّوحانيّين المشرقيّين للرّسالة– التّبشير. هذا غير صحيح فالأديرة لم تنسَ أبدًا خدمة المحبّة والتّعليم، واحتضان الغرباء (ܐܟܣܢ̈ܝܐ). جاء في القانون 7 لسينودس البطريرك اسحق سنة 410: "ينبغي أن يشيد في كلّ الكنائس دارًا لاستضافة الغرباء" كما اهتمّوا بالتّراث ونسخ المخطوطات.
المشاركة في الحياة الإلهيّة
طبيعيٌّ أنّ هذه المشاركة ليست في مستوى طبيعة الله وجوهره (الأنتولوجي)، إنّما في المستوى الرّوحيّ. إنّها تختلف عن كمال قداسة الله، "أنت وحدك قدوس" (الرّؤيا 15/ 4). هذه المشاركة هِبة (نعمة) من الله لاكتساب الفضائل. في القدّاس الكلدانيّ نُجيب، عندما ينادي الكاهن "القدس يليق بالقدّيسين بالكمال: الآب وحده قدّوس، الابن وحده قدّوس، الرّوح وحده قدّوس". يبقى واضحًا الفرق بين المستويين، كما يعلن المجمع اللّاترانيّ الرّابع: "إن كان ثمّة شبه بين الخالق والخليقة، فالفرق أكبر". الرّوحانيّة المشرقيّة ترتكز على سرٍّ الله، نتذوّق شيئًا من "أسرار بيت الله"4 .
بحكم أنّ الإيمان المسيحيّ هو الإيمان بالله الثّالوث، هذا يعني أنّ كلَّ النّعم تصدر من الآب، بواسطة الابن، وبفعل الرّوح القدس الّذي تصفه صلواتنا بـِ"الرّوح المحيي". بهذا الاتّحاد يبلغ المؤمن كمال دعوته.
المسيحيّون القدامى لم يعرفوا سبيلاً آخر للاتّحاد بالله سوى الارتقاء بنعمة الرّوح القدس عبر مراحل تطهير الذّات والاقتداء بالمسيح الإله والإنسان. يقول بولس "حياتي هي المسيح" (فيليبي 1/ 21). الحياة الرّوحيّة الأصيلة ليست شيئًا آخر غير الحياة في المسيح ومعه.
النعمة
عندما يتكلّم آباء اليونان الأوائل عن النّعمة، إنّما يتكلّمون عن مواهب الرّوح القدس. المشرقيّون يتكلّمون عن النّور الإلهيّ: "أشرق النّور على الأبرار والفرح على مستقيمي القلوب" (مار أفرام).
عمل الرّوح القدس هو الاندماج في المسيح عبر تنقيّة الذّات من الخطيئة، وحفظ الوصايا. الرّوح القدس يمنح القوّة للقيام بهذا الجهد. هذا التّحوّل نشاهده في الإفخارستيّا (القدّاس) "ليأتِ روحك القدّوس ويحلّ على هذه القرابين ويباركها ويقدّسها ويحوّلها إلى جسد المسيح ودمه لغفران الخطايا والخلاص ونيل الحياة الأبديّة" (القدّاس الكلدانيّ). هذا التّحوّل هو من أجل أن يتحوّل من يتناول القربان إلى المسيح.
الحياة الأبديّة
يصف الكتاب المقدّس الله أنّه "الحيّ" ويمنح الحياة.
تُفهم الحياة الأبديّة بمعنيين:
الحياة بعد الموت وهو المفهوم الشّائع.
الحياة الّتي يمنحها المسيح للمؤمنين منذ الآن (قولسي 3/ 3)، "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنّك الإله الحقّ وحدك والّذي أرسلته يسوع المسيح" (يوحنّا 17/ 13). هذه معرفة خبرة حياتيّة كما يفهمها الكتاب المقدّس، وليست معرفة نظريّة.
المسيحيّ متّحد بالمسيح بالمعموديّة. الرّوح القدس يجعل الإنسان في المعموديّة إبنًا لله في المسيح. الحياة الرّوحيّة تبدأ من المعموديّة وصعودًا حيث يرفعنا الرّوح القدس إلى الله ، لنشاركه حياته الإلهيّة خصوصًا في الإفخارستيّا. المسيح هو الرّأس نتّحد به، ويتّحد بنا، ونتّحد ببعضنا. هذا الاشتراك عربون الحياة الأبديّة واستذواق لها. يقول يوحنّا الدّلياتي: "نحن كلّنا بوجوه مكشوفة، نرى مجد الله كما في المرآة. ونتحوّل إلى تلك الصّورة، من مجدٍ إلى مجد حسب فعل الرّوح القدس. هو الّذي أشرق في قلوبنا لكي نستنير بمعرفة مجد الله الّذي على وجه المسيح" ( الرّسالة 50/ 19 و39/ 1).
الخلاص هو موضوع كرازة يسوع (الإنجيل). أجاب يسوع على سؤال الشّابّ: كيف أرث الحياة الأبديّة: “واحدة تنقصك، اذهب وبِع … وتعال اتبعني" (لوقا 18/ 18-23). التّخلّي عن كلّ شيء وعن ذاتنا وتسليمها لله لتكون لنا معه علاقة وجدانيّة تقوم على الحبّ والانجذاب والانبهار. هو كنزنا وعليه نراهن حياتنا، هو "يكفينا"، وعلينا بالتّالي أن نكون مستعدّين لاستئصال كلّ ما يعيق دعوتنا: عينًا كانت أو يدًا أو رِجلًا (متّى 5/ 29-30)، أو مالًا أو منصبًا أو صداقةً!
ليس للرّوحانيّة المسيحيّة هدف آخر غير الخلاص. يشدّد معظم الآباء أنّ الطّريق للخلاص هو الاندماج في المسيح. جاء في موشّحات سليمان "لأنّي أحبّ ذلك الابن، صرت إبنًا. من انضمّ إلى من لا يموت، صار هو أيضًا غيرَ مائتٍ. ومن يَسُرُّ بالحياة يُصبح حيًّا" (موشّحات ص 97). كذلك يقول يوحنّا الدّلياتي: "يا من تحبّ الله.. أنظر اليه بالدّهشة الّتي تُحدثُه عظمته فلا تموت. أنظر إليه في نفسك، وأبصره في داخلك. أشخص إلى قلبك ومنه يشرق على نفسك. هذا يعني أنّك تجد في داخلك الله الّذي هو ملكوتك، إن أشخصت وإن كان قلبك نقيًّا من أيّة شائبة" (الرّسالة 50/ 17).
الحياة الطّوباويّة السّعيدة مرتبطة بعلاقتنا مع الله واندماجنا فيه وبعلاقتنا مع بعضنا البعض."