البابا يصدر رسالته الأولى الموجّهة إلى الشّباب بمناسبة يومهمّ العالميّ الأربعين
وفي هذه الرّسالة كتب البابا كما نشر موقع "فاتيكان نيوز": "أيّها الشّباب الأعزّاء! في مستهلّ رسالتي الأولى الموجَّهة إليكم، أودّ أوّلًا أن أقول لكم شكرًا! شكرًا على الفرح الّذي نقلتموه عندما جئتم إلى روما للاحتفال بيوبيلكم، وشكرًا أيضًا لجميع الشّباب الّذين انضمّوا إلينا بالصّلاة من جميع أنحاء العالم. لقد كان حدثًا ثمينًا جدًّا لتجديد حماسة الإيمان ومشاركة الرّجاء المتّقد في قلوبنا! فلنحرص إذًا على ألّا يبقى اللّقاء اليوبِيليّ لحظة معزولة، بل أن يشكّل لكلّ واحد منكم خطوة إلى الأمام في الحياة المسيحيّة وتشجيعًا قويًّا على الثّبات في شهادة الإيمان.
وهذه الدّيناميكيّة هي في قلب اليوم العالميّ المقبل للشّباب، الّذي سنحتفل به في أحد المسيح الملك، في ٢٣ تشرين الثّاني نوفمبر، تحت شعار: "وأَنتُم أَيضًا تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء". وبقوّة الرّوح القدس، نستعدّ، نحن حجّاج الرّجاء، لكي نصبح شهودًا شجعانًا للمسيح. فلنبدأ منذ الآن المسيرة الّتي ستقودنا إلى الاحتفال العالميّ المقبل في سيول سنة ٢٠٢٧. وفي هذا الإطار، أودّ أن أتوقّف عند جانبين من الشّهادة: صداقتنا مع يسوع، الّتي نقبلها من الله كعطيّة؛ والتزام كلّ واحد منّا في المجتمع كَبُنَاة للسّلام.
تولد الشّهادة المسيحيّة من الصّداقة مع الرّبّ، الّذي صُلِب وقام من أجل خلاص الجميع. وهي لا تتماهى مع دعاية أيديولوجيّة، بل هي مبدأ حقيقيّ للتّحوّل الدّاخليّ وللتّوعية الاجتماعيّة. فقد أراد يسوع أن يدعو تلاميذه الّذين أطلعهم على ملكوت الله "أصدقاء"، وطلب إليهم أن يبقوا معه ليُشكّلوا جماعته، ولكي يرسلهم ليُعلنوا الإنجيل. عندما يقول لنا يسوع: "اشهدوا"، فهو يؤكّد لنا أنّه يعتبرنا أصدقاءه. فهو وحده يعرف من نحن ولماذا نحن هنا؛ يعرف قلب كلّ شابّ منكم، وارتعاشه أمام التّمييز والظّلم، وتوقه إلى الحقيقة والجمال، والفرح والسّلام. وبصداقته هو يُصغي إليكم، ويُلهمكم، ويقودكم، ويدعو كلَّ واحد منكم إلى حياة جديدة.
إنّ نظرة يسوع، الّتي تريد فقط خيرنا على الدّوام، تسبقنا. فهو لا يريدنا عبيدًا، ولا "نشطاء" في حزب ما، بل يدعونا لكي نقيم معه كأصدقاء، لكي تتجدّد حياتنا. وتأتي الشّهادة بصورة طبيعيّة من حداثة هذه الصّداقة وفرحها. إنّها صداقة فريدة تمنحنا الشّركة مع الله؛ صداقة أمينة تكشف لنا كرامتنا وكرامة الآخرين؛ صداقة أبديّة لا يقدر حتّى الموت أن يدمِّرها، لأنّ مبدأها هو المصلوب القائم من بين الأموات.
لنتأمّل في ما يقوله الرّسول يوحنّا في ختام إنجيله الرّابع: "وهذا التِّلميذُ هو الَّذي يَشهَدُ بِهذِه الأُمور وهو الَّذي كَتَبَها، ونَحنُ نَعلَمُ أَن شَهادتَه صادِقَة". إنّ الرّواية بأكملها تُختَصر هنا في "شهادة" مليئة بالامتنان والدّهشة، من تلميذ لا يذكر اسمه أبدًا، بل يصف نفسه بأنّه "التّلميذ الّذي كان يسوع يحبّه". هذا اللّقب هو انعكاس لعلاقة، وليس اسم فرد، بل شهادة على رباط شخصيّ بالمسيح. هذا ما يهمّ يوحنّا: أن يكون تلميذًا للرّبّ ويشعر بأنّه محبوب منه. وهكذا نفهم أنّ الشّهادة المسيحيّة هي ثمرة علاقة إيمان ومحبّة مع يسوع، الّذي نجد فيه خلاص حياتنا. وما يكتبه الرّسول يوحنّا يصلح لكم أنتم أيضًا، أيّها الشّباب الأعزّاء: فالمسيح يدعوكم لكي تتبعوه، وتجلسوا إلى جانبه، لتصغوا إلى قلبه وتشاركونه عن قرب حياته! كلّ واحد منكم هو "تلميذ محبوب"، ومن هذا الحبّ يولد فرح الشّهادة.
وشاهد آخر شجاع للإنجيل هو يوحنّا المعمدان، السّابق ليسوع، الّذي "جاء لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس". ورغم شهرته الكبيرة بين النّاس، كان يعلم أنّه مجرّد "صوت" يشير إلى المخلّص: "هوذا حمل الله". ويذكّرنا مثاله بأنّ الشّاهد الحقيقيّ لا يسعى إلى أن يحتلَّ المشهد ولا إلى جذب أتباع له. لأنَّ الشّاهد الحقيقيّ هو متواضع وحرّ من الدّاخل، حرّ من ذاته أوّلًا، ومن رغبة أن يكون محور الاهتمام. ولذلك فهو حرّ في الإصغاء، وفي تفسير الأحداث، وفي قول الحقيقة للجميع، حتّى أمام الأقوياء. من يوحنّا المعمدان نتعلّم أنّ الشّهادة المسيحيّة ليست إعلانًا عن ذواتنا، ولا احتفالًا بقدراتنا الرّوحيّة أو الفكريّة أو الأخلاقيّة. الشّهادة الحقيقيّة هي أن نعرف ونُظهر يسوع، الوحيد الّذي يخلّصنا، عندما يظهر في حياتنا. وقد تعرّف عليه يوحنّا بين الخطأة، منغمسًا في إنسانيّتنا المشتركة. ولهذا شدّد البابا فرنسيس كثيرًا على أنّ من لا يخرج من ذاته ومن مناطق راحته، ومن لا يذهب نحو الفقراء والّذين يشعرون بأنّهم مُستبعدين عن ملكوت الله، لا يلتقي بالمسيح ولا يشهد له. وحينئذ نفقد فرح أن نُبشَّر وأن نُبشّر.
أيّها الأعزّاء، أدعو كلّ واحد منكم لكي يتابع البحث في الكتاب المقدّس عن أصدقاء يسوع وشهوده. فبقراءة الأناجيل، ستكتشفون أنّ جميعهم وجدوا في العلاقة الحيّة مع المسيح المعنى الحقيقيّ للحياة. إنَّ أسئلتنا الأعمق في الواقع لا تجد الإصغاء ولا الجواب في التّمرير اللّامتناهي على الهاتف، الّذي يشدّ الانتباه ويُرهق العقل ويُفرغ القلب. كما لا يمكنها أن تحملنا بعيدًا إن أبقيناها حبيسة داخلنا أو في دوائر ضيّقة. إنّ تحقيق رغباتنا الأصيلة يمرّ دومًا عبر الخروج من ذواتنا.
بهذه الطّريقة، أنتم الشّباب، بمعونة الرّوح القدس، يمكنكم أن تصبحوا مُرسَلين للمسيح في العالم. فالكثير من أقرانكم يتعرّضون للعنف، ويُجبرون على حمل السّلاح، أو على الانفصال عن أحبّائهم، أو على الهجرة والفرار. كثيرون يفتقرون إلى التّعليم وإلى الضّروريّات الأساسيّة. وجميعهم يشتركون معكم في البحث عن المعنى وما يرافقه من عدم يقين، وفي المعاناة من الضّغوط الاجتماعيّة أو المهنيّة، ومن صعوبات الأزمات العائليّة، ومن ألم فقدان الفرص، ومن النّدم على الأخطاء. أنتم أنفسكم يمكنكم أن تسيروا إلى جانبهم، وتُظهروا لهم أنّ الله، في يسوع، قد اقترب من كلّ إنسان. كما كان البابا فرنسيس يحبّ أن يقول: "إنَّ المسيح يُظهر أنّ الله هو القرب والشّفقة والحنان".
صحيح أنّ الشّهادة ليست دائمًا سهلة. ففي الأناجيل نرى غالبًا التّوتّر بين قبول يسوع ورفضه: "والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات". وبطريقة مماثلة، يختبر التّلميذ الشّاهد الرّفض أحيانًا بل وحتّى العنف. والرّبّ لا يُخفي هذه الحقيقة المؤلمة: "إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضًا". غير أنّ هذه التّجارب تصبح فرصة لتطبيق الوصيّة الأسمى: "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم". وهذا ما فعله الشّهداء منذ بداية الكنيسة.
أيّها الشّباب الأعزّاء، هذه ليست قصّة من الماضي فقط. فحتّى اليوم، في كثير من مناطق العالم، يُعاني المسيحيّون وأصحاب النّوايا الحسنة من الاضطهاد والكذب والعنف. وربّما مسّتكم أنتم أيضًا هذه الخبرات المؤلمة، وربّما جرّبتم أن تردّوا بانفعال، نازلين إلى مستوى من رفضكم، بسلوك عدوانيّ. لكن لنتذكّر نصيحة القدّيس بولس الحكيمة: "لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير". فلا تدعوا إذًا الإحباط يتسلّل إلى قلوبكم: على مثال القدّيسين، أنتم مدعوّون، لكي تثابروا برجاء، لاسيّما في وجه الصّعوبات والعقبات.
من الصّداقة مع المسيح، الّتي هي عطيّة الرّوح القدس فينا، يولد أسلوب عيش يحمل في داخله طابع الأخوّة. فالشّابّ الّذي التقى بالمسيح ينقل أينما ذهب "دفء" و"طعم" الأخوّة، وكلّ من يلتقي به أو بها ينجذب إلى بُعد جديد وعميق، يقوم على القرب المجّانيّ، والشّفقة الصّادقة، والحنان الأمين. إنَّ الرّوح القدس يُعلّمنا أن نرى القريب بعيون جديدة: في الآخر هناك أخٌ وأخت!
إنّ شهادة الأخوّة والسّلام، الّتي تُثيرها فينا صداقة المسيح، تُنهضنا من اللّامبالاة والكسل الرّوحيّ، وتساعدنا على تخطّي الانغلاق وسوء الظّنّ. هي تربطنا بعضنا ببعض، وتدفعنا إلى الإلتزام معًا، من التّطوّع إلى المحبّة السّياسيّة، من أجل بناء ظروف حياة جديدة للجميع. فلا تتبعوا من يستخدم كلمات الإيمان للتّقسيم؛ بل تحرّكوا لكي تُزيلوا عدم المساواة وتصالحوا بين الجماعات المنقسمة والمضطهدة. لذلك، أيّها الأصدقاء الأعزّاء، لنُصغِ إلى صوت الله في داخلنا، ولنغلب أنانيّتنا، لنصبح صانعي سلامٍ فاعلين. عندئذٍ، سيظهر في العالم ذاك السّلام الّذي هو عطيّة الرّبّ القائم من بين الأموات، من خلال الشّهادة الجماعيّة للّذين يحملون روحه في قلوبهم.
أيّها الشّباب الأعزّاء، أمام آلام العالم وآماله، لِنُثبِت نظرنا على يسوع. فعندما كان على وشك أن يموت على الصّليب، سلّم العذراء مريم إلى يوحنّا كأمًّ، ووهب يوحنّا لها كإبن. وعطيّة المحبّة القصوى هذه هي موجّهة إلى كلّ تلميذ، وإلى كلّ واحد منّا. لذلك أدعوكم لكي تقبلوا هذه العلاقة المقدّسة مع مريم، الأمّ المليئة بالمودّة والفهم، ولكي تُنمُّوها خصوصًا من خلال صلاة مسبحة الوردية. وهكذا، في جميع ظروف الحياة، سنختبر أنّنا لسنا وحدنا أبدًا، وإنّما نحن أبناء يحبّهم الله ويغفر لهم ويشجّعهم الله. وعن هذا، اشهدوا بفرحٍ!".