البابا لاوُن الرّابع عشر: لنكون شهودًا شجعانًا للمسيح الذي هو على الدّوام رجاؤنا
"أشكركم أوّلاً على حضوركم، رغم أنّ السّفر كان طويلاً بالنّسبة لكثيرين منكم. شكرًا! أنتم، بشخصكم، تُجسّدون صورة الكنيسة الكاثوليكيّة، لأنّه لا يوجد في أيّ بلد من بلدان العالم سلك دبلوماسيّ عالميّ بقدر ما هو عليه سلكنا! ومع ذلك، أعتقد أنّه يمكننا أن نقول أيضًا إنّه لا يوجد بلد في العالم لديه سلك دبلوماسيّ متّحد كما أنتم متّحدون: لأنّ شركتكم – وشركتنا – ليست مجرد تعاون وظيفيّ، ولا مجرّد انسجام فكريّ، بل نحن متّحدون في المسيح وفي الكنيسة. ومن المهمّ أن نتأمّل حول هذه الحقيقة: أنّ دبلوماسيّة الكرسيّ الرّسوليّ، من خلال أعضائها، تُشكّل نموذجًا – ليس كاملاً بالطّبع، ولكنّه معبّر جدًّا – للرّسالة التي تَحملها، أيّ رسالة الأخوّة الإنسانيّة والسّلام بين جميع الشّعوب.
أيّها الأعزّاء، أنا ما زلت في خطواتي الأولى في هذه الخدمة التي أوكلها الرّبّ إليّ. وأشعر تجاهكم بما عبّرت عنه قبل أيّام خلال لقائي مع موظّفي أمانة سرّ الدّولة، أيّ بالامتنان لجميع الذين يساعدونني على أداء خدمتي يومًا بعد يوم. ويزداد هذا الامتنان في قلبي عندما أفكّر – وألمس بيدي عند مواجهة المسائل المختلفة – أنّ عملكم يسبقني في كثير من الأحيان! نعم، وهذا ينطبق بشكل خاصّ عليكم أنتم. لأنّه، عندما تُعرض عليّ حالة ما تتعلّق – مثلاً – بالكنيسة في بلد معيّن، يمكنني أن أعتمد على الوثائق، وعلى التّأمّلات، وعلى المُلخّصات التي أعددتموها أنتم ومعاونُوكم. إنّ شبكة الممثليّات البابويّة هي على الدّوام ناشطة وفعّالة.
وهذا الأمر هو مدعاة تقدير وشكر كبيرَين بالنّسبة لي. وأقول ذلك فيما أفكّر ليس فقط في تفانيكم وتنظيمكم، وإنّما وبشكل أكبر في الدّوافع التي تحرّككم، وفي الأسلوب الرّاعويّ الذي يجب أن يميّزنا، وفي روح الإيمان الذي يحرّكنا. وبفضل هذه الصّفات، سأتمكّن أنا أيضًا من اختبار ما كتبه القدّيس بولس السّادس، إذ قال إنّ الحبر الأعظم، بواسطة ممثّليه المقيمين في الدّول المختلفة، يصبح شريكًا في حياة أبنائه، ويكاد ينخرط فيها، فيتعرّف بطريقة أسرع وأكثر أمانًا على حاجاتهم وعلى تطلّعاتهم في الوقت عينه.
والآن، أرغب في أن أشارككم صورة من الكتاب المقدّس خطرت على بالي عندما فكّرت في رسالتكم، وفي ارتباطها برسالتي. في بداية سفر أعمال الرّسل (٣، ١-١٠)، تصف رواية شفاء المُقعد جيّدًا خدمة بطرس الرّسول. نحن في فجر الخبرة المسيحيّة، والجماعة الأولى، المجتمعة حول الرّسل، تعلم أنّها تعتمد على حقيقة واحدة فقط: يسوع، القائم والحَيّ. رجل أعرج يجلس عند باب الهيكل ويطلب الصّدقة. يبدو كأنّه صورة للإنسانيّة التي فقدت الرّجاء واستسلمت لليأس. واليوم أيضًا لا تزال الكنيسة، تلتقي برجال ونساء فقدوا الفرح، أو همّشهم المجتمع، أو دفعتهم الحياة إلى حدّ أن "يتسوّلوا" وجودهم. هكذا يروي هذا المقطع من سفر أعمال الرّسل: "فحَدَّقَ إِلَيه بُطرُس وكذلكَ يوحنَّا، ثُمَّ قالَ له: "أُنظُرْ إِلَينا". فتعَلَّقَت عَيناهُ بِهِما يَتَوَقَّعْ أَن يَنالَ مِنهُما شَيئًا. فقالَ له بُطرُس: "لا فِضَّةَ عِندي ولا ذَهَب، ولكِنِّي أُعْطيك ما عندي: بِاسمِ يسوعَ المَسيحِ النَّاصِريِّ امشِ!"، وأَمسَكَه بِيدِه اليُمْنى وأَنهَضَه، فاشتَدَّت قَدَماه وكَعْباه مِن وَقتِه، فقامَ وَثْبًا وأَخَذَ يَمْشي. ودخَلَ الهَيكَلَ معَهُما، ماشِيًا قافِزًا يُسَبِّحُ الله".
تدفعنا للتّفكير تلك الدّعوة التي وجّهها بطرس لهذا الرّجل: "اُنظُرْ إِلَينَا!". إنّ النّظر في أعين بعضنا البعض يعني أن نبني علاقة. وخدمة بطرس هي خلق علاقات وبناء جسور؛ والممثّل البابويّ هو، أوّلاً وبشكل خاصّ، في خدمة هذه الدّعوة، هذا النّظر في العيون. كونوا دائمًا نظرة بطرس! كونوا رجالاً قادرين على بناء علاقات حيث يكون الأمر أصعب. ولكن، في قيامكم بذلك، حافظوا على تواضع وواقعيّة بطرس، الذي يعرف جيدًا أنّه لا يملك الحلّ لكلّ شيء: "لا فِضَّةَ عِندي ولا ذَهَب"، قال؛ ولكنه يعرف أيضًا أنّه يملك ما هو أهمّ: أيّ المسيح، المعنى الأعمق لكلّ وجود: "بِاسمِ يسوعَ المَسيحِ النَّاصِريِّ امشِ!".
أن نعطي المسيح يعني أن نعطي المحبّة، وأن نشهد لتلك المحبّة التي هي مستعدة لكلّ شيء. أعتمد عليكم لكي يعرف الجميع في البلدان التي تعيشون فيها، أنّ الكنيسة دائمًا مستعدة لكلّ شيء بدافع المحبّة، وأنّها دائمًا إلى جانب الفقراء والمهمّشين، وأنّها ستدافع دائمًا عن الحقّ المقدّس في الإيمان باللّه، وفي الإيمان بأنّ هذه الحياة ليست تحت رحمة قوى هذا العالم، بل يعبرها معنى سرّيّ. وحدها المحبّة تستحقّ أن نؤمن بها، أمام ألم الأبرياء، ومصلوبي زمننا، الذين كثيرون منكم يعرفونهم بشكل شخصيّ، لأنّكم تخدمون شعوبًا ضحايا الحروب، والعنف، والظّلم، أو حتّى ضحايا تلك الرّفاهية الزّائفة التي تُوهِم وتُحبِط.
أيّها الإخوة الأعزّاء، فليكن عزاؤكم الدّائم أنّ خدمتكم هي "تحت ظلّ بطرس"، (sub umbra Petri) كما ستجدون مكتوبًا على الخاتم الذي ستتلقّونه كهديّة مني. اشعروا دومًا بأنّكم مرتبطين ببطرس، محفوظين من قِبَل بطرس، ومُرسَلين من قِبَل بطرس. فقط في الطّاعة والشّركة الفعليّة مع البابا، يمكن لخدمتكم أن تكون فعّالة في بناء الكنيسة، في الشّركة مع الأساقفة المحلّيّين. تحلّوا دائمًا بنظرة تبارك، لأنّ خدمة بطرس هي أن يُبارك، أيّ أن يعرف كيف يرى الخير على الدّوام، حتّى ذاك الخفيّ، وذاك الذي هو في الأقلّيّة.
اشعروا بأنّكم مرسلون، ومبعوثون من قِبَل البابا لكي تكونوا أدوات شركة ووحدة، في خدمة كرامة الشّخص البشريّ، من خلال تعزيز علاقات صادقة وبنّاءة أينما كنتم، مع السّلطات التي ستُدعون إلى التّعاون معها. ولتستنر كفاءتكم على الدّوام بعزم راسخ على القداسة. إنّ القدّيسين الذين خدموا في السّلك الدّبلوماسيّ للكرسيّ الرّسوليّ، مثل القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرين والقدّيس بولس السّادس، هم أمثلة ساطعة في هذا المجال. أيّها الأعزّاء، إنّ حضوركم هنا اليوم يعزز الوعي بأنّ دور بطرس هو أن يثبِّت الإخوة في الإيمان. وأنتم أوّل من يحتاج إلى هذا التّثبيت لكي تصبحوا بدوركم رسله، وعلامات مرئيّة في كلّ ركن من أركان العالم.
ليكُن لنا الباب المقدّس الذي عبرناه معًا جميعًا صباح الأمس، حافزًا لنا لكي نكون شهودًا شجعانًا للمسيح الذي هو على الدّوام رجاؤنا."