البابا فرنسيس يصدر رسالته لليوم العالميّ للسّلام
وتحدّث قداسته أيضًا عن الحرب والّتي تبدأ في كثير من الأحيان من رفض اختلاف الآخر، ممّا يعزّز الرّغبة في الاستحواذ وفي الهيمنة. تولد الحرب في قلب الإنسان، من الأنانية والكبرياء، ومن الكراهية التي تؤدّي إلى التّدمير، وإلى سَجنِ الآخر في صورة سلبيّة، وإلى استبعاده وإلغائه. وتتغذّى الحرب من تحريف العلاقات، ومن طموحات الهيمنة، ومن إساءة استخدام السّلطة، ومن الخوف من الآخر، ومن الاختلاف الّذي يُعتَبر عقبة؛ وفي الوقت عينه تغذّي الحرب نفسها كلّ هذا. وأكّد البابا فرنسيس أنّه لا يمكن الادّعاء بالحفاظ على الاستقرار في العالم عبر الخوف من الإبادة، وسط توازن متقلّب للغاية، هو على شفير الهاوية النّوويّة، ومسجون داخل جدران اللّامبالاة. وشدّد بالتّالي على ضرورة أن نعمل من أجل الأخوّة الحقيقيّة، الّتي تُبنى على أساسها المشترك في الله، والّتي نمارسها عبر الحوار والثّقة المتبادلة. إنّ الرّغبة في السّلام مدرجة بعمق في قلب الإنسان ولا يجب أن نقبل بأقلّ من ذلك.
إنتقل الأب الأقدس في رسالته بعد ذلك إلى الحديث عن السّلام باعتباره مسيرة إصغاء مبنيّة على الذّاكرة والتّضامن والأخوّة، وأضاف أنّ الذّاكرة هي أفق الرّجاء مؤكّدًا ضرورة الحفاظ عليها ليس فقط لتجنّب ارتكاب نفس الأخطاء مجدّدًا أو لعدم إعادة طرح المخطّطات الوهميّة الماضية، إنّما أيضًا لأنّها، ثمرة الخبرة، تشكّل الجذور وترسم الطّريق لخيارات سلميّة حاليّة ومستقبليّة. ثمّ أشار البابا فرنسيس إلى حاجة العالم لا لكلمات فارغة بل إلى شهودٍ راسخين في قناعاتهم، وإلى صانعي سلام منفتحين على الحوار دون استثناء أو تلاعب، مضيفًا أنّه لا يمكن الوصول إلى السّلام حقًّا ما لم يكن هناك حوار حقيقيّ بين الرّجال والنّساء الّذين يبحثون عن الحقيقة أبعد من الإيديولوجيّات والآراء المختلفة وشدّد على كون عمليّة السّلام التزامًا يستمرّ مع مرور الوقت.
نقطة أخرى توقّف عندها الأب الأقدس هي كون السّلام مسيرة مصالحة في الشّركة الأخويّة وذكّر في هذا السّياق بالحديث بين بطرس ويسوع "يا ربّ، كم مَرَّةً يَخْطَأُ إِلَيَّ أَخي وَأَغفِرَ لَه؟ أَسَبعَ مَرَّات؟" فقالَ له يسوع: "لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات" (متّى 18، 21- 22). وتابع البابا فرنسيس إنّ ما ينطبق على السّلام في المجال الاجتماعيّ، هو صحيح أيضًا في المجال السّياسيّ والاقتصاديّ، لأنّ مسألة السّلام تتخلّل جميع أبعاد الحياة المجتمعيّة، لن يكون هناك سلام حقيقيّ أبدًا ما لم نتمكّن من بناء نظام اقتصاديّ أكثر عدالة.
وفي حديثه عن السّلام كمسيرة توبة بيئيّة قال الأب الأقدس: "إنّنا بحاجة إلى توبة بيئيّة إزاء عواقب عدائنا تجاه الآخرين، وعدم احترام البيت المشترك والاستغلال التّعسّفيّ للموارد الطّبيعيّة- الّتي تعتبر كأدوات مفيدة فقط لتحقيق ربح اليوم، دون احترام المجتمعات المحلّيّة، والخير العامّ والطّبيعة". وذكّر في هذا السّياق بأن السّينودس الأخير حول الأمازون يدفعنا إلى توجيه نداء، بطريقة متجدّدة، من أجل إقامة علاقة سلميّة بين المجتمعات والأرض، بين الحاضر والذّاكرة، بين التّجارب والآمال. فطريق المصالحة هذا هو الإصغاء والتّأمّل في العالم الّذي أعطاه الله لنا كي يكون بيتنا المشترك. وأضاف قداسة البابا أنّنا في حاجة إلى تغيير في معتقداتنا ونظرتنا، ممّا يفتحنا أكثر على اللّقاء مع الآخر وعلى قبول هبة الخلق، الّذي يعكس جمال صانعها وحكمته. وتابع قداسته أنّ التّوبة البيئيّة الّتي ننادي بها تقودنا إلى نظرة جديدة على الحياة، بالنّظر إلى كَرم الخالق الّذي أعطانا الأرض والّذي يدعونا مجدّدًا إلى رزانة المشاركة. يجب أن تُفهم هذه التّوبة بطريقة شاملة، على أنّها تحوّلٌ في علاقاتنا مع أخواتنا وإخوتنا، ومع الكائنات الحيّة الأخرى، ومع الخلق بتنوّعه الغنيّ للغاية، ومع الخالق الّذي هو مصدر كلّ حياة. وهذا يتطلّب من المسيحيّ أن "يُظهِر ثمرات لقائه بيسوع في علاقاته مع العالم".
ثمّ خصّص قداسة البابا فرنسيس الفصل الأخير في رسالته لمناسبة الاحتفال باليوم العالميّ للسّلام في الأوّل من كانون الثّاني يناير 2020 للحديث عن الرّجاء، فعندما نرجو ننال الكثير، وأكّد أنّ طريق المصالحة يتطلّب الصّبر والثّقة، والسّلام لا يتحقّق ما لم نرجوه. وهذا يعني أوّلًا وقبل كلّ شيء الإيمان بإمكانيّة السّلام، والإيمان بأنّ حاجة الآخر إلى السّلام هي نفس حاجتنا إليه. وفي هذا، يمكننا الاستلهام من محبّة الله لكلّ واحد منّا، فهي محبّة تحرّر، وغير محدودة، ومجّانيّة، ولا تكلّ. وأضاف الأب الأقدس أنّ الخوف غالبًا ما يكون مصدرًا للصّراع، لذلك من المهمّ أن نتخطّى مخاوفنا البشريّة، وأن نعترف بأنّنا أبناء معوزون، إزاء الّذي يحبّنا وينتظرنا، على غرار أب الابن الضّالّ (را. لو 15، 11- 24). فثقافة التّهديد لا علاقة لها بثقافة اللّقاء بين الإخوة والأخوات، الّتي تجعل من كلّ لقاء فرصةً وهبةً من محبّة الله السّخيّة، وتقودنا إلى تجاوز حدود آفاقنا الضّيّقة، حتّى نتوق دومًا إلى عيش أخوّةٍ عالميّة، كأبناء للآب السّماويّ الأوحد".