الفاتيكان
24 شباط 2020, 09:55

البابا فرنسيس: لنقبل تحدّي يسوع، تحدّي المحبّة

تيلي لوميار/ نورسات
في ختام لقاء باري، ترأّس البابا فرنسيس قدّاسًا احتفاليًّا، شارك فيه بطاركة الشّرق الكاثوليك وأساقفة البلدان المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط.

وللمناسبة، ألقى البابا عظة قال فيها:  

"يذكّر يسوع بالشّريعة القديمة: "سَمِعتُم أَنَّه قيل: العَينُ بِالعَين، وَالسِّنُّ بِالسِّنّ". نعلم جميعًا ما معنى هذا الأمر: من يسلبك شيئًا، ستسلبه الشّيء نفسه. لقد كان في الواقع تقدّمًا كبيرًا لأنّه كان يمنع انتقامًا أسوأ: إنّ آذاك شخص ما يمكنك أن تردّ له الكيل نفسه ولكن لا يمكنك أن تتصرّف معه بشكل أسوأ. أمّا يسوع فيذهب أبعد من ذلك بكثير: "أَمّا أَنا فَأَقولُ لَكُم: لا تُقاوِموا الشِّرّير". لكن كيف يا ربّ؟ إن فكّر فيَّ شخص ما بالسّوء، أو إن آذاني ألا يمكنني أن أردّ له الكيل نفسه؟ لا يقول يسوع: لا للعنف.

يمكننا أن نفكّر أنّ تعليم يسوع يتبع استراتيجيّة ما: في النّهاية سيكفُّ الشّرّير عن شرّه. لكن ليس هذا السّبب الّذي من أجله يطلب يسوع أن نحبّ إلى أن يؤلمنا الحبّ. وما هو السّبب؟ لأنّ الآب، أبانا، يحبّ الجميع على الدّوام، حتّى إن لم يبادلوه هذا الحبّ. فهو "يُطلِعُ شَمسَهُ عَلى الأَشرارِ وَالأَخيار، وَيُنزِلُ المَطَرَ عَلى الأَبرارِ وَالفُجّار". واليوم في القراءة الأولى يقول لنا: "كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا الرَّبَّ إِلهَكم قُدُّوس". أيّ: "عيشوا مثلي واسعوا إلى ما أسعى إليه أنا". هكذا فعل يسوع. لم يوجّه إصبع الاتّهام ضدّ الّذين حكموا عليه ظلمًا وقتلوه بوحشيّة، ولكنه فتح لهم ذراعيه على الصّليب، وسامح الّذين صلبوه.

وبالتّالي إن أردنا أن نكون تلاميذًا للمسيح وإن أردنا أن نقول إنّنا مسيحيّون فهذه هي الدّرب. فإذ أحبّنا الله نحن مدعوّون بدورنا لنحبّ، وإذ نلنا المغفرة لكي نغفر بدورنا، وإذ لمستنا المحبّة لكي نعطي المحبّة بدون أن ننتظر بأن يبدأ الآخرون، وإذ خُلِّصنا بمجّانيّة لكي لا نبحث عن أيّة مصلحة في الخير الّذي نقوم به. قد يقول لي أحدكم: "لكنَّ يسوع يبالغ! ويقول لنا: "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم"؛ ربّما هو يتحدّث هكذا لكي يثير اهتمامنا ولكنّه لا يقصد ذلك فعلاً". لكن العكس صحيح. فيسوع لا يتحدّث هنا للمفارقة، ولا يستعمل كلمات لا معنى لها. بل هو مباشر وواضح، يذكر الشّريعة القديمة ويعلن جهرًا: "أمّا أَنا فَأَقولُ لَكُم: أَحِبّوا أَعداءَكُم". إنّها كلمات مقصودة ودقيقة.

أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم. إنّها الحداثة المسيحيّة، إنّها الفرق المسيحيّ. الصّلاة والمحبّة: هذا ما ينبغي علينا فعله، وليس فقط تجاه من يحبّنا وليس فقط تجاه أصدقائنا وليس فقط تجاه شعبنا. لأنّ محبّة يسوع لا تعرف الحواجز والحدود. إنّ الرّبّ يطلب منّا شجاعة محبّة بلا حسابات. لأنّ مقياس يسوع هو المحبّة بلا قياس. كم من مرّة قد أهملنا طلباته وتصرّفنا مثل الجميع! ومع ذلك فوصيّة المحبّة ليست مجرّد استفزازٍ بل هي جوهر الإنجيل. لا يجب أن نقبل أعذارًا حول المحبّة تجاه الجميع ولا يجب أن نبشّر بتحفُّظات مريحة. إنّ الرّبّ لم يتحفّظ ولم يساوم بل طلب منّا أن نذهب إلى أقصى تعابير المحبّة. هذا هو التّطرّف المسيحيّ الوحيد: تطرّف المحبّة.

أضاف الأب الأقدس يقول أحبّوا أعداءكم. سيساعدنا أن نكرّر لأنفسنا هذه الكلمات ونطبّقها على الأشخاص الّذين يعاملوننا بالسّوء والّذين يزعجوننا ونتعب في قبولهم والّذين يفقدوننا هدوءنا. أحبّوا أعداءكم. سيساعدنا أن نطرح على أنفسنا بعض الأسئلة أيضًا: "ماذا يقلقني في الحياة؟ الأعداء والّذين يريدون لي السّوء؟ أم الحبّ؟". لا تقلق من شرّ الآخرين ومن الّذين يفكّرون بك بالسّوء. إبدأ بتجريد قلبك من السّلاح محبّة بيسوع المسيح، لأنَّ من يحب الله ليس لديه أعداء في قلبه. إنّ عبادة الله تتناقض مع ثقافة الحقد، ويمكننا محاربة ثقافة الحقد من خلال منع عبادة التّذمّر. كم من مرّة نتذمّر بسبب ما لا نحصل عليه وبسبب الأمور الّتي لا تسير جيّدًا! يسوع يعرف أنّ العديد من الأمور لن تسير جيّدًا، وأنّه سيكون هناك على الدّوام شخص يريد لنا الشّرّ أو سيضطهدنا. لكنّه يطلب منّا أن نصلّي ونحبّ. هذه هي ثورة يسوع، الثّورة الأكبر في التّاريخ: من العدوّ الّذي ينبغي كرهه إلى العدوّ الّذي علينا أن نحبّه، من عبادة التّذمّر إلى ثقافة العطاء؛ إن كنّا ليسوع فهذه هي الدّرب!

لكن يمكنك أن تعترض قائلاً: "أفهم عظمة المثاليّة، لكن الحياة هي أمر آخر! إن كنت أحبّ وأغفر، فلا يمكنني أن أبقى على قيد الحياة في هذا العالم حيث يسود منطق القوّة ويبدو أنَّ كلّ شخص يفكّر بنفسه". فهل منطق يسوع هو خاسر؟ إنّه خاسر في نظر العالم، ولكنّه رابح في عيني الله. لقد قال لنا القدّيس بولس في القراءة الثّانية: "فلا يَخدَعَنَّ أَحَدٌ نَفْسَه، لِأَنَّ حِكمَةَ هَذا العالَمِ حَماقَةٌ عِندَ الله". إنّ الله يرى أبعد. يعرف كيف ننتصر. يعرف أنَّ الشّرّ يُغلب بالخير فقط. هكذا خلصنا: ليس بالسّيف وإنّما بالصّليب. الحبّ والمغفرة هما حياة المنتصرين. سنخسر إن دافعنا عن الإيمان بالقوّة. وسيكرّر لنا الرّبّ نحن أيضًا الكلمات الّتي قالها لبطرس في الجتسماني: "أَغمِدِ السَّيف". في جتسماني اليوم في عالمنا اللّامبالي والظّالم حيث يبدو أنّنا نشهد على موت الرّجاء، لا يمكن للمسيحيّ أن يتصرّف كهؤلاء التّلاميذ الّذين استلّوا السّيف أوّلاً وهربوا من بعدها. لا الحلُّ ليس بأن نستلَّ السّيف ضدّ أحد ما ولا بأن نهرب من الزّمن الّذي نعيشه. الحلُّ هو درب يسوع: المحبّة الفاعلة، المحبّة المتواضعة، المحبّة "إِلى أَقْصى حُدودِها" (يوحنا 13، 1).

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، بمحبّته الّتي لا تعرف الحدود يرفع يسوع اليوم حدود بشريّتنا، ويمكننا أن نسأل أنفسنا: "وهل سننجح؟". لو لم يكن الهدف ممكنًا لما طلب منّا الرّبّ أن نبلغه. ولكنّ هذا الأمر صعب لوحدنا؛ إنّها نعمة ينبغي علينا أن نطلبها. علينا أن نطلب من الله القوّة لنحبّ ونقول له: "ساعدني يا رب لكي أحبّ، علّمني أن أغفر. لكنّني لست قادرًا لوحدي، أنا بحاجة إليك". كذلك علينا أن نطلب نعمة أن نرى الآخرين لا كعوائق ومشاكل وإنّما كإخوة وأخوات علينا أن نحبّهم. غالبًا ما نطلب مساعدات ونعم لأنفسنا، ولكن قليلاً ما نطلب أن نعرف كيف نحبّ! نحن لا نطلب بشكل كافٍ أن نعرف كيف نعيش جوهر الإنجيل وكمسيحيّين حقيقيّين. ولكنّنا "في مساء هذه الحياة سنحاسب على الحبّ".

لنختر الحبّ اليوم حتّى وإن كلّفنا هذا الأمر أو إن كان هذا الأمر يسير بعكس التّيّار. لا نسمحنَّ بأن يؤثّر علينا الفكر العامّ، ولا نكتفينَّ بأنصاف المعايير. لنقبل تحدّي يسوع، تحدّي المحبّة، وسنكون مسيحيّين حقيقيّين وسيصبح العالم أكثر إنسانيّة".