الفاتيكان
11 نيسان 2022, 05:55

البابا فرنسيس في الشّعانين: لنسِر نحو عيد الفصح بمغفرة يسوع

تيلي لوميار/ نورسات
في صباح أحد الشّعانين، ترأّس البابا فرنسيس القدّاس الإلهيّ في ساحة القدّيس بطرس، مؤكّدًا على أنّه "مع الله يمكننا دائمًا أن نعود إلى الحياة"، وذلك في عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"على الجلجلة تصطدم ذهنيّتان. في الواقع، تتعارض كلمات يسوع المصلوب في الإنجيل مع كلمات صالبيه. فهؤلاء كانوا يردّدون لازمة: "خلِّص نفسك". قال الرّؤساء: "ليخلّص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار". وأكّد ذلك الجنود: "إن كنت ملك اليهود فخلّص نفسك!". وأخيرًا، أحد اللّصَّين، الّذي سمِع، كرّر المفهوم نفسه: "ألست المسيح؟ فخلّص نفسك وخلّصنا!". أن يخلِّص المرء نفسه، ويعتني بنفسه ويفكّر بنفسه وليس بالآخرين، وإنّما فقط بصحّته ونجاحه ومصالحه؛ بالامتلاك والسّلطة والظّهور. خلّص نفسك: إنّها لازمة البشريّة الّتي صلبت الرّبّ. لنفكّر في ذلك.

لكن ذهنيّة الأنا تتعارض مع ذهنيّة الله. والـ"خلِّص نفسك" يصطدم بالمخلّص الّذي يقدّم ذاته. في إنجيل اليوم على الجلجلة أيضًا يتكلّم يسوع ثلاث مرّات، مثل خصومه. ولكنّه في كلِّ مرّة لا يطالب بأيّ شيء لنفسه لا بل لا يدافع عن نفسه ولا يبرّر نفسه أيضًا. يصلّي إلى الآب ويقدّم الرّحمة للّصّ الصّالح. وإحدى عباراته، بشكل خاصّ، تطبع الاختلاف إزاء الـ"خلِّص نفسك": "يا أبت اغفر لهم". لنتوقّف عند هذه الكلمات. متى قالها الرّبّ؟ في لحظة معيّنة: أثناء الصّلب، عندما شعر بالمسامير تخترق معصميه وقدميه. لنحاول أن نتخيّل الألم الرّهيب الّذي تسبّب فيه هذا الأمر. هناك، في أشدِّ ألم جسديٍّ في آلامه، طلب المسيح المغفرة للّذين يُسمِّرونه. في تلك اللّحظات قد يصرخ المرء بغضب وألم؛ ولكنَّ يسوع يقول: "يا أبت اغفر لهم". على عكس الشّهداء الآخرين، الّذين يخبر عنهم الكتاب المقدّس، فهو لا يوبّخ جلّاديه ولا يهدّد بالعقوبات باسم الله، بل يصلّي من أجل الأشرار. وإذ عُلِّق على خشبة الإذلال، ازدادت قوّة العطيّة، وأصبحت مغفرة.

أيّها الإخوة والأخوات، نعتقد أنّ الله يفعل هكذا معنا أيضًا: عندما نسبب له الألم بأفعالنا، هو يتألَّم ولديه رغبة واحدة فقط: أن يتمكّن من مسامحتنا. ولكي نتنبّه لهذا الأمر، لننظر إلى المصلوب. من جراحه، ومن ثقوب الألم الّتي سبّبتها مساميرنا تنبعث المغفرة. ننظر إلى يسوع على الصّليب ونفكِّر أنّنا لم ننل أبدًا كلمات أفضل: "يا أبت اغفر". ننظر إلى يسوع على الصّليب ونرى أنّنا لم ننل أبدًا نظرة أكثر حنانًا وشفقة. ننظر إلى يسوع على الصّليب ونفهم أنّنا لم ننل أبدًا عناقًا أكثر حبًّا. ننظر إلى المصلوب ونقول: "شكرًا لك يا يسوع: أنت تحبّني وتسامحني على الدّوام، حتّى عندما أجد صعوبة في أن أحبّ نفسي وأسامحها".

هناك، فيما كان يُصلب، في أصعب اللّحظات، عاش يسوع وصيّته الأصعب: محبّة الأعداء. لنفكّر في شخص جرحنا، أو أساء إلينا، أو خيَّب أملنا؛ في شخص أغضبنا أو لم يفهمنا أو لم يكن قدوة حسنة. كم من الوقت نتوقّف للتّفكير في من أساء إلينا! فضلًا عن النّظر إلى داخلنا ولعق الجراح الّتي ألحقها بنا الآخرون والحياة والتّاريخ. يعلّمنا يسوع اليوم ألّا نبقى هناك، وإنّما أن نتصرّف. ونكسر حلقة الشّرّ والنّدم المفرغة. لكي نتصرّف إزاء مسامير الحياة بالحبّ، وإزاء ضربات الكراهيّة بلمسة حنان المغفرة. ولكنّنا، نحن تلاميذ يسوع، هل نتبع المُعلِّم أم غريزتنا البغيضة؟ إذا أردنا أن نتحقّق من انتمائنا للمسيح، لننظر كيف نتصرّف مع الّذين جرحونا. إنَّ الرّبّ يطلب منّا أن نجيب لا بما يبادر فورًا إلى ذهننا أو كما يفعل الجميع، وإنّما كما يفعل هو معنا. يطلب منّا أن نكسر سلسلة "أحبّك إذا كنت تحبّني؛ أنا صديقك إذا كنت صديقي؛ وسأساعدك إذا ساعدتني". لا، الشّفقة والرّحمة للجميع، لأنّ الله يرى في كلّ فرد منّا ابنًا له؛ وهو لا يقسِّمنا إلى أخيار وأشرار، وإلى أصدقاء وأعداء. نحن الّذين نفعل ذلك، ونجعله يعاني. بالنّسبة له، جميعنا أبناء محبوبون، يرغب في أن يعانقهم ويغفر لهم.

"يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون". يؤكّد الإنجيل أنّ يسوع "قال" هذا: لم يقله مرّة واحدة في لحظة الصّلب فقط، بل أمضى السّاعات على الصّليب مع هذه الكلمات على شفتيه وفي قلبه. إنَّ الله لا يتعب أبدًا من المغفرة، ولا يحتمل فقط إلى نقطة معيّنة ثم يغيّر رأيه، كما نفعل نحن. إنَّ يسوع- يعلّمنا إنجيل لوقا- قد جاء إلى العالم ليحمل لنا مغفرة خطايانا وفي النّهاية أعطانا تعليمات دقيقة: أن نعلن للجميع بإسمه مغفرة الخطايا. لا نتعبنَّ من مغفرة الله لنا: نحن الكهنة من منحها، وكلّ مسيحيّ من أن ينالها ويشهد لها.

"يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون". نلاحظ شيئًا آخر. إنَّ يسوع لا يطلب المغفرة وحسب، بل يقول السّبب أيضًا: اغفر لهم، لأنهّم لا يعلمون ما يفعلون. ولكن كيف؟ لقد كان صالبوه قد تعمّدوا قتله، ونظّموا القبض عليه، ومحاكمته، وهم الآن على الجلجلة لكي يشهدوا على وفاته. ومع ذلك، يبرّر المسيح هؤلاء القساة والظّالمين لأنّهم لا يعلمون. هكذا يتصرّف يسوع معنا: يصبح محامينا. هو لا يقف ضدّنا، بل من أجلنا ضد خطايانا. والحجّة الّتي يستخدمها مثيرة للاهتمام: لأنّهم لا يعلمون. عندما نستخدم العنف، لا نعود نعرف شيئًا عن الله، الّذي هو أب، ولا حتّى عن الآخرين الّذين هم إخوتنا. ننسى سبب وجودنا في العالم ويصل بنا الأمر إلى ارتكاب أعمال وحشيّة غير منطقيّة. نرى ذلك في جنون الحرب حيث نعود لكي نصلب المسيح مجدّدًا. نعم، إنَّ المسيح لا يزال يُسمّر مرّة أخرى على الصّليب في الأمّهات اللّواتي يبكين الموت الظّالم لأزواجهنّ وأبنائهنَّ. هو مصلوب في اللّاجئين الّذين يهربون من القنابل حاملين أطفالهم بين أذرعهم. إنّه مصلوب في المُسنّين الّذين يُتركون وحدهم ليموتوا، وفي الشّباب الّذين حُرموا من مستقبلهم، وفي الجنود الّذين يرسلون لكي يقتلوا إخوتهم.

"يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون". كثيرون يسمعون هذه العبارة الفريدة، ولكنَّ واحدًا فقط قد قبلها. إنّه اللّصّ الّذي صُلب إلى جانب يسوع، ويمكننا أن نفكّر أنّ رحمة المسيح قد أثارت فيه رجاء أخيرًا ودفعته إلى أن ينطق بهذه الكلمات: "أذكرني يا يسوع". وكأنّه يقول: "لقد نسيني الجميع، أمّا أنت فتفكّر أيضًا في الّذين يصلبونك. معك إذًا، هناك مكان لي أيضًا". لقد قبل اللّصّ الله بينما كانت حياته توشك على الانتهاء وهكذا بدأت حياته من جديد؛ وفي جحيم العالم رأى السّماء تنفتح: "ستكون اليوم معي في الفردوس". هذه هي معجزة مغفرة الله، الّتي تحوّل الطّلب الأخير لمحكوم عليه بالموت إلى أوّل إعلان قداسة في التّاريخ.

أيّها الإخوة والأخوات، لنقبل في هذا الأسبوع اليقين بأنّ الله يمكنه أن يغفر كلّ خطيئة وكلّ مسافة، ويحوّل النّوحَ إلى رقص؛ اليقين بأنّ مع يسوع هناك على الدّوام مكان للجميع، وأنّ مع يسوع لا يفوت الأوان أبدًا. مع الله يمكننا دائمًا أن نعود إلى الحياة. تشجّعوا، لنسِر نحو عيد الفصح بمغفرته. لأنّ المسيح يشفع لنا باستمرار لدى الآب وإذ ينظر إلى عالمنا العنيف والجريح، لا يتعب أبدًا من أن يُكرِّر قائلاً: "يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون".