البابا فرنسيس اثنتا عشرة سنة من العمليّات والدّيناميكيّات الجديدة والأبواب المفتوحة
وجاء في المقال: "لقد كان البابا فرنسيس الأول في أمور عديدة. أول بابا يسوعي، أول بابا من أمريكا اللاتينية، أول من اختار اسم فرنسيس، أول من انتخب وسلفه لا يزال على قيد الحياة، أول من أقام خارج القصر الرسولي، أول من زار أراضٍ لم يطأها حبر أعظم من قبل - من العراق إلى كورسيكا -، أول من وقّع إعلان أخوّة مع إحدى أكبر السلطات الإسلامية. كان أيضًا أول بابا يزوِّد نفسه بمجلس كرادلة لحكم الكنيسة، وأول من أسند أدوارًا في المسؤولية للنساء والعلمانيين في الكوريا الرومانية، وأول من أطلق سينودسًا شارك فيه شعب الله لأول مرة، وأول من ألغى السر البابوي في قضايا الاعتداءات الجنسية، وأول من ألغى عقوبة الإعدام من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. الأول أيضًا في قيادة الكنيسة بينما تستعر في العالم حروب كثيرة، صغيرة وكبيرة، وتحارب "على أجزاء" في مختلف القارات. حرب "غالبًا ما تكون هزيمة"، كما كرر في أكثر من ٣٠٠ نداء حتى عندما كان صوته غائبًا. لكن البابا فرنسيس، المولود خورخي ماريو برغوليو، لم يكن ليرغب على الأرجح في أن يرتبط مفهوم "الأول" بحبريته التي لم يكن من المتوقع في هذه السنوات الاثنتي عشرة هذه أن تحقق أهدافًا أو تكسب أولويات، بل أن تبدأ "عمليات". عمليات قيد التنفيذ، عمليات منتهية أو بعيدة، عمليات لا رجعة فيها على الأرجح حتى بالنسبة للذين سيخلفونه على كرسي بطرس. عمليات تولد "ديناميكيات جديدة" في المجتمع والكنيسة - كما كتب في خارطة طريق الحبريّة، "فرح الإنجيل" في أفق اللقاء والتبادل والمجمعيّة.
"لنبدأ هذه المسيرة، أسقفًا وشعبًا"، كانت الكلمات الأولى التي قالها من شرفة البازيليك الفاتيكانية، في وقت متأخر من مساء الثالث عشر من آذار مارس ٢٠١٣، أمام المؤمنين المحتشدين في ساحة القديس بطرس منذ شهر تحت الأضواء بعد استقالة بندكتس السادس عشر. أمام ذلك الحشد، طلب البابا المنتخب حديثًا والبالغ من العمر ٧٦ عامًا، والذي اختاره أخوته الكرادلة "من آخر العالم"، البركة. وتلا مع الشعب صلاة السلام عليك يا مريم، متعثرًا في اللغة الإيطالية التي لم يكن قد مارسها بجد حتى ذلك الحين، نظرًا لزيارات راعي بوينس آيرس النادرة إلى روما، استعدادًا لحزم حقائبه مباشرة بعد انتهاء الكونكلاف. وفي اليوم التالي، أراد أن يعبّر للناس عن احترامه الوثيق من خلال التوجه إلى رعية القديسة حنّة ثم إلى بازيليك مريم الكبرى، ليشكر العذراء مريم الـ "Salus Populi Romani" حامية حبريّته والتي ما فتئ يكرمها في كل مرحلة. وقد عبّر البابا فرنسيس عن رغبته في أن يُدفن في هذه البازيليك عينها.
إن القرب من الشعب، وهو إرث من الخدمة الأرجنتينية، قد أظهره البابا في جميع السنوات التي تلت بطرق مختلفة: بزياراته لموظفي الفاتيكان في المكاتب، بأيام جمعة الرحمة في يوبيل عام ٢٠١٦ في أماكن التهميش والإقصاء، بأيام الخميس المقدس التي احتفل بها في السجون ودور العجزة ومراكز الاستقبال، بجولته الطويلة على الرعايا في الضواحي الرومانية، بزياراته المفاجئة واتصالاته الهاتفية. وقد تجلى ذلك في كل زيارة رسولية، بدءًا من الزيارة الأولى إلى البرازيل في عام ٢٠١٣، التي ورثها من البابا بندكتس والتي نتذكر منها صورة السيارة البابوية العالقة وسط الحشود.
سبع وأربعون زيارة حج دولية قام بها الحبر الأعظم الأرجنتيني، على أساس أحداث أو دعوات من السلطات أو مهمات يجب القيام بها أو بعض "الحركة" الداخلية، كما كشف بنفسه في رحلة العودة من العراق. نعم، العراق بالفعل: ثلاثة أيام في آذار مارس ٢٠٢١ بين بغداد وأور وأربيل والموصل وقرقوش، أراضٍ وقرى لا تزال آثار مصفوفة الإرهاب بادية عليها، والدماء على الجدران وخيام النازحين على طول الطرقات، في خضم جائحة كوفيد والمخاوف الأمنية العامة. رحلة نصحه الكثيرون بعدم القيام بها بسبب الوضع الصحي وخطر الهجمات؛ زيارة أرادها بأي ثمن. الزيارة "الأجمل"، كما أسرّ البابا فرنسيس نفسه، أول بابا يطأ أرض إبراهيم ويجري محادثات مع المرجع الشيعي السيستاني.
عزيمة طيبة قادته إلى العراق، وهي نفسها التي قادته في عام ٢٠١٥ إلى بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى التي جرحتها الحرب الأهلية التي خلّفت في أيام الزيارة نفسها قتلى في الشوارع. في هذا البلد الأفريقي، الذي قال إنه أراد الذهاب إليه حتى لو كان من خلال القفز "بمظلة"، افتتح البابا فرنسيس الباب المقدس ليوبيل الرحمة في احتفال مؤثر، وهو ما يمثل أيضًا الرقم القياسي لسنة مقدسة لم تُفتتح في روما بل في إحدى أفقر مناطق العالم. ويمكن وصفها أيضًا بأنها عناد جيد حرّك قرار القيام بأطول رحلة في الحبريّة في أيلول سبتمبر ٢٠٢٤ في سن السابعة والثمانين: إندونيسيا، بابوا غينيا الجديدة، تيمور الشرقية، سنغافورة. خمسة عشر يومًا، قارتان، أربع مناطق زمنية، أربعة عوالم مختلفة، كل منها يمثل المواضيع الرئيسية لتعاليمه: الأخوّة والحوار بين الأديان، الضواحي والطوارئ المناخية، المصالحة والإيمان، الغنى والتنمية في خدمة الفقر.
ولا يمكننا أن ننسى، بالعودة إلى الزيارات الرسولية والزيارات الرعائية، الرحلة الأولى خارج روما، إلى جزيرة لامبيدوزا الصغيرة، مسرح مآسي الهجرة الكبيرة، مع إكليل الزهور الذي ألقي في "مقبرة البحر الأبيض المتوسط المفتوحة". وتكرر الاستنكار أيضًا في الرحلة المزدوجة إلى ليسبوس (٢٠١٦ و٢٠٢١) في حاويات وخيام اللاجئين والنازحين. وفي تاريخ البابوية أيضًا الزيارة إلى الأراضي المقدسة (٢٠١٤)؛ وإلى السويد، إلى لوند (٢٠١٦) في احتفالات الذكرى الـ ٥٠٠ للإصلاح اللوثري؛ وإلى كندا (٢٠٢٢) مع طلب المغفرة من السكان الأصليين عن الانتهاكات التي تعرضوا لها من قبل ممثلي الكنيسة الكاثوليكية. ومن ثم إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان (٢٠٢٣)، وهي المرحلة الأخيرة التي شاركه فيها رئيس الأساقفة الأنغليكانية رئيس الأساقفة جاستن ويلبي ورئيس الجمعية العامة لكنيسة اسكتلندا إيان غرينشيلدز للتأكيد على الإرادة المسكونية لتضميد جراح الشعب عينها التي ناشد قادة جنوب السودان الذين اجتمعوا في عام ٢٠١٩ لمدة يومين في الفاتيكان لتضميدها. كذلك الزيارة إلى كوبا والولايات المتحدة (٢٠١٥)، وهي الزيارة التي ختمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. حدث تاريخي أمضى البابا فرنسيس شهورًا من أجله، حيث بعث برسائل إلى باراك أوباما وراوول كاسترو يحثهما فيها على "بدء مرحلة جديدة". كان أوباما نفسه هو من شكر الحبر الأعظم علنًا. في هافانا كان هناك أيضًا اللقاء مع بطريرك موسكو الأرثوذكسي كيريل والتوقيع على إعلان مشترك لوضع "مسكونية المحبة" موضع التنفيذ، أي التزام المسيحيين من أجل إنسانية أكثر أخوة. وهو التزام أصبح، بعد سنوات لاحقة، ذا صلة مأساوية ومهملة إلى حد ما مع اندلاع الحرب في قلب أوروبا. أخيرًا وليس آخرًا، من بين الزيارات أبو ظبي ووثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها مع الإمام الأكبر الطيب، متوجًا بذلك ذوبان الجليد مع جامعة الأزهر والذي بدأ بعناق في بيت القديسة مارتا وانتهى بتوقيع نص أصبح على الفور حجر الزاوية في الحوار الإسلامي المسيحي.
خبرات وحوارات وتصرفات معاشة في هذه الرحلات أزهرت في وثائق البابوية. أربع رسائل عامة: الأولى "نور الإيمان"، حول موضوع الإيمان كتبها مع البابا بندكتس السادس عشر؛ ثم "كُن مُسبّحًا"، صرخة لطلب "تغيير المسار" من أجل "البيت المشترك" الذي أصبح في حالة من الانهيار بسبب تغير المناخ والاستغلال، ولتحفيز العمل من أجل القضاء على البؤس والوصول العادل إلى موارد الكوكب. ثمَّ الرسالة العامة الثالثة، "Fratelli tutti"، العمود الفقري للحبريّة، وثمرة وثيقة أبو ظبي، ونبوءة الأخوّة كطريق وحيد لمستقبل البشرية. أخيرًا، الرسالة العامة "لقد أحبنا" التي تستعيد تقليد وآنية الفكر "حول المحبة الإنسانية والإلهية لقلب يسوع" وتطلق رسالة إلى عالم يبدو أنه فقد قلبه.
هناك سبعة إرشادات رسولية: من الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل" وصولاً إلى الإرشاد الرسولي "C’est la confiance"، بمناسبة الذكرى السنوية المائة والخمسين لولادة القديسة تيريزيا الطفل يسوع. وبينهما، إرشادات ما بعد السينودس "فرح الحب" (السينودس حول العائلة)، و" Christus Vivit" (السينودس حول الشباب)، و" Querida Amazonia" (السينودس من أجل منطقة الأمازون)، والإرشاد الرسولي "إفرحوا وابتهجوا" حول الدعوة إلى القداسة في العالم المعاصر، وأخيرًا "Laudate Deum"، وهو تكملة مثالية للرسالة العامة "كُن مُسبّحًا" لإكمال ندائه للتفاعل من أجل أمنا الأرض قبل "نقطة الانهيار".
كذلك تم إصدار حوالي ٦٠ مرسومًا لإعادة تشكيل هياكل الكوريا الرومانية وأبرشية روما، لتعديل القانون الكنسي والنظام القضائي الفاتيكاني، لإصدار قواعد وإجراءات أكثر صرامة في مكافحة الانتهاكات الجنسيّة. كما هو الحال في مرسوم " Vos estis lux mundi" وهي وثيقة تضمنت نتائج ومؤشرات وتوصيات قمة حماية القاصرين في الفاتيكان في شباط فبراير ٢٠١٩. القمة التي مثلت ذروة العمل لمكافحة الاستغلال الجنسي للأطفال والاعتداءات الجنسية من قبل الإكليروس؛ وعبّرت عن استعداد الكنيسة للعمل بحقيقة وشفافية في موقف تائب. مع مرسوم " Vos estis lux mundi"، وضع البابا فرنسيس إجراءات جديدة للإبلاغ عن التحرش والعنف، وأدخل مفهوم المساءلة، أي ضمان أن يتحمّل الأساقفة والرؤساء الدينيين مسؤولية أفعالهم.
عمليات إصلاح إذن كانت ثابتة في حبريّة البابا فرنسيس، الذي لم يرغب في تجاهل توصيات الكرادلة في جمعيات ما قبل الكونكلاف، والذين طلبوا من البابا الجديد المستقبلي إعادة هيكلة الكوريا الرومانية وخاصة مالية الفاتيكان، التي كانت لسنوات في قلب الفضائح. وعلى الفور أنشأ البابا مجلس الكرادلة، وهو "مجلس شيوخ" صغير لمساعدته في إدارة الكنيسة الجامعة والعمل على إصلاح الكوريا. كانت عمليات دمج الدوائر الفاتيكانية وتغييرات أخرى في الألقاب والهيئات التنظيمية هي علامات العمل الجاري؛ وكانت الخطوة الأخيرة هي الدستور الرسولي " Praedicate evangelium": الذي انتظرناه لسنوات، وصدر في عام ٢٠٢٢، بدون سابق إنذار أو ديباجة، وأدخل مستجدات مهمة. ومن بين هذه المستجدات إنشاء الدائرة الجديدة للبشارة التي يرأسها الحبر الأعظم مباشرة، وإشراك العلمانيين "في أدوار الحوكمة والمسؤولية".
النساء، خيط آخر من سنوات تربع برغوليو على كرسي بطرس، البابا الذي أوكل إلى شخصيات نسائية أكثر من غيرها أدوارًا ذات مسؤولية، والذي أنشأ لجنتين لدراسة الشماسات، والذي لم يتوقف أبدًا عن التذكير بـ "العبقرية" الأنثوية والبعد الوالدي للكنيسة، والذي وضع جنبًا إلى جنب مع الكرادلة والأساقفة على طاولات السينودس الأخير حول السينودسية الراهبات والمرسلات والخبيرات واللاهوتيات، واللواتي أعطاهن، وذلك، ولأول مرة، حق التصويت. انفتاح كبير قام به البابا فرنسيس بالنسبة للبعض بسرعة كبيرة، وللبعض الآخر بحذر شديد. مثل منح الأسرار المقدسة للمطلقين المتزوجين مرة أخرى، من منظور الإفخارستيا كـ "دواء" للخطأة وليس كـ "غذاء للكاملين"؛ قبول المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسيًا مع الدعوة إلى القرب الرعوي، لأن هناك في الكنيسة متسعًا "للجميع، بدون استثناء"؛ العناد في الحوار مع ممثلي الطوائف والأديان المسيحية الأخرى، بعد قرون من التحامل والشك، بحكم "مسكونية الدم" أيضًا. كذلك توجيه النظر إلى الصين، مع الاتفاق المؤقت لتعيين الأساقفة الذي تم توقيعه في عام ٢٠١٩ وتم تجديده ثلاث مرات. بصيص من الحوار، بين التعثرات والانتعاشات، مع "شعب نبيل" كان يتوق إلى زيارته طوال هذه السنوات. رغبة تعود إلى تطلعاته الإرسالية خلال شبابه.
الرسالة، موضوع محوري أيضًا. إن الرسالة في الواقع، هي دعوة متكررة في النصوص والعظات، تسير جنبًا إلى جنب مع "السينودسية"، وهو مصطلح آخر تردد كثيرًا في هذه السنوات الاثنتي عشرة. وللسينودسية خصص البابا دورتين للسينودس (٢٠٢٣ و٢٠٢٤)، مجددًا هيكلية الجلسات وعملها، إذ أدرك الحاجة إلى بدء المسيرة السينودسية "من الأسفل"، بل وأسس عشر مجموعات دراسة لكي تعمّق المواضيع العقائدية واللاهوتية والرعوية بعد الأعمال.
إن البديهيات التي غلّفت الواقع الكنسي والسياسي والاجتماعي بأكمله ستبقى في الذاكرة من هذه الحبرية: "ثقافة الإقصاء"، "عولمة اللامبالاة"، "كنيسة فقيرة من أجل الفقراء"، "كنيسة تخرج وتنطلق"، "رعاة برائحة الخراف"، "أخلاقيات التضامن العالمي". سيبقى الاهتمام بالفقراء مع إقامة يوم مكرس لهم في عام ٢٠١٧، والذي يتميز دائمًا بتناول البابا الغداء في قاعة بولس السادس جنبًا إلى جنب مع المشردين والمشردات. وسيبقى التعليم حول المهاجرين، والذي تُرجم في الأفعال الأربعة "الاستقبال والحماية والتعزيز والادماج"، كتوجيهات لمواجهة "إحدى أكبر مآسي هذا القرن". كما ستبقى الدعوة إلى وضع "تسويات مشرِّفة" كحلول للصراعات التي تمزق أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. تلك النزاعات التي تم التنديد بها في السنوات الأخيرة من خلال النداءات والرسائل إلى السفراء البابويين والشعوب المتضررة من العنف، والتي كان يخففها من خلال مكالمات الفيديو - لاسيما تلك التي كان يقوم بها يوميًّا إلى رعية غزة - أو من خلال بعثات الكرادلة وإرسال المساعدات. "لم أكن أعتقد أنني سأكون بابا في زمن الحرب"، هذا ما أسرّ به في أول بث صوتي له مع وسائل الإعلام الفاتيكانية بمناسبة الذكرى العاشرة لانتخابه.
لقد كان السلام هو الهدف الدائم. من أجل السلام دأب البابا فرنسيس على طلب الصلوات وأقام أيام الصوم والصلاة - من أجل سوريا ولبنان وأفغانستان والأراضي المقدسة - التي شارك فيها المؤمنون من كل حدب وصوب؛ كذلك كرّس روسيا وأوكرانيا لقلب مريم الطاهر في عام ٢٠٢٢؛ ونظم وقفات تاريخية مثل غرس شجرة زيتون في حدائق الفاتيكان في ٨ حزيران يونيو ٢٠١٤ مع رئيس إسرائيل شيمون بيريز ورئيس فلسطين محمود عباس. من أجل السلام، قام البابا بمبادرات مزعجة مثل ركوب سيارته والذهاب، في اليوم التالي لإلقاء القنبلة الأولى على كييف، إلى مكتب السفير الروسي لدى الكرسي الرسولي، ألكسندر أفدييف، محاولاً إجراء اتصالات مع الرئيس بوتين والتأكيد له على استعداده للوساطة. كذلك وبّخ البابا فرنسيس عدة مرات رؤساء الدول والحكومات، وحذر أمراء الحرب من أنهم سيحاسبون أمام الله على الدموع التي تراق بين الشعوب، كما وبّخ سوق السلاح المزدهر من خلال إطلاق اقتراح باستخدام نفقات الأسلحة لإنشاء صندوق عالمي للقضاء على الجوع. ودعا إلى بناء الجسور وليس إقامة الجدران، وحث على تغليب الخير العام على الاستراتيجيات العسكرية، وهو ما يساء تفسيره وانتقاده في بعض الأحيان.
لم تخلُ السنوات الماضية من الانتقادات التي وُجهت إلى البابا الأرجنتيني، غير أنه لطالما قابل تلك التيارات المعارضة وتلك التحزبات بروح من الدعابة التي وصفها بأنها "أقرب ما يكون إلى نعمة الله". لقد طرح البابا فرنسيس تساؤلات وأثار دهشة الكثيرين، وربما جعل البعض يعقد الحاجبين إزاء كسره للتقاليد وهزّه لأعمدة البروتوكول والعادات القديمة، بل وأعاد تشكيل مفهوم البابوية ذاته من خلال ملبس مختلف، ومقر إقامة غير معتاد، وتصرفات غير مألوفة، ولغة جسد جديدة، وأسلوب رعوي فريد. كما ظهر عبر البث المباشر عبر الإنترنت والبرامج التلفزيونية، واستعمل حسابه على منصة X تحت اسم @Pontifex بتسع لغات، ليكون قناة لبث رسائل تتطلب سرعة الوصول وسعة الانتشار.
وعلى الرغم من سنواته المليئة بالأحداث، ومع ندرة فترات الراحة وإلغائه للإجازات البابوية المعتادة في كاستل غاندولفو، لم تخلُ مسيرته من لحظات عصيبة؛ من محاكمات، أبرزها القضية الطويلة والمعقدة بشأن إدارة أموال الكرسي الرسولي، إلى فضيحة "فاتيليكس ٢"، وفضائح الاستغلال والفساد، ونشر كتب وُصفت بأنها خالية من "النبالة والإنسانية". كما أنه عانى من متاعب صحية، بين عمليتين جراحيتين في مستشفى "الجميلّي" عامي ٢٠٢١ و٢٠٢٣، ودخوله إلى المستشفى نفسه مجددًا في عام ٢٠٢٣ بسبب مضاعفات تنفسية، إلى جانب نزلات البرد والإنفلونزا وآلام الركبة التي أجبرته على استخدام الكرسي المتحرك خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ومع كل ذلك، لم تمنعه هذه العوائق من أن يبقى قريبًا من الناس، كما ظهر في الأسابيع الأخيرة بعد خروجه من المستشفى، حين فاجأ الجميع بزياراته إلى ساحة القديس بطرس، والبازيليك الفاتيكانية، وبازيليك القديسة مريم الكبرى.
رغم كل هذه التحديات، لم تتوقف حركته النشطة ولا حضوره الدائم في المناسبات، والدليل على ذلك بعض الإحصاءات: أكثر من ٥٠٠ مقابلة عامة، وعشرة كونسيستوارات عيّن خلالها ١٦٣ كاردينالًا جديدًا أعادوا إلى الكنيسة طابعها الكاثوليكي الشامل؛ وأكثر من ٩٠٠ إعلان قداسة، من بينهم ثلاثة من أسلافه: يوحنا الثالث والعشرون، يوحنا بولس الثاني، وبولس السادس؛ إلى جانب "سنوات خاصة" كسنة الحياة المكرسة (٢٠١٥-٢٠١٦)، وسنة القديس يوسف (٢٠٢٠-٢٠٢١)، وسنة العائلة (٢٠٢١-٢٠٢٢)؛ وأربع لقاءات عالمية للشباب في: ريو دي جانيرو، كراكوفيا، باناما، ولشبونة؛ ويوبيلين: أحدهما استثنائي للرحمة الإلهية عام ٢٠١٦، والثاني عادي، وهو القائم حاليًا لعام ٢٠٢٥ تحت شعار "حجّاج الرجاء".
لقد كان البابا خورخي ماريو برغوليو راعيًا سعى إلى القرب من عامة الناس، من خلال المقابلات والكتب والمقدمات والسير الذاتية. وربما، بعد كل ما قيل وكُتب، ستبقى صورة واحدة هي الأشد وقعًا في الذاكرة: البابا، وحيدًا، يخطو بصعوبة، تحت المطر، في صمتٍ ثقيلٍ خلال الإغلاق العام، على أنغام صفارات سيارة إسعاف، وهو يعبر ساحة القديس بطرس في مرحلة زمنية معلّقة أثناء الجائحة. إنها وقفة الصلاة في ٢٧ آذار مارس ٢٠٢٠، حين كان العالم مغلقًا في المنازل يشاهد بالبث المباشر رجلًا مسنًا يبدو كأنه يحمل على كتفيه ثقل مأساة قلبت الحياة رأسًا على عقب. كانت البشرية تئن، والبابا يتحدث عن الرجاء. وعن الأخوّة: "لقد أدركنا أننا جميعًا في القارب عينه، ضعفاء ومضطربين، لكننا مدعوون لكي نجدف معًا في اتجاه واحد"."