دينيّة
17 كانون الأول 2015, 09:48

أين نحن من شخصيات الميلاد

هيّأنا كلّنا المغارة، مع ذلك، لديّ شعور بأنّنا نمرّ بسرعة أمامها. ليس لدينا الوقت الكافي للوقوف أمام الساكن عندنا. نحن على عجلة. هنالك أمور كثيرة ونعتبرها مهمّة يجب إنهاؤها قبل أن يداهمنا الزمن ونتأخرعن تتميمها. وعند المساء، ومع تقدّم الليل، يبدأ فينا التعب، ويتغلّب علينا النعس، فلا نكاد نستهلّ صلاتنا، حتى نكون قد استسلمنا للنوم. لكنّه هو هنا، لا أدري إذا ما كنتُ أنا هنا، رغم أنّي كل يوم هنا.

 في لحظةٍ، شعرت بلمسةٍ من الروح، أسمى من عامل الزمن. وضعت كلّ شيء جانباً، وتوجهت نحو المغارة، حيث هو مالئ الـ"هنا"، جلست ورحت أتأملّ بما تحمل المغارة من أسرار وأحداث غيَّرَت وجه التاريخ. ماذا تغيّر فييّ؟

وأنا أنظر الى أجواء المغارة، صرتُ أستعرض بهدوء شخصيات الميلاد والأحداث المحيطة به. مع كل شخصية، أقوم بمقاربةٍ بسيطةٍ بينها وبيني متسائلاً: أين أنا منها.

أخذني فكري أولاّ الى الملك هيرودس. تخيلتُ ملامحَ القساوة والبطش على وجهه. لقد لامس المستحيل للبقاء في حكمه، حتى ارتكاب الجرائم دون تمييز بين قريبٍ وبعيد. المهم البقاء والإستئثار بكل شيء. إضطربتُ قليلاً. كأنّ شيئاً من شخصيته مسّني. أحسست للحظة وكأنّه يشبهني أو أنا أشبهه بمكانٍ ما.

أكملت مسيرة تأملّي وأنا جالس أمام سكون المغارة.

رأيت المجوس آتين من البعيد، من المشرق، مجتازين المسافات، غير آبهين بمخاطرالطريق ومشقّاتها، وراء نجمة فريدة غريبة. إنّهم، وبكل ثقة، يبحثون عن مكان ولادة الملك الجديد، ملك اليهود.

أين ملك اليهود الذي وُلد؟. شيئ من الخجل اعتراني. وأنا القريب، أستصعب السير لبضع من المسافة لأكون معه ومع الجماعة في الكنيسة. كم من الأشياء الزمنيّة، التافهة أحيانا، أعتبرها جدّ مهمة، تمنعني من الذهاب، تقف حاجزاً بيني وبينه. حزنت قليلاً. مجرّد نجمة بانت لهم في الفلك، حملتهم وبدون تردّد، للمجيء الى أورشليم والسجود له وتقديم هداياهم، معترفين، من خلالهم، بأنّه ملك وإله وإنسان، كأنّي بالطفل الإلهّي يتحرّك ابتهاجاً في ذاته ولسان حاله يقول: عظيمٌ إيمان هؤلاء المجوس الوثنيّين.

صرت أتخيّل اللقاء بين الملك هيرودس والمجوس. قَلَق واضطراب على وجه الملك، شَوْق ورغبة على وجوه المجوس.

للحظة، شعر وكأنَ كل شيء، كل الذي بناه لسنين طويلة، بالقوة أو بالحيلة أوبالمال، بات مهدّداً بالسقوط والإنهيار. من أين أتاه هذا الطفل العجيب؟ من أين فرّخ وهو المعتّد بنفسه بأنّه المالك سعيداً الى الأبد؟

زاد قلقي. أتصرّف بعض الأحيان بالذهنية نفسها لهيرودس. كأنّي باقٍ أبداً هنا، في وظيفتي، في مركزي. أستعمل كل الوسائط، حتى غير الشرعيّة أحياناً، للبقاء، أو لإزاحة أحدٍ ما من الطريق. كم أحسست بالضعف والحزن.

وأنا أتابع السير في تأملاتي، آلمني موقف الكتبة ورؤساء الكهنة.

دعاهم الملك، وهو مضطرب، ليسألهم عن صحة هذا الخبر وأين يولد ملك اليهود. جواب بحت علميّ وكتابيّ، يولد في بيت لحم بحسب قول النبيّ. لم يلمس القلب، ولا اكتراث بكل ما أصاب أورشليم من اضطراب نتيجة مجيء المجوس وسؤالهم عن مكان ولادة ملك اليهود. عادوا الى حياتهم العاديّة المكتفية بكل شيء إلا هذا الحدث العجيب.

شعرتُ بقلق، هل أضحيتُ مثل هؤلاء؟ هل فقدت الجديد في حياتي وإمكانيّة الإندهاش من سرّ هذا الطفل؟ هل بتُّ مكتفياً بما عندي، ومطمئنّا بأنّ كلّ شيء مؤمّنُ لي ولست بحاجة لتغيير ما؟

أنت تعيس أيها الملك هيرودس بذبحك أطفال بيت لحم الأبرياء. اعتقدتً بذبحهم، أنّك قد قتلتَ وأزحتَ من رأيت فيه المنافس الفعليّ لملكك الزمنيّ. مثلًك، بعد زمن، سيقومون بقتله على الصليب، وفي اعتقادهم أيضاً، أنّهم سينجحون هذه المرّة بوضعٍ حدّاً له. وتستمر هذه المحاولة، الى اليوم، عبر كل الأجيال، بقتله في شعبه وفي كافة أنحاء العالم. أعذرني أيّها الطفل، أنا الجالس أمامك، على كلّ المرّات، التي بإرادةٍ أو بغير إرادة، كنت سببَ قتلك في حيثيات عديدة من حياتنا.

تنهّدتُ قليلاً وأكملت التأمل بكنوز أسرار المغارة. الرعاة الودعاء. لفتني سرعة تهافتهم الى المغارة، بعد تلقيّهم من الملاك، البشرى السارة بولادة المخلص، المسيح الرب. صرتُ أتخيّل سعادتهم التي، ولا شكّ، تفوق الوصف، لرؤيتهم مريم ويوسف والطفل مضّجعاً في مذود كما أعلمهم الملاك. إستعدتُ مشهدَ مريم وهي ذاهبة مسرعة، بعد بشارة الملاك بالحبل الإلهيّ، الى بيت زكريّا لخدمة نسيبتها أليصابات.

هي أيضاً فقيرة من فقراء الرب. لأنّها فقيرة مثل الرعاة، قًبِلتْ البشارة بحريّة داخليّة تامة ثمّ قامت وانطلقت. خِلْت نفسي أمام استباق لسرّ الموت والقيامة. حريّة الحب دفعت الله نحو الموت على الصليب والقيامة من أجلي. إنّه قدرُ فقراء الله الأحرار الذين يحبون بلا حدود.

كم أحسدكم أيّها الرعاة الطيّبون الودعاء. لقد نلتم حظوةً عند الرب. فكنتم أوّل من زاركم الملاك وأعلن لكم البشارة بالمولود الجديد، وأوّل من رآه وأوّل من بشّر به. لأنّكم رعاة فقراء، لا مكان لكم دائم تسندون إليه رأسكم، أحرار من مصالح العالم ورهاناته، قبلتم البشرى بإيمان وحملتموها بفرح. هنيئاً لكم يا رعاة الخير والمحبة، لأنّ هذا الذي جئتم اليوم تنظرون إليه طفلاً وتندهشون لجماله، هو نفسه، بعد زمن، سيتّخذكم مثالاً في طريقة رعايتكم لخرافكم ويُطلق على نفسه إسم الراعي الصالح.

نسمة من الروح لمست قلبي. دخلتُ الى عمق المغارة. الى حيث جوهر الحدث. إنّهم ثلاثة: رجل وامرأة وطفل.

من عندهم، من حيث هم في هذا المكان المنزويّ عن العالم، أكانو يدرون أم لا، كان التاريخ يكتب فصله الجديد. يوسف ومريم والطفل يسوع. بيت لحم تعجّ بالعالم والأحداث، حتى لم يجدا، يوسف ومريم، مكانًا لهما للإقامة والإستراحة بعد عناء السفر. لم ينتبه أحد، إلى مرور الله، ملك الملوك، بحشا مريم، أمام أبواب بيوتهم. لديهم أيضاً إنشغالاتهم. وباب بيتي، مغلق أم مفتوح له؟؟

وحدها المغارة، ملجأ الحيوانات للأكل والنوم، إستقبلت تلك العائلة المسكينة لتضع في مذودها المولود الجديد، إبن الله، الكلمة المتجسد، عمّانوئيل الله معنا.

رائع أنت يا يوسف، تخلّيت عن مشاريعك الخاصة لتكون أنت بذاتكَ مشروع الله. من المغارة، شرعت بالسير من منطقة إلى أخرى، مع مريم والطفل، حمايةً لهما، وكأنّك تمهّد الدروب لإقدَام هذا الطفل التي سيمشي عليها يوماً.

جميلة أنتِ يا مريم. اختيار الله لكِ منذ الأزل، لم ينزع منكِ أنوثتكِ وأحاسيسك البشريّة بالأمومة الطبيعية. أنتِ أم بكل ما للكلمة من معنى وعذراء. نحبكِ يا مريم.

وفي ختام جولتي التأمليّة بأحداث المغارة، أحببتُ البقرة والحمار الى جنب الطفل يسوع. رأيت في البقرة، رمزاً للذبيحة التي تقدم الى الآلهة. وهنا الاله الحقيقي التي أتت وسجدت له على طريقتها. وفي الحمار، رأيتُ التواضع، الذي أتى أيضاً ليسجد، ويبدي استعداده، لحمله يوماً على ظهره، في دخوله الاحتفالي الى أورشليم...

في بيت لحم التي تعني بيت الخبز، صار يسوع انساناً. وفي أورشليم، التي تعني مدينة السلام، صار يسوع قربانًا...أماّ اليوم، وبعد هذه الجلسة الروحيّة التأمليّة التاريخيّة:

يريد يسوع أن يسكن في قلوبنا ووسط حياتنا، ليصير"هو نحن ونحن هو".

 

كل عيد وانتم بخير.