دينيّة
21 أيلول 2025, 13:00

هل الإنسان بحاجة إلى الدّين في الألف الثّالث؟

تيلي لوميار/ نورسات
يناقش خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض ضرورة وجود الدّين في الألف الثّالث، ويكتب في السّطور التّالية:

"ما من أمر احتلّ اهتمامات ودراسات الإنسان في جميع الأزمنة خبرًا يعادل الخير الكبير الّذي احتلّه الدّين. فكلّ عالم أو باحث في أحداث التّاريخ القديم والجديد يجد دائمًا في بحثه عن سبب الوجود أو نشوء الحضارات ونتائج الأحداث، أنّ الدّين له الأثر الفعّال والأساسيّ في تركيب الأحداث .

لذا تجد أنّ الدّين دخل في كافّة نواحي حياة الإنسان الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، إلخ...، علمًا أنّ الكتب الدّينيّة وشبه الدّينيّة قد أخذت مواقع هامّة وواسعة في الأدب والفنون .

هناك سؤال يطرح نفسه، ويذهب هذا الطّرح إلى ما هو الدّين؟ هل الدّين حاجة ضروريّة للإنسان من أجل سعادته وخلاصه؟ وهل هو لإيجاد حلول لمشاكله بعد سقوط أيديولوجيّات الأحزاب كلّها، ممّا يحتّم على الإنسان أن يتعلّم الدّين أو يتعرّف عليه، ولكن ماذا يتعلّم الإنسان من الدّين؟ أو ماذا يتعلّم تحت موضوع الدّين؟

تحديد الدّين :

إنّ تحديد الدّين يختلف باختلاف اعتبار الدّين في حدّ ذاته حقيقة موضوعيّة، أيّ يحدّد بمجموعة الواجبات التي تتيح للإنسان أن يقوم بعلاقة مع الله. هذه العلاقة ترجع إلى أربع مستويات .

المستوى الأوّل، الله هو خالق الإنسان. من هنا وجب على الإنسان الاعتراف بسيادة اللّه المطلقة، فهو إذًا سيّده. ومن هنا أيضًا وجب عليه العبادة للّه. 

المستوى الثّاني، الله حافظ الإنسان في الوجود. فهو مدين للّه بما يعمله من خير وبما فيه من خير. اللّه يساهم مع الإنسان في كلّ أعماله. من هنا يظهر دور اللّه المحسن ودور الإنسان المعوز. هذا ما ينتج وجوب الإنسان أن يشكر اللّه. 

المستوى الثّالث، اللّه هو مدبّر الإنسان، فلا شيء يحصل للإنسان إلّا واللّه عالم به. وينجم عن هذا وجوب الصّلاة وطلب الأشياء التي هو بحاجة إليها. 

والمستوى الرّابع، اللّه هو الدّيّان والغفور. وهنا يتوّجب على الإنسان أن يستغفر اللّه ويطلب رحمته .

إنّ الدّين يساعد الإنسان على أن يصبح أكثر صلاحًا، أو أن يبقى على الأقلّ في الواجب. فلا شكّ أنّ الإنسان سيقع في الخطأ والغلط ما دام في هذه الحياة حرًّا وقابلًا للسّقوط، إلّا أنّ الدّين والإيمان به سيقدّمان له العون اللّازم لتخفيف السّقطات، وعلى العودة إلى التّوبة وطلب مغفرة خطاياه ورحمة اللّه .

الدّين شيء جيّد لجميع البشر، لأنّهم مدعوّون إلى الحقيقة والخير والسّعادة الأبديّة. فالمرأة تحتاج إلى الدّين، فهو يساعدها على تحمّل مسؤوليّاتها تجاه الرّجل والبيت الزّوجيّ، وعلى تحصين ذاتها إزاء التّجارب، وعلى القيام بواجبات الأمومة التي في بعض الحالات قد تكون مؤلمة وقاسية. وأيضًا الرّجل يحتاج إلى الدّين ليشدّ أزره في مقاومة التّجارب التي تهاجمه بلا كلل.

إنّ الدّين هو العون الأساسيّ ليبقى الزّوجان في الأمانة للواجب، إذا قلنا هناك أسرة فهناك تضحية، والتّضحية لا تفهم ولا تقوم بدون الدّين، لأنّه هو إطار لحماية الزّوجين من كلّ الاضطراب والخوف .

الدّين وحده يجعل الزّوجين على أن يتقيّدوا بالواجب والاحترام المتبادل، فبفضله يمتلئ البيت بالوقار وبالمحبّة وبالتّفاني. إلّا إذا ما تعرّضت أو ضعفت الحياة الدّينيّة عند أحد الزّوجين أو معًا، بدل أن يجدا في الواجب حلًّا ودواء للشّفاء من الضّعف والانحراف، بتواطؤ مع القانون يهربان من هذا الواجب بالمخرج الّذي يسمّى الطّلاق .

أيضًا الدّين ضروريّ بنوع خاصّ للأولاد، فهم يحتاجون إليه ليتعلّموا كيفيّة توجيه حياتهم والتّمييز بين الخير والشّرّ، لذا من الضّروريّ أن يدخل الدّين في حياة الأولاد .

إنّ الولد الذي يؤمن بأنّ اللّه يراه ويتتبّع خطواته ويهيّئ له الحياة السّعيدة والنّصيب الصّالح. هذا الولد ينشأ نشأة تخالف باستقامتها نشأة ذاك الولد الذي تعوّد أن يتجنّب فقط العين البشريّة التي لا يمكنه أن يراها وتراه في كلّ مكان. الفقير يحتاج إلى الدّين، فإنّه يخفّف عنه حمل مشقّاته وحرمانه، ويلطّف هموم تحصيله الخبز اليوميّ له ولذويه، ويجنّبه الحسد ويحرّضه على ممارسة المحبّة، كلّ هذا الدّين ضرورة له. والغنيّ بحاجة أيضًا إلى الدّين، فإنّ هدف توسيع الثّروة يعرّضه لارتكاب الظّلم والفحش إزاء الّذين يتعاملون معه، فالدّين يجعله يتعامل مع الآخرين بالودّ وبالاحترام، ويشجّعه على العطاء والإحسان .

إذًا الدّين هو من المقوّمات المهمّة لعناصر تكوين الشّخصيّة وللمجتمع. وهو موجود في كلّ الحضارات وله تاريخ طويل. ومن هنا يبدو لنا الاهتمام والوعي والحرص في تعليم الدّين، في كلّ المراكز الثّقافيّة والتّعليميّة على نحو أو آخر...

 

مصادر تعليم الدّين :

قبل البحث في مصادر تعليم الدّين هناك مشكلة يطرحها سيادة المطران "جورج خضر" في مسألة تعليم الدّين، وهي الخوف من تعليم الدّين بشكل جافّ نظريّ إذ يقول: "... إنّنا نريد كلّ شيء من أجل ديانة مجرّدة، من أجل تعاليم نظريّة... ليس شيء قائمًا من أجل التّلميذ...". وأيضًا يتابع سيادته: "إنّ الدّين في مدارسنا قسريّ مقولب معلّب للجميع، الكلمة فيه لأصحاب المعهد، يقولون فيه الكلمة الفصل" .

يكون التّعليم حرًّا، يستطيع المعلّم أن يقول فيه ما يشاء ولا رقيب من أيّ مرجع، هذا يؤدّي، يقول المطران "خضر": "إلى معاداة اللّه، لأنّه إله مدرسة، لأنّ مادّته جزء من البرنامج المدرسيّ، لهذا يصبح الدّين مكره من التّلميذ مثل إكراهه لمواد اللّغة والرّياضيّات" .

والمشكلة الثّانيّة التي يطرحها سيادة المطران "خضر": "إنّ تعليم الدّين ينشئ الانقسام أو يثبّته، الطّلاب ينقسمون صفوفًا صفوفًا، هذا يذهب إلى الشّيخ وذاك إلى الكاهن، والكهنة غير واحد في المعهد الواحد".

ويتساءل المطران "خضر": "هل المدرسة هي المكان الصّالح من وجهة نظر دينيّة لتعليم الدّين؟ أليس صحيحًا فيما يتعلّق بالمسلمين أنّهم كانوا يأخذون الدّين عن الشّيخ في حلقات المسجد؟ وفي المسيحيّة المعرفة جزء من العبادة وتعبير عنها" .

ويقول المطران "خضر": "على الأهل أن يعلّموا الأولاد الدّين، وأن يفتّشوا عن طريقة يظهر اللّه لأولادهم إله حبّ ورحمة، وأليفًا للصّغار يقتربون منه." ويرى سيادته أنّ التّعليم الدّينيّ هو "لأجل كشف الاطمئنان إلى الآخرين ومعانقتهم بشر طيّبين. وأن يعترف الإنسان على المستوى الدّينيّ الذّهنيّ لا العاطفيّ فقط". لهذا لا يستقيم التّعليم الدّينيّ بحسب رأي المطران "جورج خضر" إلّا ببرامج جديدة يكون فيها "القرين المسيحيّ والقرين المسلم قائمًا في سحابة من النّور" (راجع مقالتي لسيادته، الدّيانة الحدث ٢٦ ت ٢ ١٩٦٧، تعليم الدّيانة ١ ك ١ ١٩٦٧. من كتاب حديث الأحد الجزء الأوّل، منشورات النّور) .

إنّ مسألة البحث عن مصادر تعليم الدّين عالجها الدّكتور "أديب صعب" في كتابه الأوّل "الدّين والمجتمع"، في ثلاثيّته في الدّراسات الدّينيّة، الفصل السّادس ص. ١٥٩ (دار النّهار للنذشر) .

إذ يعطي أجوبة لتساؤلات كثيرة، وحلول عمليّة تتيح للإنسان أن يتعلّم الدّين من ينابيعه الأصليّة بشكل وضعيّ وصفيّ، أيّ من حيث أنّ الدّين له مؤسّسة دينيّة لها عقائدها وطقوسها وممارساتها ونظرتها الخاصّة إلى الأشياء، فبناء عليه :

إنّ مصادر الدّين تقوم على دراسة العقيدة التي تتمحور حول مجموعة من الآراء والأفكار حول نشوء الكون والبشر ومصدر الخلق والحركة، وأيضًا حول السّلوك الذي يجب على المؤمن أن يسلكه، وعن الإيمان.

لذا عندما تدرس أو تستكشف أيّ دين يجب أن تعود إلى المصدر بحسب رأي الدكتور "أديب صعب" (الدّين والمجتمع، ص. ١٦٥) إذ يقول : "... لا تدخل في العقيدة الكتابات الدّينيّة التي لم تقرّها السّلطات الدّينيّة الرّسميّة ككتابات عقائديّة".

أيضًا الطّقوس من مصادر تعليم الدّين لأنّها تعبّر عن العبادة، والممارسات الدّينيّة التي تقوم في مراكز العبادة، وهي أيضًا توضح نظرة الدّين لمسائل الخلق والحياة. لهذا يقول الدّكتور صعب "إنّ الطّقوس تكمّل العقائد". ممّا يؤدّي بنا إلى دراسة أمور تنظيميّة للدّين، فهي تساعدنا على أن تبيّن لنا علاقة رجال الدّين مع الشّعب، وأيضًا تبيّن لنا هل هناك من علاقة مرتبيّة بين رجال الدّين. هذا ما يشدّد عليه الدّكتور صعب في دراسة الدّين، فإنّها تقوم على ثلاث مصادر: العقيدة، الطّقوس، المؤسّسات الدّينيّة .

إذًا الدّين ضرورة حتميّة لأنّه يساعد في تكوين الشّخصيّة وتنميتها. وينمّي القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة لدى الإنسان، ويزوّده بالحكمة، ويجعله في مظهر حضاريّ .

هذه هي أهمّ الأسباب التي تنطوي على أنّ الدّين مهمّ ومقدّس في حياة الإنسان، لأنّ الميل في الإنسان إلى الله وإلى التّشبّه به بالفضائل وبالقداسة، ولذلك لا يمكن أن يتلاشى الدّين لأنّه متأصّل في النّفس وقريب منها وضروريّ لها ضرورة الغذاء والتّنفّس للجسد .

كلّما ارتقى الإنسان في الدّين يحصل على السّعادة والسّلام".