دينيّة
08 أيلول 2025, 13:00

مولد سيّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة

تيلي لوميار/ نورسات
في عيد مولد والدة الإله، يكشف خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض تاريخيّة العيد وليتورجيّته ولاهوتيّته، فيكتب:

"كلّ واحد منّا يحبّ يوم مولده ويكرّمه لأنّه يذكّرنا بحكمة اللّه التي لا تدرك، وبقوّته التي استدعانا بها من العدم إلى الوجود، ويحثّنا على العمل بلا ملل حتّى نهاية حياتنا الأرضيّة .
يصادف 8 أيلول عيد مولد العذراء مريم والدة الإله (يقال هذا العيد في بلادنا عيد صيدنايا) التي هي أرفع من كلّ الخلائق والتي يليق بها كلّ تمجيد وإكرام لقداسة مولدها .
تجدر الإشارة إلى أنّ الكنيسة المسيحيّة المستقيمة الرّأي لم تعيّد لمولد أحد من القدّيسين سوى ثلاثة وهم السّيّد المسيح ووالدته وسابقه يوحنّا المعمدان لأنّ في ولادتهم تدخّل مباشر من قبل اللّه من خلال ملائكته .
إنّ مولد العذراء لم يكن سهلًا بل تمّ بعد صلوات والديها يواكيم (الذي من سبط يهوذا من نسل داوود النّبيّ) وحنّة (بنت الكاهن متان من قبيلة هارون)، الحارّة والمتواصلة. ولادة العذراء ليست نتيجة عمل إلهيّ اعتباطيّ حطّم اللّه به التّسلسل التّاريخيّ الطّبيعيّ، لكنّها مرحلة من مراحل التّدبير الإلهيّ الخلاصيّ، لذا فالكنيسة لا بدّ لها أن تعيّد لهذا الحدث العجائبيّ .
تاريخيّة العيد :
ترجع بداية هذا العيد إلى التّقوى الشّعبيّة وإلى مغالاة في تكريم ولادة مريم
العذراء، إذ يوجد هذا العيد في التّقويم الكنسيّ للكنيسة الأولى في نفس التّاريخ 8 أيلول، ما عدا بعض الكنائس (الأقباط) فإنّهم يعيّدون له في 26 نسيان. وهذا يدلّ على أنّه كان موجودًا قبل انعقاد المجمع المسكونيّ الرّابع .
إذ بدأت الكنيسة المسيحيّة المستقيمة الرّأي في أورشليم تعيّده منذ القدم، ففي القرن الرّابع الميلاديّ شيّدت القدّيسة هيلانة كنيسة على شرف ميلاد العذراء وسميت "كنيسة القدّيسة مريم" حيث ولدت. إذ عُمم هذا العيد في القرن الخامس الميلاديّ حيث ألّف بطريرك القسطنطينيّة أنا طوليس (447 – 449) نشائد له، وأيضًا القدّيس اندراوس الكريتي (66. – 74.) إذ وضع عظتين وقانونًا. ويرجّح بعض العلماء أنّ القدّيس رومانوس الحمصيّ ألّف خدمة العيد، ومن المحتمل أيضًا أنّه أدخله إلى كنيسة روما قبل البابا سرجيوس الأوّل (687 – 7.1) الذي كان يونانيًّا من جنوب إيطاليا (صقلّية)، والقدّيس يوحنّا الدّمشقيّ (64. – 753)، ويوسف السّتوذيتي ألّفوا ترانيم وصلوات لا تزال الكنيسة تمجّد بها العذراء مريم، وأقام له البابا انوشنسيوس الرّابع (125.) خدمة له لثمانية أيّام. كما أقام له القدّيس غريغوريوس الحادي عشر تقدمة أو بارامونا في القرن الرّابع عشر. 
لا يستند هذا العيد إلى الكتاب المقدّس، إنّما إلى مصادر الابوكريفيّة وإلى مؤلّفات القدّيس ابيفانوس القبرصيّ والقدّيس ايرونيموس وغيرهما، لكنّ التّقليد الكنسيّ حافظ على المعلومات التي تساعد في كشف الحقيقة الكتابيّة والعقائديّة، وهي أنّ مريم هي من نسل داوود وأنّها أيضًا حظيت بولادة عجائبيّة إذ حلّت والدتها من العقر فأنجبت العذراء المختارة التي ستقدّم الطّبيعة البشريّة لكلمة اللّه.
تجدر الإشارة أنّه لم ترد أيّ إشارة في الأدب الابوكريفيّ وأيضًا في مؤلّفات القدّيسين كما في التّقليد الكنسيّ وصلوات العيد إلى "الحبل بلا دنس" الذي حدّدته الكنيسة اللّاتينية من الأمور العقائديّة سنة (1868)، إذ يقول صاحب الغبطة اغناطيوس الرّابع (هزيم): "… العذراء شخص إنسان مثل أبوها آدم وأمّها حواء مثلي، العذراء تشاركني طبيعتي في ملئها. فقد ولدت مثلي، وكبرت مثلي، ولكنّها لم تفعل الشّرّ كما أفعل... وإذا كان المسيح قد أخذ منها جسدًا فلأنّها وإياي واحد، إذ المسيح أخذ جسدي ليرفعه ويقدّسه… لكنّها مثلي تخلّصت بالمسيح ابنها لا قبل حبلها به ولكن مع الحبل تمامًا." (مجلّة النّور 1954 العدد 5) .
ليتورجيّة العيد :
تعطي التّراتيل والصّلوات فكرة واضحة عن هذا العيد حيث تتكشّف أهميّة هذا العيد لمن يتأمّل القراءات التي تقرأها الكنيسة بهذه المناسبة والتي تشير إلى تدبير اللّه الخلاصيّ أيّ بدء خلاص الجنس البشريّ .
القراءة الأولى: تشير أو ترمز إلى دور البتول في سرّ الفداء، إذ تتحدّث عن اللّيلة التي قضاها يعقوب في لوز ورؤية السّلّم المنتصب على الأرض ورأسه مرتفع إلى السّماء. هذا السّلّم يشير إلى العذراء، سلّم سرّيّ بين الأرض والسّماء وبيت اللّه الحقيقيّ ( تكوين 28).
القراءة الثّانية: تتحدّث عن طريق الباب المقدّس المغلق: "ورجع بي إلى الطّريق الباب المقدّس الخارجيّ المتّجه نحو الشّرق وكان مغلقًا فقال لي الرّبّ: إنّ هذا الباب يكون مغلقًا لا يفتح ولا يدخل منه لأنّ الرّبّ... قد دخل منه فيكون مغلقًا" (حزقيال 44: 1 –2). تشير هذه القراءة بحسب تفسير الكنيسة إلى بتوليّة مريم الدّائمة وأمومتها المعجزة البيان .
القراءة الثّالثة: تتحدّث عن: "الحكمة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السّبعة وذبحت ذبائحها ومزجت خمرها وهيّأت مائدتها وأرسلت جواريها تنادي على متون مشارف المدينة" (أمثال 9 –1). يشير هذا النّصّ إلى العذراء مريم بحسب تفسير الكنيسة، البيت الذي بناه اللّه الحكمة الفائقة ورسولة العليّ المرسلة إلى البشر لتدعوهم إلى مائدة الرّبّ .
بهذه المعاني السّامية والعميقة تعيّد الكنيسة لولادة العذراء مريم بالفرح والحبور كبيران: "هذا هو يوم الرّبّ فتهلّلوا يا شعوب … لتتزيّن الأرضيّات بأفخر زينة...". لاهوتيّة العيد :
إنّ ولادة مريم هو مصدر فرح وسرور للجنس البشريّ لأنّها هي التي ولدت المسيح الإله مخلّص العالم. مريم هي غاية تاريخ الخلاص وتمامه. وبما أنّ مريم عطيّة اللّه تخصّ الخليقة بأسرها فإنّ يواكيم وحنّة هما صورة هذه الخليقة التي ما لبثت مقيمة في العقر منذ أن سقط آدم وحواء في المعصية. وأيضًا بما أنّ يواكيم وحنّة هما صورة العالم العقيم كذلك مريم هي صورة العالم الجديد، صورة الكنيسة .
بولادة مريم قد انحلّ عقر يواكيم وحنّة، وأيضًا انحلّ عقر طبيعتنا باعتبارهما شأنًا واحدًا، بولادة مريم نجونا من الموت وبها تألّهنا .
إنّ سرورنا بولادة مريم هو سرور وفرح بالرّبّ يسوع وتهليل له. لا قيمة لمريم في ذاتها كما أنّ البشريّة كلّها لا قيمة لها في ذاتها. المسيح هو الذي جعل مريم أمّ الحياة، أمّ النّور. هذا الأمر كثيرًا ما ننساه فنتعامل مع مريم وكأنّها قائمة في ذاتها فالكنيسة المستقيمة الرّأي تسمّي مريم والدة الإله في كلّ التّراتيل والأناشيد الكنسيّة، لا تذكر مريم إلّا مقرونة بابنها يسوع المسيح المخلّص .
لذا تحيا الخليقة إذا أصبحت مكانًا للمسيح على مثال سكنى الرّبّ يسوع في أحشاء مريم .
إذًا رسالة مريم العذراء هي أن تنمّي فينا محبّة يسوع المسيح".