دينيّة
07 أيلول 2025, 13:00

من لآلئ أديار أنطاكية العظمى… دير صيدنايا

تيلي لوميار/ نورسات
إلى دير صيدنايا الّذي تتغنّى به كنيسة أنطاكية للرّوم الأرثوذكس، إلى نشأته تاريخه وقيمته، يسافر بنا خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض في مقال جديد، وفيه يكتب:

"إنّ أهمّ موقع بعد القدس وبيت لحم نسبة لقدسيّته وموقعه الخلّاب وجماله هو دير السّيّدة العذراء مريم في صيدنايا والكنيسة المكرّسة لها. هناك طريقان تؤدّيان إلى الدّير، كلاهما مبنيّ من أدراج شديدة الانحدار. يعود بناء الدّرج الأوّل إلى قرون عديدة وهو منحوت في صخرة، مشت عليه الألوف المؤلّفة من الزّوار والحجّاج منذ قرون. أمّا الدّرج الثّاني فهو حديث، عريض، مبنيّ من المرمر والرّخام. وقد جهّز بمصعد خارجيّ مخصّص للمتقدّمين في السّنّ، للعجزة والمعاقين الذين يتعذّر عليهم تسلّق السّلالم التي تؤدّي إلى بوّابة حجريّة صغيرة توصل إلى رواق حجريّ، ومنه إلى كنيسة السّيّدة العذراء مريم، الرّائعة والغنيّة بالأيقونات. إلى يمين الكنيسة المذكورة مزار، مقام السّيّدة العذراء، يدعى "الشّاغورة"، مزيّن ببروايز من الفضّة وبالهدايا الكثيرة تقدمة من المؤمنين لهذا المقام. إنّ السّجلات التي يمتلكها الدّير والمحفوظة في مكتبته تثبت أنّ أعمال البناء الأولى لهذا المقام المقدّس بوشر بها في سنة 547م. كانت صيدنايا آنذاك تجانب الطّريق الرّئيسة المودية من الشّمال إلى الجنوب باتّجاه القدس .
نشوء الدّير وتاريخه :
يُحكى أنّ الامبراطور البيزنطيّ "يوسطينيانوس أوّل" حين اتّجه على رأس جيشه لمحاربة الفرس، خيَّم بقرب صيدنايا للرّاحة، وراح يتجوّل في المنطقة بحثًا عن ماء ليروي ظمأه وظمأ جيوشه. كان يحمل القوس والسّهم لأنّه كان يحبّ الصّيد. ما إن غربت الشّمس وخيَّم الظّلام، حتى رأى غزالًا يقترب منه، لكنّ الغزال فرَّ هاربًا فتبعه الامبراطور مجهّزًا قوسه ليرميه بسهمه. وإذ به يراه واقفًا تحيطه هالة من النّور، فتبعه والغزال يتّجه نحو ينبوع ماء ويقف عنده. فوقف الامبراطور مندهشًا حين سمع صوتًا يقول له "يوسطينيانوس لتقتلني... عليك أن تبني كنيسة مكرَّسة لي في هذا المكان .
ذهل الامبراطور واختفت هالة النّور، عاد إلى المخيّم ونشر الخبر لدى المقرّبين إليه فما شاهد وما سمع يذهل حقًّا. وسرعان ما اتّخذ الامبراطور قرار بناء الكنيسة لكنّ التّنفيذ تأخّر بسبب خلاف بين البنّائين حول شكل الكنيسة وحجمها .
ذات ليلة ظهرت السّيّدة العذراء للإمبراطور في نومه وأعطته مخطّط الكنيسة الكامل فبناها طبقًا لذلك المخطط. لكنّ بناءها لم يستكمل إلّا مع نهاية حكمه، فزارها وصلّى فيها لمريم العذراء. إنّ شكل الدّير اليوم يختلف عن شكله الأصليّ. إذ اتّسع وأضيفت إليه تباعًا أقسام جديدة. توجد في الدّير أيقونة العذراء مريم يظنّ أنّها إحدى الأيقونات الأربع التي رسمها لوقا الإنجيليّ وكانت قدَّستها العذراء بلمسها بيدها .
يظهر أنّ الدير حصل على هذه الأيقونة بأعجوبة. هناك رواية تقول إنّ شخصًا أجنبيًّا، من المحتمل أن يكون يونانيًّا، كان مسافرًا لزيارة الأماكن المقدّسة في القدس، فتوقّف في دير صيدنايا حيث أمضى ليلة واحدة ليستريح من عناء السّفر. حين همَّ لمغادرة الدّير صباح اليوم التّالي، قابل رئيسة الدّير وشكرها. سألها إذا ما كانت تريد شيئًا من القدس فيحضره لها عند عودته. فتمنَّت عليه أن يحضر لها إذا أمكن أيقونة العذراء مريم فتحتفظ بها في الدّير. غادر الرّاهب الحاجّ متّجهًا إلى القدس ونسي الوعد الذي قطعه على نفسه بإحضار الأيقونة للرّئيسة. وفي طريق عودته من القدس تذكّر الوعد فعاد واشترى أيقونة العذراء مريم. ذات يوم هاجم لصوص القافلة التي كان يرافقها وشرعوا يقتلون التّجّار ويسلبون ما في حوزتهم من سلع وأموال. أمّا الرّاهب فما كان منه إلّا أن يصلّي خاشعًا للأيقونة وللّه طالبًا الرّحمة والنّجاة. هكذا استجابت لصلواته العذراء مريم. فهرب قطَّاع الطّرق ونجا وما نجا من أفراد القافلة والتّجّار. أدرك الرّاهب عندئذ أنّ للأيقونة قدرة هائلة فسوَّلت له نفسه الاحتفاظ بها لنفسه غير آبه بتسليمها لرئيسة الدّير التي طلبت منه جلبها. بعد التّفكير، غيَّر طريق العودة عوضًا أن يذهب باتّجاه صيدنايا اتّجه نحو مرفأ عكّا على البحر المتوسّط وامتطى سفينة باتّجاه اليونان. ما إن أبحرت السّفينة حتّى هبَّت عاصفة هوجاء شرع ركّابها يبتهلون إلى اللّه طالبين النّجدة ولم يتردّدوا في إلقاء أمتعتهم في البحر فهدأت العاصفة. حين رست السّفينة في المرفأ الذي انطلقوا منه، غادرها الرّاهب واتّجه نحو دمشق فبلغ صيدنايا قبل هبوط الظّلام. دخل الدّير من دون أن يعرّف عن نفسه، والرّئيسة من جهّتها لم تتذكره. ما إن دخل غرفته حتّى بدأت الأيقونة ترشح زيتًا مقدّسًا لكنّه قرّرَ عدم البوح بهذه الظّاهرة. مكث في الدّير فترة من الوقت مستفيدًا من ضيافته، وفي إحدى الأيّام حاول التّسلّل والهرب. ثمّ حاول مرّات عدّة وكانت كلّ محاولة تفشل، ثمّة قوّة خارقة كانت تحول دون رغبته وتعيده إلى الدّير. أدرك الرّاهب عندئذ سرّ هذه الظّاهرة فامتثل أمام رئيسة الدّير واعترف لها بكلّ شيء وسلّمها الأيقونة التي أحضرها معه من القدس. بقي في الدّير وراح يخدمه إلى أن وافته المنية .
وهذه الأيقونة "العجائبيّة" هي أمّ العجائب وقد ساعدت الكثيرين على الشّفاء من يسجدون لها مصلَّين خاشعين .
إنّ دير صيدنايا وكنيسته، مقام له قدسيّته لدى المسيحيّين والمسلمين على حدّ السّواء. تقام احتفالات في الدّير والكنيسة بمناسبة الأعياد السّيَّديّة وأعظمها في الثّامن من أيلول عيد مولد العذراء مريم. آمين."