مغامرة البحث عن قلب القدّيسة مريم ليسوع المصلوب الكرمليّة

"حتّى إعلان قداسة الرّاهبة مريم ليسوع المصلوب الكرمليّة في آب ٢٠١٥، لم يكن قد سمع عنها أو عن سيرة حياتها الإستثنائيّة بكلّ المعايير إلّا قلّة قليلة جدًّا من النّاس. إستثنائيّة حتّى بقداستها، بفقرها، بانسحاقها، بسموّ الإيحاءات التي حظيت بها، بسِماتها، بطاعتها، بنجاتها العجائبيّة من الموت على يد "إمرأة" ضمّدت جراحها بعد ذبحها، واعتنت بها في مغارة واختفت بعد شفائها العجائبيّ...

طبعًا ليس الهدف من هذا المقال، في ذكرى انتقالها في ٢٦ آب ١٨٧٨، التّعريف بهذه القدّيسة المشرقيّة الفلسطينيّة التي عاشت فترة من حياتها كخادمة عند إحدى العائلات في لبنان. فالرّهبنة الكرمليّة كتبت الكثير عن سيرتها وقداستها. وما لفتني في سيرتها هو ما ذكر عن حفظ قلبها في دير الكرمل في مدينة بو Pau الفرنسيّة حيث أمضت سنوات من حياتها هناك. وقد فاح عرف قداستها في هذ الدّير، ممّا دفع الرّاهبات، بعد وفاتها في بيت لحم، بالمطالبة بقلبها وحفظه كذخيرة مقدّسة، قبل ما يزيد عن مئة سنة من إعلان قداستها. كما هي الحال مع الكثير من القدّيسين والقدّيسات، لا ينتظر المؤمنون الإعلان الرّسميّ للقداسة من قبل الكنيسة لتكريم القدّيس(ة) والتّهافت لطلب الشّفاعة.

كنت قد بدأت في تلك الفترة، بصفتي مسؤولًا عن التّمويل في تيلي لوميارونورسات، بتنظيم رحلات سياحة وحجّ دينيّ إلى مختلف البلدان الأوروبيّة، ومنها فرنسا لدعم رسالة هذا التّلفزيون. أحسست بطريقة لا شعوريّة بواجب المساهمة بالتّعريف عن هذه القدّيسة العظيمة التي أمضت كلّ حياتها بالفقر والخفاء. وبما أنّه ليس باستطاعتنا زيارة الأراضي المقدّسة حيث دفنت، لماذا لا نزور كرمل بو والتّبرك من قلبها. وعندها بدأت المغامرة...

صيف ٢٠١٥ بعد إعلان القداسة، كنت برفقة صديق في مدينة لورد في جنوب فرنسا عندما قررنا الذّهاب الى مدينة بو التي تبعد أقل من ساعة، للاستطلاع اللّوجستيّ ووضع هذا الموقع المميّز على برامجنا للسّياحة الدّينيّة. لتوفير كلفة استئجار سيارة، قدّم لنا صاحب الفندق، الذي تربطنا به صداقة وعلاقة تعاون، سيارته الخاصّة. وصلنا إلى المكان الذي قادنا إليه Google Maps على إنّه دير الكرمل في بو، ولكن لم يكن هناك لا من دير ولا من كنيسة ولا أيّ إشارة عن أيّ موقع دينيّ. طبعًا قمنا بالبحث مجدّدًا بالسّيارة ومشيًا على الأقدام في كلّ الاتّجاهات والشّوارع المحاذية، ولكن من دون جدوى. إنتقلنا بعد ذلك لنسأل المارّة والمحال المحاذية وعلمنا عندها أنّ الدير أقفل منذ سنوات طويلة ولا أحد يعلم أيّ شيء عن تاريخ الدّير، ناهيك عن راهبة متواضعة أجنبيّة وأمّيّة. أصبت عندها بخيبة أمل شديدة وأحسست أنّي لم أقم بالواجب الذي تعهدت به لنفسي، وقرّرنا العودة إلى لورد. في طريق العودة، فوجئنا ببلدة تدعى بيت آرام Bétharram فتوقفنا بدافع الاستغراب من هذا الإسم المشرقيّ القديم، الذي ننتمي اليه إتنيًا. قمنا بجولة سريعة أوصلتنا إلى موقع دينيّ يدعى "معبد سيّدة آرام" فيه كنيسة قديمة ملفتة. شيء ما لا أستطيع تفسيره منطقيًّا أعاد الأمل إلى قلبي، هل هو الإسم أم الكنيسة القديمة أم الإثنين معًا؟ ولكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل لأنّنا لم نجد أحدًا للتّحدّث معه، ولم يعد عندنا وقتًا كافيًا للبحث،لأنّنا نريد إعادة السّيارة لصاحب الفندق. بعد صلاة صغيرة في الكنيسة هممنا بالمغادرة وعند وصولنا إلى باب الكنيسة صادفنا كاهنًا عجوزًا يتقدّم بخطوات بطيئة فاستوقفناه. بعد شرح سريع لهدف زيارتنا علمت أنّ العناية الإلهيّة وضعت هذا الكاهن في طريقنا لأنّه يعرف من هي مريم ليسوع المصلوب ويعرف قصّة قلبها والأهمّ من هذا كلّه، مصيره. وقد أفادنا بأنّه قبل إقفال الدير منذ زمن وانتقال الرّاهبات إلى أديرة أخرى، دخل سارق الكنيسة وممّا سرق، ذخيرة القلب الموضوعة بمستوعب فاخر. بعد أيّام على السّرقة ولسبب مجهول، وجدت علبة ذخيرة القلب ملقاة على حافة النّهر الذي يمرّ في المدينة Gave de Pau ولكن فارغة. وعند سؤالي عن مكان وجود القلب بحسب اعتقاده، أجابني: في قعر المحيط الأطلسيّ.

إمتزج حزني على اختفاء قلب القدّيسة بفرحتي على إتمام المهمّة وعدم التّقصير في تسليط الضّوء على قدّيسي مشرقنا وبلادنا العظام. آملاً أن يتمكّن شعبنا بوقت قريب من زيارة الأراضي المقدّسة بدل تحمّل مشقّة وكلفة السّفر إلى بلدان بعيدة لزيارة معابد ومزارات وقدّيسين آخرين."