دينيّة
14 شباط 2025, 14:00

مارون الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ العاشق الإلهيّ

تيلي لوميار/ نورسات
تحيي الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة اليوم عيد ناسكها البارّ مارون الأنطاكيّ "أحد آباء برّيّة قورش" كما يقول خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض، والّذي أضاء في السّطور التّالية على حياة هذا القدّيس، فكتب:

"في الرّابع عشر من شباط من كلّ عام، تحتفل الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة بناسكها البارّ مارون الأنطاكيّ أحد آباء برّيّة قورش.

مارون هو من الأوائل الّذين اختاروا هذا النّمط من العيش في العراء في هيكل وثنيّ مهجور حوّله إلى كنيسة مسيحيّة. خصّه ثيودوروثيوس بالفصل الرّابع من كتابه (التّاريخ المصطفى من الله) المعروف خطأ لدى البعض بـ"تاريخ أصفياء الله"، فقال إنّه "كان زينة" في خورس من القدّيسين الإلهيّين، فشفى بصلاته عددًا كبيرًا من المصابين بمختلف الأمراض، وذكر في الفصل الحادي والعشرين أحد تلامذة مارون وهو يعقوب القورشي، فقد ذهب إلى أبعد ممّا ذهب إليه معلّمه، فعاش بلا خيمة ولا صومعة ولا كوخ ولا سياج، فكان سقفه فيه السّماء وحدها وكان يتحمّل تقلّبات الجوّ على أنواعها.

كان مارون من النّسّاك الأنطاكيّين الأوائل الّذين بدأوا في النّسك والرّهبنة إذ تبلورت هذه الحياة مع الزّمن في أسلوبين عامّين: حياة الشّركة حيث يعيش الرّاهب ضمن مجموعة من الشّركة يجمعهم نظام شركة تحت قيادة أب روحيّ. وحياة التّوحّد والتّنسّك، إذ يعيش فيها المتوحّد منقطعًا عن بقيّة العالم في أغلب أوقاته، فالنّسك في أنطاكية قديم قبل رهبنة أنطونيوس الكبير. ويؤكّد المستشرق Voobus وجود جماعات منتظمة رهبانيّة أنطاكيّة قبل النّسك في مصر، ويذكر المؤرّخ سوزمو أنّه وجد في النّصف الأوّل من القرن الرّابع أكثر من ثلاثين راهبًا نسكوا في سوريا الشّمالية والوسطى. ومن الآثار الباقية من الرّهبنة الأنطاكيّة القديمة في لبنان مدافن عجلون بين صور وصيدا، وهي مغاور مختلفة الحجم أصبحت مناسك للرّهبان في أوائل عهد الرّهبنة في السّاحل اللّبنانيّ، وهناك آثار أخرى قديمة في وادي قنّوبين ومزرعة مندرة (أصل كلمة "مندرة" الكلمة اليونانيّة "mandra" الّتي تعني رعيّة أو ديرًا) قرب تعنايل في البقاع. وأيضًا توجد بعض المغاور مختلفة الحجم في منطقة البترون.

إلّا أنّ هناك مصدران فقط يتكلّمان عن القدّيس مارون النّاسك. الأوّل: رسالة بعث بها القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ من منفاه من أرمينيا حوالي 404 أو 405 إلى مارون النّاسك. إنّ هذه الشّهادة لواضحة وأكيدة بأنّ الذّهبيّ الفمّ يعرف مارون النّاسك معرفة شخصيّة ويقدّر تقواه وفضائله فيطلب من منفاه أن يذكره بصلواته.

المصدر الثّاني هو ما كتبه ثيوذوسيوس أسقف قورش في كتابه (الحياة الدّينيّة) الّذي ألّفه عام 444 الّذي حرص على رسم لوحة رائعة عن القداسة النّسكيّة في المناطق الّتي أتى على ذكرها لذلك لم يروِ لنا قصّة كاملة لا عن ميلاد القدّيس مارون وحياته ولا عن أحواله إلّا إنّه كتب فصلًا خاصًّا عن مارون النّاسك وهو الفصل السّادس عشر الّذي أشار إلى طريقته في النّسك.

يقول أسقف قورش "إنّ مارون قد انزوى في جوار هيكل مهيّأ في الماضي لخدمة الضّلال القديم ونصب لذاته خيمة من الجلود المكسيّة بالوبر يلجأ إليها في أوقات الأمطار والثّلوج. (الفصل الحادي والعشرون) 

يضيف أسقف قورش أنّ مارون "قد اتّخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين حيث كان هيكلًا للشّياطين، وهذا الجبل اسمه الآن برساداغ كان مكرّسًا لعبادة ارطاميس برسيا parsaia قريبًا من بلدة اعزاز في حلب، فكرّسه القدّيس مارون وبنى قربه كوخًا صغيرًا ولكن قلّ ما استعمله.

القدّيس مارون طلب الكمال فاتّخذ قرارًا مصيريًّا بأن يقضي حياته في العراء فسكن في ذروة الجبل، وهذا الجبل اسمه الآن برساداغ كان مكرّسًا لعبادة ارطاميس برسيا قريبًا من بلدة اعزاز في حلب ليناجي ربّه في خلوات لا تنقطع.

هذا ما جعل أحدالعلماء "parsaia" يؤكّد أنّ القدّيس مارون هو مؤسّس أو زعيم حركة الحبساء في القورشيّة، فابتكر ألوانًا من التّقشّف وشظف المعيشة. 

خصّ الله القدّيس مارون بموهبتي شفاء الأمراض وطرد الشّياطين حتّى انتشرت شهرته كلّ الآفاق فتقاطر إليه من كلّ المناطق فشفى الأمراض من جميع الألوان ولم يلجأ إلى أدوات وعقاقير، أداته الوحيدة كانت الصّلاة الطّاهرة. وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان أيضًا يأتي للنّفوس بالعلاج المفيد شافيًا هذا من داء البخل وذاك من الغضب، حتى تحوّلت قورش إلى روضة مقدّسة. هكذا برز فلّاحًا مجيدًا في حقل الرّبّ.

مرض القدّيس مارون لأيّام كشف وهن طبيعته البشريّة وقوّة وحيويّة روحه. وقام نزاع شديد بين القرى المجاورة رغبة من كلّ منها في الاستيلاء على جثمانه. كان النّزاع على أجساد القدّيسين شائعًا جدًّا. أمّا تاريخ وفاة القدّيس مارون فمجهول، فهناك عدّة آراء حول وفاته. ما يهمّنا اليوم هو رسالة القدّيس مارون لنا، وهي أنّ القداسة هي السّرّ المضيء والفاعل لوجود الله المتعالي والمحوّل.

وتدعو الكنيسة الأرثوذكسيّة القدّيس مارون في صلاة المساء الكبرى "البارّ المتألّه العزم، المتوشّح باللّه، ومرشدًا إلى سبل الخلاص قولًا وفعلًا". ثم تضيف في صلاتها "مرشدًا حكيمًا ومثالًا نقيًّا للحياة في المسيح لكنيسة أنطاكية".

إلى جنّة عدن مارونُ انتقل، هناك يتألّق طبيعيًّا إذ ذبل الجسد، ويسكن في المدينة الرّحبة، بعد أن غادر الأرض في الرّابع عشر من شهر شباط."