قصة حياة القديس منصور دي بول
فخلال هذه الفترة تعرف منصور بلاهوتي أسر اليه أنه وقع بشكل مخيف في التجربة ضد الايمان. فساعده منصور على استعادة ايمانه ولكنه وقع هو نفسه في التجربة ذاتها. فراح يصلي، ويميت نفسه، لكنه كان يعيش في الظلام.
فكتب عندئذ "قانون الايمان" على خرقة وخيطها على قميصه الى جهة القلب. وكان كلما أحس أنه يقع في التجربة يضع يده على قلبه، وفي هذه الحركة كان يقوم بفعل ايمان. وهذه التجربة دامت ثلاث سنوات او اربعا ً ثم تلاشت. وفي اثناء تبديل ثيابه عند وفاته وجد الآباء على قميصه هذه الصلاة التي ظلت دائما ً ملصقة الى جهة القلب.
ثم تعرف منصور بـ Pierre de Bérulle، وهو شخصية مرموقة، فاتخذه مرشده الروحي. فعينه هذا في سنة 1612 كاهن رعية كليشي (Clichy)، وهي قرية قرب باريس. ثم استعاده ليعيّنه المعلم الخصوصي لـ Philippe Emmanuel de Gondi، اللواء المسؤول عن الاسطول الملكي البحري. ظن منصور أنه قد توصل أخيراً الى حيث كان يحلم دائما ً فهو قد تسلم وظيفة مرتبها يسمح له بالعيش في بحبوحة كما يسمح له بمساعدة عائلته وبخاصة والدته التي كان يحبها كثيرًا. وفي الواقع لقد كان على خطأ كبير لأن الله كان قد أعدّ له مخططاً آخر.
وفي وسط شتاء سنة 1617 وخلال رحلة قام بها منصور مع عائلة De Gondi في أراضيهم، مرّ في قرية غان (Gannes) بالقرب من فولفيل (Folleville)، وهناك كان رجل ينازع. فاستدعي منصور، مرشد آل غوندي، فراح يستمع بصمت الى المحتضر الذي كان يتخبط خلال سنوات بالخطيئة لسبب عزة نفسه. وكان يخجل من الاعتراف بخطاياه الى كاهنه. أما الآن وقد اعترف بكل شيء فصرّح عالياً الى السيدة De Gondi التي كانت تزوره قائلا ً :"لولا هذا الاعتراف، سيدتي، لكنت من الهالكين !" وبموافقة السيدة De Gondi، ألقى منصور عظة حول ضرورة الاعتراف العام. وكان ذلك في 25 كانون الثاني من سنة 1617.
بعدها راح منصور يعرّف خلال ثلاثة أيام متتالية يعاونه بعض الكهنة. وهكذا اكتشف في الوقت عينه تعاسة الريفيين الروحية ورسالته الشخصية. فأسس بعد ثماني سنوات وبمساعدة السيدة De Gondi المالية جمعية رسالتها التبشير بالانجيل في الأرياف. واليوم يتابع هذه الرسالة آباء الرسالة الذين يسمّون أيضا اللعازريين والذين يبلغ عددهم خمسة الآف كاهن وأخ موزعين على أكثر من خمسين بلدا ً وذلك من أجل متابعة رسالة مؤسسهم، منصور دي بول.
وراح منصور يصغي اكثر فأكثر الى صوت الله يناديه كي يذهب بعيدا ً في خدمته وتبشيره. فأرسله مرشده الأب De Bérulle ليخدم رعية قرية تقع قرب ليون على بعد 300 كلم عن باريس، هي شاتيون لي دومب Châtillon-les-Dombes وهناك، وبينما كان يستعد لالقاء موعظة، جاء من يعلمه أن عائلة تموت من المرض والجوع في مزرعة نائية. فحصر عظته بهذا الموضوع بحيث حرك القلوب والمشاعر الى درجة حملت الريفيين للتوجه جميعا ً الى مساعدة تلك العائلة، ففهم منصور عندئذٍ ضرورة تنظيم المحبة ليؤمن استمرارها.
وكان ذلك في 23 آب سنة 1617. فأسس في الثامن من كانون الأول من السنة نفسها "أخوية المحبة" لمساعدة الفقراء مادياً وروحيا ً. سميت في البدء "سيدات المحبة" وهي التي اصبحت الأن "الجمعية العالمية للمحبة"، والتي تضم حوالي 250.000 امرأة في 42 بلدًا يعملن للدفاع عن حقوق الفقراء والمنبوذين من المجتمع ولترقيتهم الانسانية والروحية.
وعندما رجع منصور الى باريس، التقى مطران جنيف الشهير، François de Sales الذي عهد اليه بعد موته بادارة الجمعية التي كان أسسها وهي جمعية "راهبات الزيارة".
وفي 8 شباط 1619، عين منصور مرشداً روحيا ً عاما ً للاسطول الملكي البحري. فانصب مباشرة على العمل فراح يزور المحكومين بالأشغال الشاقة في هذا الاسطول في باريس ومرسيليا ويعظهم، ويرشدهم.
ثم نال في باريس سنة 1624 الاجازة في الحقوق وعيّن مدير مدرسة Bons-Enfants. فوضع السيد والسيدة De Gondi بتصرفه 37.000 ليرة ذهبا ً لكي يؤسس جمعية الرسالة. وهذا العقد موقع في 7 نيسان 1625.
وخلال 1624 ـ 1625 التقى منصور Louise de Marillac التي كانت تشعر أنها مندفعة لخدمة الفقراء. فاتكل عليها وارسلها لزيارة جمعية "أخويات المحبة" التي سبق وأنشأها في أثناء رسالاته الى الريف الفرنسي. لكن منصور وكذلك لويز فهما بسرعة ضرورة ايجاد أشخاص يكرسون كل وقتهم لخدمة الفقراء.
وفي هذا الوقت تقدمت من منصور Marguerite Naseau، راعية بقر فقيرة تعلمت بنفسها القراءة لكي تستطيع تعليم الآخرين. وقدمت نفسها وارادتها لخدمة الفقراء. فتقبلها كاشارة من الله تعالى، ولكنها سرعان ما قضت ضحية اندفاعها. ثم تقدمت فتيات أخر فاستقبلهن منصور وعهد الى لويز باعدادهن.
وهكذا نشأت في 29 تشرين الثاني 1633، جمعية بنات المحبة التي أراد منصور حصرها بخدمة الفقراء مادياً وروحيا ً. وراهبات المحبة اليوم يربو عددهن على 23.000، موزعات على القارات الخمس يناضلن ضد الفقر بجميع أشكاله.
وبعد أن أنجز منصور المخطط الذي رسمه الله له منذ سنة 1617، تابع عمله في الرسالة والمحبة شخصياً وبمعاونة مؤسساته خلال 43 سنة. لم يعمل فقط في فرنسا حيث تسلّم مسؤوليات في بلاط الملك Louis XIII الذي كان قربه، وهو ينازع على فراش الموت، وفي الكنيسة الفرنسية في صلب "مجلس الضمير"، بل أيضاً في اوروبا (ايرلندا و بولونيا) وحتى في أفريقيا الشمالية.
دأب دائما على العمل في خدمة الفقراء وفي تبشيرهم بالانجيل، وناضل ضد البؤس، والشقاء، والمرض، ولكن المرض قضى عليه في 27 ايلول سنة 1660 عند الساعة الرابعة فجرا ً ، في الساعة التي كان من عادته ان يستيقظ فيها. كتب شاهد يقول : "لقد توفي في كرسيه، قرب النار، مرتدياً ثيابه بالكامل، من دون مجهود ولا اختلاج. لم يبدل الاحتضار ملامحه، وبدا كأنه يكسيه جمالا ً وعظمة تعجب منهما جميع الناس".
في 13 آب 1720 اعلن البابا Clément XII منصور دي بول قديسا ً، وفي 16 حزيران عام 1737 سمّاه البابا Léon XIII شفيع جميع أعمال المحبة الموجودة أو التي انبثقت عنه. وفي فرنسا انه شفيع "المساعدة العامة (l’Assistance Publique)". وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيده في 27 أيلول من كل عام.