قديسو اليوم: 29 كانون الأول 2016
ولما عاد المجوس الى بلادهم دون ان يُعلموا هيرودس بمكان الطفل الالهي، غضب جداً وارسل فقتل جميع صبيان بيت لحم وجميع تخومها من ابن سنتين فيما دون، على حسب الزمن الذي تحققه من المجوس، فتمَّ المقول بأرميا النبي:" صوتٌ سُمع بالرامة، بكاءٌ مرٌّ، راحيل تبكي على بنيها وقد ابت ان تتعزى عن فقدهم!" (ارميا 31: 15). وشاء الله ان ينقلهم من عالم الشقاء الى حياة السعادة والبقاء. وتعتبرهم الكنيسة شهداء، وتعيِّد لهم شرقاً وغرباً لانهم قُتلوا وسُفكت دماؤهم من اجل المسيح.
قال القديس اغوسطينوس:"هنيئاً لهؤلاء الاطفال الابرياء الذين أهلوا لان يسفكوا دماؤهم من اجل المسيح من قبل ان ينطقوا باسمه القدوس. وما اسعد ميلادهم، انهم لم يدخلوا هذه الحياة الشقية الزائلة، بل بدأوا حياة سعيدة خالدة ومن ايدي امهاتهم انتقلوا الى ايدي الملائكة!".
اما هيرودس السفاح فقد مات شر الميتات كما يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس.
صلوات أطفال بيت لحم تكون معنا. آمين.
أطفال بيت لحم الشهداء (بحسب الكنيسة الارثوذكسية)
في ذلك الزمان، أتى إلى مدينة أورشليم مجوس من المشرق قائلين: أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (متى2:2). فاضطرب هيرودوس الملك، المعروف بالكبير، واضطربت أورشليم معه. كان الملك مريض النفس، شديد الخوف على ملكه، ظنّاناً ، شكاكاً بأهل بيته وأعوانه، بكل قريب وبعيد، حاسباً الجميع متآمراً عليه. ولم يكن خوفه من دون مبرّر ولو بلغ لديه مبلغ الوسواس. فقد حسبه اليهود مغتصباً لأنه آدومي من غير جنسهم، رغم أن الآدوميين كانوا قد اقتبلوا اليهودية عنوة كمذهب منذ بعض الوقت (في حدود السنة125ق.م). ولما كان هيرودوس قد تزوّج عشر نساء فقد أنجبن له ذكوراً كثراً كلهم اشتهى الخلافة حتى بات القصر مسرحاً لعشرات المؤامرات والفتن. في هذا الجو الموبوء، المشحون، الحافل بالمؤامرات والمكائد، لجأ هيرودوس إلى التصفية الجسدية، ففتك بأبرز أعضاء مشيخته وبزوجته مريمني وأمِّها الكسندرا وابنيها وورثته وخيرة أصدقائه. وكان مستعداً للتخلّص من أي كان إذا ظنّ أنه طامع بملكه. لهذا السبب كان لخبر المجوس عليه وقع الصاعقة، فاستدعى، للحال، رؤساء الكهنة والكتبة وسألهم أين يولد المسيح. قبل ذلك كان الجو عابقاً بالحديث عن المسيح الأتي. ولم يكن هيرودوس غريباً عن أحاديث الناس، لاسيما وقد ارتبطت صورة المسيح في الأذهان باسترداد المُلك المغتصب وعودة اليهود إلى الواجهة. لهذا كان هيرودوس معنياً بالأمر بصورة مباشرة. وإذ فهم أن بيت لحم اليهودية هي المكان اصطنع حيلة للقضاء على الصبي، فاستدعى المجوس، سراً، واستعلم منهم منذ كم من الوقت ظهر لهم النجم. هذا كان من المفترض أن يعطيه فكرة عن عمر الصبي. وإذ تظاهر بأنه مهتم بالسجود لمن يرومون هم السجود له أطلقهم إلى بيت لحم ليبحثوا عن الصبي، ومتى وجدوه أن يرجعوا إليه ويخبروه.
خرج المجوس إلى بيت لحم لا يلوون على شيء. لكن كانت للآخذ الحكماء بمكرهم حكاية أخرى معهم. فإن ملاك الرب هداهم، بهيئة نجم، إلى موضع الصبي فسجدوا وقدّموا له هدايا. وإذ همّوا بالعودة إلى بلادهم عن طريق أورشليم، أُوحي إليهم في حلم الليل فانصرفوا في طريق أخرى. أما الصبي وأمه فأخذهما يوسف، بأمر الملاك، وانحدر بهما إلى مصر.
انتظر هيرودوس بفارغ الصبر عودة المجوس فلم يعودوا ولا أرسلوا له خبراً بشأن الصبي. ولما طال انتظاره، على غير طائل، تيقّن أنهم سخروا به وخدعوه، فاستبدّ به غضب شديد وقام فأرسل إلى بيت لحم والتخوم وقتل جميع الصبيان فيها من عمر سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس.
هؤلاء هم الشهداء الأوائل الذين سقطوا باسم يسوع بعد ولادته بالجسد. كم كان عددهم؟ لسنا نعلم. قيل أربعة عشر ألفاً وقيل مائة وأربعاً وأربعين ألفاً (الأقباط). وهذا عدد رمزي، إشارة إلى المائة والأربع والأربعين ألفاً الواردين في سفر الرؤيا.
نصوصنا الليتورجية تقول عنهم إنهم "مقدِّمة للحمل الجديد الذي سيتألم ويُذبح لأجل خلاصنا" (صلاة السحر_قطعة الأبوستيخن الثالثة)، وقد حصلوا ذبيحة أولى لميلاد المسيح الإله الطاهر وقُدِّموا له كعناقيد، وصار لهم أن يتهلّلوا" لأنهم ذُبحوا من أجل المسيح" (صلاة الغروب- ذكصا الأيوستيخن).
هذا وقد اعتبر متى الإنجيلي الذي أورد خبر أطفال بيت لحم دون سائر الإنجيليّين، أقول اعتبر أن مقتلة الصبيان هي في خط إرميا النبي القائل: "صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين" (15:31). إرميا كان يتحدث عن القبائل المنتمية إلى راحيل، كأفرام ومنسّى، وهي في طريق السبي إلى آشور وربما بابل. نذكِّر بأن قبر راحيل كان قريباً من بيت لحم وان إرميا بعدما أشار إلى بكاء راحيل أردف قائلاً: "هكذا قال الرب. امنعي صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملك يقول الرب... ويوجد رجاء لآخرتك..." (إرميا31:16-17). ثم أضاف، في الإصحاح عينه: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً... أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً... سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم لأني أصفح عن إثمهم..." (إرميا31:31-34). من هنا يبدو مقتل أطفال بيت لحم رسماً لمعاناة إسرائيل في كل تاريخها وإيذاناً بتمام وعود الله بأنبيائه في شخص الصبي يسوع.
وفي هذا اليوم أيضاً : القديس البار مركللوس الآفامي رئيس دير الذين لا ينامون
من عائلة غنية عاشت في آفاميا السورية. تيتّم شاباً صغيراً فانتقل إلى أنطاكية ليدرس العلوم الدنيوية. لم يطل به المقام هناك حتى أدرك بطلان ما خرج من أجله. استهوته مواعيد الخيرات السماوية في الكتاب المقدّس. وزّع ممتلكاته على الفقراء ثم ترك موطنه وسافر إلى أفسس. هناك أخذ يحصِّل لقمة عيشه خطّاطاً. رفيقه في العمل ومعلّمه في حياة الفضيلة كان عبداً يدعى بروموتس. هذا كان يوزّع أكثر أجره على المحتاجين وبعد قضاء نهاريه في مشغل الخط كان ينصرف ومركلّلوس للصلاة الليلية في الأديرة والكنائس التي كانت تنفتح أمامه من ذاتها. انتهى إليه خبر الكسندروس السوري الذي كان قائداً عسكرياً فزهد في الدنيا وترك العالم ليؤسّس، سنة 402م، ديراً على ضفاف نهر الفرات. هناك اجتمع إليه أربعمائة راهب. ثم انتقل إلى نواحي القسطنطينية فأسّس ديراً آخر بثلاثمائة راهب قريباً من كنيسة القديس ميناس. وإذ كان الكسندروس مهتماً بالصلاة المتواصلة فقد وزّع رهبانه على ستة أجواق كانت تتناوب الصلاة في الكنيسة على امتداد أربع وعشرين ساعة في اليوم. لهذا لقِّب الكسندروس بالذي لا ينام وكذلك ديره، وصارت طريقته نمطاً رهبانياً اجتذب الكثيرين. فلما سمع مركللوس عن هؤلاء الملائكة الأرضيين انضمّ إليهم، لكن اضطر الكسندروس ورهبانه أن يغادروا القسطنطينية بعدما تحرّك حسد بعض الأديرة عليهم لنجاحاتهم فانتقلوا إلى بريّة غومونا في بيثينيا إثر اتهامهم بالمسّاليانية. مركلّلوس كان في عداد الذين غادروا وقد اقتنى فضائل جمّة حتى أضحى من أكثر رهبان ديره إشعاعاً. فلما دنت ساعة الكسندروس قام مركلّلوس فترك الدير خشية أن يجعلوه رئيساً وأخذ يتردّد على النسّاك المشهورين في زمانه ليتعلّم منهم ويأخذ عنهم ما أبدعوا هم فيه. فلما بلغه أن أهل ديره اختاروا لهم يوحنا رئيساً عاد ليعمل في أحطَ الخدم. وقد جعلوه قيّماً على حمار الطاحون. غير أن فضيلة القديس مركللّوس كانت بيّنة للجميع. وما لبث يوحنا، الرئيس الجديد، أن كلّفه بالعناية الروحية بالإخوة، وكان يأخذ بمشورته في أمور ديرية كثيرة. فعلى كلمته مثلاً انتقلت الشركة المتنامية إلى موضع أقل عزلة في ايرانيون، على الضفّة الجنوبية من البوسفور.
وما لبث يوحنا، رئيس الدير، أن رقد فاختار الإخوة مركلّلوس رئيساً جديداً عليهم. في عهده ذاع صيت دير الذين لا ينامون في كل مكان وصار طلاب الحياة الرهبانية يأتون إليه حتى من الغرب وفارس وأرمينيا. توزّع رهبان ديره على ثلاث مجموعات لغوية: اليونان واللاتين والسريان. هؤلاء كانوا يؤمّنون التسبيح الدائم لله. صار القديس مرجعاً لكل شأن رهباني حتى إن كل من رغب في تأسيس دير أو مؤسسة إحسان كان يطلب رعايته وإرشاده. أخذ يرسل تلامذته في كل اتجاه ليشرف على إنشاء الأديرة والمؤسسات. لما ضاقت بديره الأمكنة من كثرة القادمين إليه جاءه رجل اسمه فارتريوس فترهّب هو وأولاده جميعاً ووهب الدير ثروته الطائلة. كذلك لما رغب ستوديوس البطريق أن يؤسس ديراً في القسطنطينية سنة 463م، وهو الدير الذي اشتهر فيما بعد وعرف دير ستوديون، أقول لما رغب ستوديوس في ذلك دعا مركلّلس إلى استلامه وتنظيمه. على هذا النحو صار دير الذين لا ينامون. في أيام مركلّلس، بمثابة منظّم للحياة الرهبانية وأحد أبرز المراكز الثقافية اللامعة. فقد احتوى على مكتبة غنيّة وكان فيه عدد كبير من الرهبان يهتمون بالنسخ وزخرفة المخطوطات التي أخذت تنتشر في كل أنحاء الإمبراطورية.
إلى ذلك برز مركلّلس كأحد أشد المدافعين عن الإيمان الأرثوذكسي في وجه أوتيخيوس وسواه من الهراطقة. وقد لعب دوراً مهماً في مجمع خلقيدونية. كما حرّك الشعب والرهبان، بمعية البطريرك جنّاديوس، للحؤول دون حصول باتريكيوس الآريوسي على لقب قيصر. هذا حدث في زمن لاون الإمبراطور (457 – 474م). وقد منّ الرب الإله على مركلّلس بموهبة صنع العجائب وشفاء المرضى. صار ملجأ للفقراء والمحتاجين وكان محباً للتوزيع. بالمقابل كان الرب الإله يزيد خيرات الدير أضعافاً. ولما مات أخوه وانتقلت إليه ثروته الكبيرة لم يحتفظ منها لديره بشيء بل وزّعها برمّتها على الأديرة الفقيرة المحتاجة.
مما يروى عنه أن مجاعة ضربت الناحية التي كان فيها دير الذين لا ينامون. فقصده بعض الفقراء وسألوا عون القدّيس مركلّلس. فاستضافهم ثم استدعى ناظر الصندوق وسأله كم عنده في الصندوق من المال؟ فأجاب: عشرة قطع فضية! فأمره أن يعطي كل ما لديه للرجال الفقراء. ففعل لكنه احتفظ بقطعة فضية واحدة لأنه قال إن وضع المجاعة آخذ في التفاقم. فجأة زار الدير أحد الأغنياء وسلّم الرئيس تسعين وزنة من الذهب. فما كان من القدّيس مركلّلس، الذي عرف بروحه ما حدث، سوى أن استدعى ناظر الصندوق وقال له: "لقد شاء الرب الإله أن تكون لنا مائة وزنة عبر هذا الرجل التقي. ولكن لأنك لم تطع ما أمرتك به واحتفظت بقطعة فضيّة فقد أمسك المولى عنا عشرة وزنات!".
كذلك كان مركلّلس ملاذاً للمظلومين، لا يتردّد عن احتضان الضعفاء والدفاع عنهم حتى الأباطرة كانوا يعتبرونه معلماً لهم ويطلبون منه النصح. أما للنفوس المضنكة بثقل الخطيئة فكان شفيعاً حاراً ومعزّياً رفيقاً رؤوفاً. كما أن كل الذين كانوا يعودون إليه تائبين من الرهبان كان يقتبلهم بفرح. كان الكل للكل على قياس محبة الله الفائضة في قلبه. وقد بقي كذلك إلى أن رقد في الرب بعد ستين سنة من الحياة النسكية، قرابة العام 484م.
تذكار القديسين الشهداء الأطفال الذين قتلهم هيرودس في بيت لحم (بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)
لماّ مرّ المجوس، في طريقهم إلى بيت لحم، بمدينة أورشليم، وزاروا الملك هيرودس، واستخبروه إبن المولود ملك اليهود، إضطرب هيرودس وكل أورشليم معه، لأنّه لم يكن أقرب من اليهود إلى الثورة على السلطات الغريبة، ولاسيّما على هيرودس الأدومي العاتي المستبد. لقد خاف هيرودس أن يكون النبأ الذي أتى المجوس يحملونه مثيراً للحماسة الوطنيّة، الكامنة في قلب اليهود كمون النار تحت الرماد. فقرّر أن يحتال على ذلك الصبي ويهلكه، ولاسيّما إذا صح القول أنّه المسيح، الذي ينتظره اليهود، أجيالاً بعد أجيال، ليملك على الدنيا. ولمّا علم أن المسيح يولد "في بيت لحم اليهودية، دعا المجوس سرّاً وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم قائلاً: إذهبوا وابحثوا عن الصبّي متحققين. وإذا وجدتموه فأخبروني، لكي أذهب أنا أيضاً وأسجد له".
أمّا المجوس، فيعد أن "وجدوا الصبيّ وقدّموا له هداياهم، من ذهب ولبانٍ ومر"، معترفين به أنّه ملك وإله وأنسان، "أوحي إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس. فرجعوا في طريق أخرى إلى بلادهم". "حينئذٍ لمّا رأى هيرودس أن المجوس قد سخروا به غضب جدّاً. وأرسل فقتل كل صبيان بيت لحم وجميع تخومها، من إبن سنتين فما دون، على حسب الزمان الذي تحققه من المجوس. حينئذٍ تم المقول بأرميا النبي القائل: صوت سمع بالرامة، بكاء وعويل كثير راحيل تبكي على بنيها، وقد بدأت أن تتعزّى، لأنّهم ليسوا بموجودين".
أن قتل هؤلاء الأطفال، على هذه الطريقة الوحشية، لهو من الحوادث الفظيعة، التي يسطّرها التاريخ للطغاة المستبدين بالخزي والعار. وقد إختلف المؤلّفون كثيراً في تحديد عدد أولئك الأطفال الأبرياء، الذين ذهبوا ضحيّة شراسة هيرودس. فمنهم من جعلهم عشرات آلاف. ومنهم من لم يجعلهم يتجاوزون المئة الأولى. ومهما يكن من ذلك، فالكنيسة أرادت أن تكرّمهم، لأنّهم قُتلوا في سبيل السيّد المسيح، وأن لم يكونوا شهداء بحصر المعنى، كما تكرّم كل أمّة ضحايا الحرب من أبنائها، وأن لم يسقطوا في ميدان الوغى وساحة الجهاد. وهي تعلّمنا بذلك أن نعتدّ ذواتنا بأن نضحّي بكل ما لدينا، لصيانة الإيمان والنعمة في قلوبنا.
وفي مثل هذا اليوم أيضاً : تذكار الأب البار مركلس، رئيس دير الذين لا ينامون
ولد مركلس في مدينة أماسيا، من أعمال سوريا، في أوائل القرن الخامس. وكان والداه من أعيان تلك الجهّات، ومن المشهود لهم بالفضائل والتقوى والمبرّات. فعنيا بتربيته، فتثقّف في العلوم، وتزيّن بالفضائل، وأضحى من خيرة الشبّان فضيلة وثقافة ومالاً وأدباً.
ومات والداه وهو في عنفوان الشباب، فلم تغرّه الثروة التي ورثها عنهما، ولم تُغوه الحريّة التي آلت إليه من بعدهما بل خاف على نفسه من ثروته ومن حريّته، فترك مدينته وأخاه وأقاربه وأصحابه لكي لا يؤثّروا فيه بالسوء، طمعاً بدراهمه. وقصد أنطاكية وجوارها، حيث كانت العيشة النسكيّة والرهبانيّة زاهرة. فصار ينتقل بين الأديار، ويعاشر رجال الله الأتقياء، ويكثر من قراءة الكتب المقدّسة، فصغرت الدنيا في عينيه. فأخذ في توزيع أمواله على الفقراء عملاً بوصيّة المسيح الذي جعل الفقر أساس الكمال المسيحي.
ثم ترك أنطاكية وسار إلى أفسس، حيث سمع بوجود أناس قد اشتهروا بالقداسة، ليأخذ عنهم ويستفيد من طريقتهم. وكان هناك بين هؤلاء راهب يُدعى طروثومس وكان الله قد وهبه صنع العجائب. فتتلمذ له، ونجح كثيراً في الحياة الروحيّة على يده. فعزم على ترك الدنيا والتفرّغ لعبادة الله. فوزّع على المساكين ما بقي له من المال، وأخذ يجدّ ويشتغل بيديه، ليأكل خبزه بعرق جبينه. ولمّا كان ذا خطّ جميل، جعل ينسخ الكتب بالأجرة، لكي يعيش منها. وكان يمارس أنواع الإماتات وقهر النفس ويخصّص أوقاتاً طويلة للصلاة والعبادة والتأمّل.
وبقي مركلس أياماً في أفسس، يشتغل ويتعبّد، ويتضرّع إلى الله لكي يلهمه إلى ما به إرادته ورضاه. فسمع بوجود دير في القسطنطينيّة لرهبان يُدعون بإسم "الأكميطون" أي الذين لا ينامون. فشعر في نفسه أن الله يدعوه إلى تلك الحياة الملائكيّة. وكانت طريقة أولئك الرهبان أنّهم ينقسمون إلى ست فرق، تتناوب ليل نهار في الخورس في تلاوة التسابيح وترتيل المزامير، فلا يسكت لهم صوت ولا يفتر لهم تسبيح. فترك أفسس وسافر إلى القسطنطينيّة، ودخل إلى ذلك الدير. فقبله أهله بفرح لمّا وقفوا على ماضيه وعرفوا سيرة حياته.
فعاش مركلس في ذلك الدير عيشة النعيم، لأنّه وجد فيه هناء قلبه وراحة أفكاره. وجدّ في اكتساب الفضائل الرهبانيّة، فصار قدوةً لأهل الدير الرهبان، بطاعته وإماتة حواسه، ومواظبته على الصلاة، وقيامة بواجبات دعوته، حتى كسب إحترام الجميع واعتبارهم.
ورقد بالرب الرئيس ألكسنذرس، مؤسس ذلك الدير, فاتّفق الرهبان على إقامة مركلس رئيساً عليهم. فمانع كثيراً في الأمر، ولكن بلا جدوى. فلمّا رأى إصرارهم على ذلك، هرب من الدير وتوارى. حينئذٍ أقام الرهبان الأب يوحنّا رئيساً عليهم، وتركوا مركلس وشأنه. فلمّا علم بما صار، رجع إلى الدير، وقدّم الخضوع للرئيس الجديد، وعاد إلى مألوف حياته وعباداته. وكان لشدّة تواضعه لا يرى ذاته أهلاً لأن يسوس غيره من أخوته.
لكن الرئيس يوحنّا لم يشأ أن يترك تلك الفضائل السامية، التي كان مركلس يزيّن نفسه بها، من غير أن يستفيد منها لمنفعة ديره ورهبانه. فأشركه معه في إدارة ذلك الدير الكبير وسياسة أهله. فاضطرّ مركلس أن يقبل ما فرضته عليه الطاعة من العمل، وسار بوظيفته بكل نشاط، بلا كلالٍ ولا ملل فدبّ الحسد في قلب بعض الرهبان وراحوا يتذمّرون على الرئيس، ويتحزّبون ضد مركلس، وينتشرون حولهم روح العصيان.
وحجّتهم في ذلك أن رجلاً يصغرهم سنّاً وقدراً وفهماً ودراية، يتقدّم عليهم ويرأسهم، ويتصرّف بغباوة في أمورهم. فساد البلبال في ذلك الدير الهادىء الأمين. فتألّم مركلس كثيراً في قلبه من تلك النقائص، التي كان يجب أن يتنزّه عنها رجال جعلوا حياتهم وقفاً على الطاعة والتواضع والتجرّد، وذهب يتضرّع إلى الرئيس أن يعفيه من وظيفته، حباً بالسلام ومنعاً للبلبال والخصام.
فعزله الرئيس يوحنّا عن تلك الوظيفة، وأعاده إلى رتبة راهب بسيط. ولكي يبيّن لأولئك المتذمّرين طيشهم وقلّة فضيلتهم، ويظهر أمام الملا كمالات مركلس الرهبانيّة، عيّنه في أحقر وظائف الدير، ووكّل إليه خدمة الإسطبل والحمير. فقبل مركلس تلك الوظيفة بشكر وفرح، وطلب إلى الرئيس أن يقبل منه صكّاً يوقّعه له بأنّه مستعد أن يقوم بتلك الخدمة إلى آخر حياته. وراح يُحسن عمله الجديد، بكل جدّ ونشاط وتقوى ومحبّة الله، عارفاً وموقناً أن خدمة الحمير بإسم الطاعة، لا تقل شرفاً أمام الله، ومجداً وأجوراً سماوية، عن خدمة النفوس والتفرّغ للمطالعة والتأليف والدروس.
إلاّ أن أخوانه مركلس الرهبان، لمّا لمسوا بأيديهم تواضعه العميق وتجرّده الكامل خجلوا ممّا فعلوا، وندموا على ما عملوا، وذهبوا إلى الرئيس معترفين بخطاياهم، وأخذوا يُلّحون عليه لكي يعيد مركلس إلى وظيفته وإلى رئاسته. فكان مركلس أول المعارضين وأول المانعين. وبقي في إسطبله مع حميره.
وما لبث أن رقد بالرب الرئيس يوحنّا. فأجمع الرهبان كلّهم على انتخاب مركلس رئيساً عليهم، وألزموه بالرئاسة. فقبلها مُرغماً، وقام يدير ذلك الدير الكبير، بما عُرف به من روح الغيرة والتفاني والحكمة. فازدهرت الفضائل الرهبانية بكل بهائها وجمالها، وتكاثر عدد الرهبان، فضاق بهم ذلك المكان.
وطار صيت قداسة مركلس في الآفاق. فاقبل عليه الشبّان والرجال، يتتلمذون له ويسيرون بحسب طريقته. فأنشأ لهم الديورة الكثيرة، على نظام الدير الأساسي، وانتشرت تلك الرهبانيّة إنتشاراً كبيراً في طول البلاد وعرضها.
وكان مركلس، كلّما ازداد عمله نموّاً إزداد هو تواضعاً ولنفسه إماتة. فشرّفه الله بصنع العجائب. وصارت تأتيه الناس حاملة أسقامها. فكان الطبيب الشافي لآلام النفوس وأوجاع الأجساد. وامتاز مركلس بفضيلة محبّة القريب والشفقة على المسكين. أن فضيلة الرحمة كانت دائماً الشعار الحقيقي للديورة وللرهبان.
ومات الأخ الوحيد لمركلس. فورث هذا عنه أموالاً طائلة، وأخذ ينفقها في سبيل المساكين والمعوزين، وفي إنشاء الأديار وتنظيمها وتسييرها. وكان يبذل الدرهم بسخاء سرّاً، من غير أن يعلم به أحد، في سبيل المجتاجين والمأسورين. وهجم البرابرة مرّةً على أطراف المملكة، وأخذوا بين الأسرى ثلاثة من الأساقفة. فدفع مركلس مبلغاً كبيراً من المال، وافتداهم من الأسر، وأعادهم إلى أبرشياتهم.
وكان مركلس من كبار جنود الإيمان المستقيم ضد بدعة أوطيخا وجماعته، فمدحه على ذلك مدحاً فخماً جمهور الكتبة الكنسيين، ولاسيّما ثاوذوريطس أسقف كورش.
وعاش مركلس طويلاً، حتى شاخ وامتلأ من النعم ومن الإستحقاقات السماويّة. فكان شخصية كبيرة في الكنيسة في ذلك القرن الخامس، بقداسته وحكمته وأيمانه وإدارته وعجائبه. ورقد بالرب بسلام نحو 485، تاركاً إسماً مجيداً وأعمالاً عظيمة وذكراً سوف يدوم إلى الأبد.
نياحة حجى النبى أحد الأثنى عشر نبيا الصغار (بحسب الكنيسة القبطية الارثوذكسية)
في مثل هذا اليوم تنيح الصديق حجي النبي. كان هذا البار من نسل هرون الكاهن من قبيلة لاوي. وهو أحد الاثني عشر نبيا الصغار. ولما سبي نبوخذنصر الملك يهودأورشليم وأخذهم إلى بابل، كان والدا هذا النبي من جملتهم، فرزقهما الله به هناك. وقد عاد إلى أورشليم صحبة زربابل الوالي ابن شالتيئيل وسائر الشعب. وتنبأ في السنة الثانية من ملك داريوس ملك الفرس الذي ملك سنة 3484 للعالم، أي بعد رجوع بني إسرائيل من سبي بابل بخمس عشرة سنة. ووجه هذا النبي نبوته بأمر الله إلى زربابل ثم يهوشع بن يهو صادق الحبر العظيم، تحريضا لليهود علي إتمام تجديد هيكل سليمان بن داود. الذي كانوا قد ابتدئوا في تشييده بعد رجوعهم من السبي. ثم انصرفوا عنه إلى إقامة بيوت لهم. فبكتهم النبي علي سكناهم في بيوت مزينة وبيت الله خراب. وقال لهم إن لم يهتموا ببيت الله ويبنوه كما ينبغي فان الرب يقطع أرزاقهم، ويقلل البركة من تجارتهم. فسمع أبرار الشعب قوله وخافوا وعيد الرب، وبنوا البيت كما ينبغي. وقد أعلن للشعب بعد الفراغ من بنائه إن الرب قد سر بذلك. وعاش هذا النبي اكثر من سبعين سنة، وسبق مجيء السيد المسيح بأربع مئة ثلاثون سنة. وتنيح بسلام ودفن في قبر الكهنة بأورشليم. صلاته تكون معنا ولربنا المجد دائما ابديا امين.
وفي هذا اليوم أيضاً: استشهاد القديس إيليا أسقف دير المحرق بالقوصية
في مثل هذا اليوم تذكار استشهاد القديس إيليا أسقف دير المحرق بالقوصية. صلاته تكون معنا ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.