قديسو اليوم: 17 شباط 2017
ولمّا ثار الاضطهاد على المسيحيين، قبض عليه الوثنيون واذاقوه من العذابات ما كاد يودي بحياته، لكنّ الله ابقاه حياً لخير يرجى منه فمنحه صنع الآيات حتى اشتهرت قداسته وبلغت اسقف سينادا في فريجيا من اعمال آسيا الصغرى فاستدعاه واقامه معاوناً ورقاه شماساً ثم كاهناً. فأخذ يتفانى في خدمة النفوس. ولمّا توفي الاسقف، اختاره الشعب خلفاً له. فظهر راعياً صالحاً، مضطرماً بنار الغيرة على رعيته، دائباً في الوعظ والتعليم وعمل الخير ولا سيما في اغاثة البائسين والعناية بالفقراء، فاجرى الله بصلاته آيات باهرة. ثم رقد بالرب سنة 336. صلاته معنا. آمين.
وفي هذا اليوم ايضاً : تذكار البار كونرادوس
كان كونرادوس من مدينة بلازنسا في ايطاليا رجلاً غنياً متزوجاً. خرج ذات يوم للصيد واشعل ناراً، فأثارها الهواء في الزروع فاحرقت حقولاً كثيرة فهاله الامر واغتمَّ له جداً، ولكنه لم يبح بأمره، فوقعت الشبهة على رجل فقير، قبضت الحكومة عليه. ولمّا استنطقه القاضي، اقرّ تحت الضغط والضرب، فحكموا عليه بالاعدام. وما عرف به كونرادوس حتى هب ينقذ ذلك الفقير المظلوم. وقف أمام القاضي وأقرّ بما حدث، مبّرئاً المحكوم عليه، ومستعداً للتعويض عمّا اتلفته النار وان كان عن غير قصد، فأطلق القاضي سبيل المتهم، وغرم كونرادوس قيمة المتلف. فباع كل ما يملكه وامسى فقيراً. فاتفق مع زوجته على هجر العالم فذهبت هي الى دير للراهبات. ومضي هو الى صقلّية، حيث عاش ناسكاً لمدة اربعين سنة، لذلك منحه الله معرفة المستقبلات وصنع الآيات. وانتقل الى ربّه سنة 1351. صلاته معنا. آمين.
ماروثا أسقف ميافرقين (بحسب الكنيسة السريانية الكاثوليك)
كان ماروثا عالماً وطبيباً حاذقاً، وسافر مراراً إلى إنطاكية وبيزنطية. قال عنه عمرو: إنّه في سنة 381 حضر المجمع الذي عُقد في القسطنطينية ضد هرطقة الماقدونيين القائلين بأنّ روح القدس ليس هو الله. وذكر فوتيوس الرومي أنّه حضر أيضاً في المجمع المعقود في إنطاكية ضد هرطقة المصلّين سنة 383. وكتب سقراط وسوزومين أنّه تدخّل أيضاً في النزاع الذي جرى سنة (403-404) بين تاوفيلوس الإسكندري ويوحنّا الذهبي الفم. وممّا اشتهر به ماروثا أنّ قياصرة الروم أرسلوه مراراً إلى المدائن لعقد الصلح بين المملكتين الرومية والفارسية. وأولى سفرته كانت عند جلوس يزدجرد الأول على سدّة الملك سنة 399. فذهب ماروثا إلى القسطنطنية عند الملك أركاديوس (395-408) يسأله أن يكتب إلى يزدجرد حتى يرفق بنصارى مملكته ويكفّ عن أذيّتهم. وقبل إنّ سبب ذهاب ماروثا إلى ساليق للمرّة الأولى هو أنّه عالج يزدجرد من مرض أعيا أطّباء فارس. لأنّ ملك الملوك كان قد أرسل إلى أركاديوس يطلب منه طبيباً حاذقاً، فأرسل إليه ماروثا وكتب إليه كتاباً يطلب فيه أن يحسن إلى النصارى ويزيل الأذى عنهم. فعالج ماروثا يزدجرد وأبرأه من علّته فأكرمه يزدجرد وأزال الأذى عن النصارى. وفي تلك السنة عينها انتُخب مار اسحق جاثليقاً خلفاً لقيوما.
وبعد أن أكمل ماروثا سفره هذا الأول، رجع إلى القسطنطينية سنة 404، وكان في تلك الأثناء قد توجّه تاوفيلوس الإسكندري إلى العاصمة لعزل مار يوحنّا الذهبي الفم. ويظهر أنّ ماروثا تحزّب لتاوفيلوس ضد مار يوحنّا. فإنّ هذا القدّيس كتب رسالتين إلى أسقف ميافرقين، ورسالة إلى أولمبياديس يطلب إليها أن تبذل جهدها في استمالة ماروثا على ترك حزب الإسكندري لأنّه يحتاج إليه كثيراً في أمور نصارى فارس. ويرجوها أن تسأل ماروثا عن سبب مجيئه إلى عاصمة المملكة وعن نجاحه في سفارته لدى ملك الفرس، وهل يتكهّن بنجاح سفره الثاني المقبل؟ وكانت أولمبياديس هذه من أجلّ وأفضل النساء في القسطنطينية.
ورجع ماروثا مرة ثانية إلى ساليق نحو سنة 408 وذلك إمّا لكي يبلّغ يزدجرد خبر جلوس ثاوذوسيوس الثاني مكان أبيه أركاديوس أو لكي يلقي الصلح بين أساقفة كنيسة المشرق الذين نشأ بينهم النزاع من جهة الرئاسة. وبمعونة يزدجرد الملك نجح نجاحاً تاماً في إصلاح أمور كنيسة المشرق وفي عقد مجمع في ساليق سنة 410. وبقي ماروثا هذه المرّة في بلاد فارس نحو ثلاث سنين فجمع قصص الشهداء الذين استشهدوا في إضطهاد شابور الثاني، وجمع أيضاً شيئاً كثيراً من ذخائرهم وحملها على عربات فاخرة وأتى بها إلى ميافرقين. ومنذ ذلك الحين سمّاها اليونان مارتيروبوليس وسمّاها الشرقيّون "مذينث ساهدي" أي "مدينة الشهداء". وأكرم يزدجرد ماروثاً كثيراً. وروى عنه سقراط: إنّ المجوس حسدوه حسداً عظيماً فأسمعوا الملك عند دخوله معبد النار صوتاً يقول: "ليخرج الملك من معبد النار فإنّه نجس لأنّه يكرّم أسقفاً نصرانياً". لكن ماروثا كشف عن مكرهم وطلب إلى الملك أن يأمر بحفر الملك الذي خرج منه الصوت، ففعل يزدجرد. وإذا برجل مخفي هناك في سرداب، فغضب ملك الملوك على المجوس وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ويظهر أنّه توفي قبل السنة 420 التي فيها عذد مجمع يهبالاها الجاثليق، فإنّنا في هذا المجمع عوضاً عن ماروثا نرى موفداً آخر من قبل الآباء الغربيين هو مار آقاق أسقف آمد.
إنّ كل الكنائس الشرقية والغربية أكرمت مار ماروثا، فاعتبره الشرقيّون كأحد الرسل، وأتى ذكره عندهم في 2 تشرين الأول، وعند السريان والموارنة والملكيين في 16 كانون الثاني، وعند اليونان واللاتين في 4 كانون الاول، وعند الأرمن في 29 كانون الثاني، وعند الأقباط في 22 مشير.
القديس العظيم في الشهداء ثيودوروس الأوخاييطي المجند (بحسب الكنيسة الارثوذكسية)
هو المعروف في التراث الرومي بالقديس ثيودوروس التيروني أي المجند أو المجند حديثاً، أو، وفق بعض التفاسير، المنتمي إلى الفيلق الترياني الذي كان فريقاً عسكرياً نخبوياُ عُرف المجندون فيه بالاستقامة والجرأة. ونحن آثرنا إضافة صفة "الأوخاييطي" عليه نسبة إلى أوخاييطا البنطية التي ضمت رفاته، أقله إلى القرن الحادي عشر. أما خبره فاستمددناه، بصورة أساسية، من عظة للقديس غريغوريوس النيصصي (330 – 394) ألقاها يوم زار ضريحه متبركاً في ناحية من نواحي البنطس لعلها أوخاييطا.
ليس موطن الشهيد معروفاً. نعرف فقط أنه كان مجنداً في الجيش الروماني وأن الفرقة التي انتمى إليها جاءت إلى أماسيا، في البنطس، لقضاء فصل الشتاء فيها. من أين جاء تماماً؟ لا نعرف. أماسيا، في ذلك الزمان، كانت من أبرز مدن البنطس. أما أوخاييطا، التي ارتبط اسم القديس بها، فتبعد عن أماسيا سفر يوم واحد، ولعلها أفخاط الحالية، شرقي البلدة التركية المسماة اليوم خورم. نقول هذا لأن أوخاييطا التاريخية التي في البنطس زالت ولم يعد هناك من دليل قاطع على مكانها، إلى الآن. القديس ثيودوروس لم يأت لا من أوخاييطا ولا من أماسيا. بعض الدارسين يظن أنه جاء من سورية أو أرمينية.
زمانه
زمان القديس، أيضاً، غير محدد تماماً. شهادة القديس غريغوريوس النيصصي، في شأنه، تفيد بأنه استشهد منذ ما يقرب من المائة عام من زمانه هو. وهذا ما يتراوح، في تقديرنا، بين العامين 275 وأوائل القرن الرابع الميلادي باعتبار أنه ليس واضحاً متى ألقى القديس غريغوريوس عظته. بعض المولعين بلغة الأرقام يجعل التاريخ الأول من آذار سنة 306م.
خبره
ترافق ورود ثيودوروس إلى أماسيا و "حرب دموية اندلعت، فجاة، في الأمبراطورية" على المسيحيين. فقد صدر مرسوم آثم هاجم به الشيطان الله مباشرة، عبر الحكام، مخيراً المسيحيين بين نكران الله الحي والموت. لهذه المواجهة انبرى "جندينا الجديد". كان قد نشأ على التقوى وامتلأ من الرب يسوع المسيح، وكان دستور إيمانه مطبوعاً على جبينه" رغم قلة خبرته في فن الحرب"، فبان رجلاً "كاملاً في علم القديسين وممارسة الفضائل". لم يستسلم للخوف ولا شحُب لونه من مرأى المخاطر، ولا صمت جبناً ولا حيطة وحذراً.
وكما اجتمع هيرودوس وبيلاطس على الرب يسوع، اجتمع حاكم أماسيا والمحكمة العسكرية على ثيودوروس. فلما أوقفوه أمامهم سألوه: " من أين أتتك هذه الجسارة....لتجرؤ على رفض الإنصياع لأوامر الأمبراطور، فيما كان عليك أن تقبلها بمخافة ووقار وأنت على ركبتيك! لم لا تُكرم الآلهة التي سُرّ الأباطرة أن يكرمها خدامهم؟ " فأجاب ثيودوروس بصوت واثق من دون أن تتغير مسحة وجهه: لست أعرف البتة آلهة كثراً، ولم يكن هناك أبداً غير إله واحد. فأنتم في الضلال إذ تطلقون على الشياطين اسم الله، وهي أرواح خبيثة محتالة. أما أنا فإلهي يسوع المسيح، ابن الله الوحيد. فمن رغب في الضغط علىّ لحملي على هجر إيماني، فليعلم إنه إن سعى إلى إجباري على ذلك بالسياط فله، بالأكثر، أن يمزقني. بمخالب من حديد وأن يزيد علىأدواته جمر النار، فلن ينتفع شيئاً. وإذا ما نفر من كلامي فله لساني، ليقطعه، لأن جسدي سوف ينعم بالغبطة إن توجع، في كل أعضائه، من أجل من خلقه.
على هذا المنوال أبطلت أقوال جندينا فخر الطغاة إذ رأوا شاباً يشتاق إلى الشهادة وهو مستعد لاقتبال العذاب بممنونية، ناظراً إلىالموت كعصير طيب من أجل يسوع.
ثم إذ وجد أحد الضباط الحاضرين في كلام ثيودوروس مادة للتهكم، طرح عليه سؤالاً وهو يبتسم بخباثة: "ماذا يا ثيودوروس، ألله ولد؟ كيف ذلك؟ أله أولاد كالناس؟ أله شهوات كشهوات الناس ويعرف مثلهم توترات الجسد؟" "كلا!"، أجاب ثيودوروس بنبرة قاطعة. "ليس الإله الذي أعبد عرضة للضعفات ولا لتوترات البشر النابية. صحيح أنه أولد ابناً لكنه أولده على نحو إلهي، وإيلاده العجيب لابنه هو إلهي بالكلية. أما أنت، يا أيها المتهكم الخبيث، فكيف تجعل من امرأة إلهة؟ أما تخجل من عبادة إلهة تعاني آلام الطلق وتنجب آلهة أطفالاً كما الأرنبة خرانقها والخنزيرة البرية خنانيصها؟" بهذا الجواب الفوري اللاذع أخرس القديس سخرية الضابط الوثني. غير أن المستبدين كظموا غيظهم وتكلفوا الظهور بمظهر التسامح. وإذ تصنعوا الطيبة قالوا: خير لنا أن نعطي هذا الأحمق وقتاً ليفكر عساه إذا ما أمعن النظر في ما هو فيه من ضلال يعود إلى جادة الصواب.
على هذا الرأي ترك القضاة ثيودوروس حراً لبعض الوقت وانصرفوا. وكان في أماسيا هيكل لأم الآلهة أقامه الوثنيون على ضفة النهر. هذا دخل القديس إليه وأشعل فيه ناراً، فأتت النار على المكان برمته، في ساعات قليلة، واستحال رماداً. وضجت المدينة! ماذا جرى؟ من الفاعل؟!
كان هذا جواب القديس لمحاكميه!
رفع ثيودوروس صوته عالياً: "أنا أحرقته!" لم يخطر بباله أن يتوارى، بل تباهى بعمل يديه كمن يستأهل عليه مجداً مخلداً. وإذ اعترف بفعلته ولم ينكر أخذ يسخر من الوثنيين علناً مستهزئاً بما كانوا يبدونه من أسف على خسارة هيكلهم وإلهتهم.
ثم أن القضاة أرسلوا فقبضوا عليه وأوقفوه أمامهم، فخاطبهم بثقة كاملة وحرية ضمير ملفتة. بدا كأنه لا في موقع المجرم بل من له سلطان فأفحمهم بكلامه. وإذ رأى القضاة أن ثيودوروس لم يفقد شيئاً من صلابته ولا بانت عليه علامات الخوف من التعذيب، بل استمر في الكلام بالثقة عينها التي أبداها أول أمره، عدلوا من لهجتهم وحاولوا استمالته بالوعود والإطراء، عارضين عليه رتبة رئيس كهنة لديهم. فسخر منهم وقبح عرضهم معتبراً كهنة الآلهة أشقى من في الأرض، ورؤساءهم مدعاة لا للشفقة بل للتقزز. لذا نصحهم بألا يتعبوا عبثاً بتقديم عروض تمجّها نفسه.
وأردف أنه خير لمن يريد أن يحيا في التقوى والبراءة أن يقضي زمانه مجهولاً وأن يكون صعلوكاً في بيت إلهه من أن يقيم في قصور الخطأة.
كذلك أبدى القديس شفقة على الأباطرة لأنهم عميان إذ يظنون أنهم يزيدون تيجانهم بهاء ولباسهم الأرجواني رونقاً إن تزيّوا بالزي الكئيب الذي يتزيّي به مقربوا الذبائح. إنهم لا يعرفون أن مثل هذه الوظيفة تحط من قدرهم وأنهم متى قاموا بها كانوا في موقع الطهاة، وهم الأباطرة، يقتلون الطيور ويطهونها، ويجوفون الحيوانات الميتة مستدعين من الناس الإحتقار والإزدراء، وهم كالجزارين ملطخة بالدم أيديهم وأثوابهم. وأثارت أقوال القديس سخط القضاة فأمطروه شتماً واتهموه بالكفر والتمرد، وأمروا به الجند فمددوه للتعذيب. وإذ أمعن جلادوه في تعذيبه لم يبدِ أية علامة من علامات الضعف بل أخذ يردد القول المزموري: "أبارك الرب في كل حين. تسبحته في فمي في كل آن"، حاسباً التعذيب واقعاً على غيره لا عليه. بعد جولة التعذيب ألقاه الجلادون في السجن. هناك انبعثت من السجن الأناشيد السماوية ليالي بطولها ومشاعلٍ لا عد لها أضاءت المكان. ولما أسرع الحراس إلى الداخل وجدوا الشهيد مرتاحاً وبقية المساجين يغطون في نوم عميق. أخيراُ ساد صمت عميق وحلت الظلمة دامسة.
بعد ذلك لما رأى القضاة أن جهودهم لاستعادة ثيودوروس ذهبت هباء وأن الوقت يزيده صلابة وثباتاً ويزيدهم بإزائه إحباطاً حكموا عليه بالموت حرقاً". وإذ تمت شهادته ترك لنا حياته مثالاً وموته إكراماً". وقد ورد في بعض المصادر القديمة كعظة خريسيبوس الكاهن الأورشليمي (479م) أن سيدة غنية اسمها أفسافيا أخذت رفاته وابتنت لها ضريحاً. ولعل موضع هذا الضريح كان، مذ ذاك، أوخاييطا.
الشهيد والقمح المسلوق
هذا ويحكى أنه في العام 361م لما سعى الأمبراطور يوليانوس الجاحد إلى رد البلاد إلى الوثنية عمد، وقد لاحظ أن المؤمنين يقدسون الأسبوع الأول من الصوم الكبير بالصلاة والصوم، إلى إعطاء الأوامر لحاكم مدينة القسطنطينية أن ينضح عماله المنتجات الغذائية في السوق بدم الذبائح المقدمة للأوثان. قصده كان أن ينجس المؤمنين في مأكلهم رغماً عنهم ويثير في صفوفهم البلبال. لكن الله الذي لا يُشمخ عليه أوفد خادمه ثيودوروس الشهيد إلى أسقف القسطنطينية أفدوكسيوس فتراءى له وكشف لعينيه ما أضمره الطاغية في حق المسيحيين، ثم أمره بأن يرعز إلى كل مسيحي بالامتناع عن شراء أي من المأكول المعروض في السوق وأن يستعيض عنه بالقمح المسلوق. وهكذا كان. لذلك اعتادت الكنيسة، مذ ذاك، أن تحفظ ذكرى هذه الأعجوبة في السبت الأول من الصوم الكبير كل عام ليتعلم المؤمنون من خلالها ملازمة الصوم والإمساك فيتنقوا من أدران الخطيئة وأدناسها.
شفاعة القديس
عندما تلفظ القديس غريغوريوس النيصصي بعظته على الشهيد الكبير، بدا كأن المكان، حول ضريحه، كان مكتظاً بالناس الذين أتوا من المدن والمناطق النائية مكابدين مشاق سفر بعيد مضن، واجتمعوا إليه في عمق فصل الشتاء والوقت ثلوج وصقيع. كان صيت الشهيد قد ذاع في كل مكان. ففي السنة التي سبقت هذا المحفل رد، كمحام عن المسيحيين، هجمة البرابرة السكيثين لما تراءى لهم وفي يده الصليب المقدس ونشر الذعر في صفوفهم فارتدوا على أعقابهم. وقد اعتاد الناس أن يجتمعوا حول ضريحه منذ استشهاده. وهو يعلم الكنيسة – على حد تعبير القديس النيصصي – ويطرد الشياطين ويستدعي ملائكة السلام ويشفع بالمؤمنين ويسأل من أجلهم ويحظى من الله بمطلبه لهم. كان ضريحه دواء لكل الأمراض وميناء للمضنوكين ومستودعاً لا ينضب لقضاء حاجات المساكين ومضافة آمنة وخزانة للمسافرين الذين يأتون إليه بقوة التقوى، وبقعة يتواصل فيها الفرح والأعياد.
هذا وقد أضحت أوخاييطا، حيث استقرت رفات القديس لقرون، محجة يتوافد إليها المؤمنون من الشرق والغرب حتى دعيت باسمه، مدينة ثيودوروس أو ثيودوروبوليس.
عجائبه
عجائب القديس الشهيد عبر العصور عديدة، نتوقف ههنا عند اثنتين منها لقيمتهما التاريخية:
أولاها أنه كانت للقديس ثيودوروس، في القرن الخامس للميلاد، كنيسة صغيرة في مدينة القسطنطينية. وقد شب فيها حريق هدد قصراً مجاوراً للقنصل سفوراكيوس. ثم فجأة، بقدرة إلهية، اختنق الحريق. ولما كان القنصل مكرماً حاراً للقديس الشهيد، فقد عمد إلى بناء كنيسة كبيرة جميلة عوض الصغيرة القديمة كان هذا سنة 452م.
والثانية أن الإمبراطور البيزنطي يوحنا الأول، المدعو الشمشيق، بعدما استجار بالقديس في حربه ضد العرب سنة 970م، وتمكن منهم، عمد، تعبيراً عن شكره وامتنانه، إلى إعادة بناء كنيسة أوخاييطا على أفخم وأبدع ما يكون.
ثيودوروس : واحد أم اثنان؟
ثمة التباس بين قديسين باسم ثيودوروس يمتان بصلة إلى أوخاييطا، المجند (التيروني) وآخر يعرف ب "قائد الجيش". لا ذكر لوجود اثنين قبل القرن العاشر، وسيرتهما قريبة إحداها من الأخرى، الأمر الذي يحمل الدارسين على اعتبارهما واحداً. من هنا نزعة رسامي الإيقونات إلى تصويرهما معاً في بعض الأعياد.
تذكار القدّيس العظيم في الشهداء ثاوذورس المشرقي(بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)
هو من مشاهير الشهداء في بلاد المشرق. وقد كرّمته الكنيسة الشرقية إكراماً فائقاً، وشيّدت له الكنائس، وأقامت على إسمه المذابح، كما فعلت مع القدّيس جاورجيوس المعظّم، وذلك لبسالته وهزئه بالعذابات وبالموت، ومن أجل تلك الشهامة التي تجلّت في إقدامه على الإستشهاد. وقد دعاه الكتبة الكنسيون المشرقي، ليميّزوه عن ثاوذورس الثاني، القائد الشهيد أيضاً، الذي أتينا على سيرة حياته واستشهاده في اليوم الثامن من هذا الشهر.
امّا القدّيس ثاوذورس المشرقي هذا، فكان من قوّاد الجيش الروماني، على عهد الملك ذيوكلسيانس قيصر. فأُرسل مع فرقته الى أماسيا، فعسكر في تلك المدينة الكبيرة. وكانت إذ ذاك عاصمة الولاية ومركز متروبولية. أمّا اليوم، فهي عمشية التركية إحدى مدن ولاية سيواس. وكان الإضطهاد الذي أمر به ذيوكلسيانس في أشدّه. لكن ثاوذورس لم يكن ليبالي، بل كان يمارس ديانته بكل شجاعة ويعترف بها جهاراً بلا خجل ولا وجل. كان القائد الباسل في الجندية، كما كان الرجل الشهم الصريح في القيام بواجباته المسيحية.
فأحضره قائده الأعلى إليه وسأله عن معتقده. فأجاب ثاوذورس إنّه مسيحي، وإنّه إذا كان يخلص في خدمته وولائه لوطنه ولمليكه الأرضي، فذلك لأنّه أمين في عبادته لملك السماء. فأعجب الرئيس بتلك الصراحة العسكرية، ورأى أمامه شابّاً شهماً شريفاً وجندياً باسلاً. ونظر في صحيفته العسكرية، فوجدها لمّاعة نقية، فتركه وشأنه في ديانته ومعتقده. هكذا يكون المنطق الشريف: ما لنا وما يدين به أصحابنا إذا أحسنوا القيام بواجبهم نحونا؟ وإذا كانت المحبّة الأخويّة تحملنا على إرشادهم الى الحق، فهل من الصواب ان نعنّفهم ليرضوا معنا بذلك الحق؟ وهل يمكن ان يقبلوه بالشدّة والعنف؟
ولمّا كان ثاوذورس جنديّاً بطلاً لا يطمع في الحياة ولا يهاب الموت، وكان مسيحيّاً تقيّاً عاملاً، وجد أن الواجب يقضي عليه بأن يضحي بحياته في سبيل إخوته، ولاسيّما أولئك الشهداء والمعترفين الذين ملأت جموعهم سجون تلك المدينة الكبرى. فخطر له أن يُقدم على عملٍ عظيم يهاجم به الوثنية في صميمها، فينتقمون منه بعذابات فادحة ويميتونه، وبذلك يذكي الإيمان والشجاعة في قلوب المسيحيين الموقوفين، ويثبّتهم في ولائهم للمسيح، ويحملهم على الإزدراء بالألم، وعلى الإقدام بنفسٍ طيّبة على الموت، فيفوزون بإكليل الظفر ومجد الإستشهاد. خطّة جسورة خطيرة، لا تفطن لها إلاً القلوب الكبيرة.
كم تفنّن القدّيسون في طرق وفائهم لوصيّة المسيح القائلة بمحبّة القريب! فهذا ثاوذورس، بدل أن ينعم بوظيفته وبالحرية المعطاة له، وبالحياة الباسمة بثغرها لفتوّته، ضحّى بكل شيء في سبيل القريب، عملاً بوصيّة المسيح . فهو الفائز، وهو الرابح، وهو الحكيم الحقيقي، لأن نعيم الأرض وكنوزها لا تعادل كنوز ونعيم السماء.
فراح وأضرم النار في معبد للإلاهة "سبلَّا" التي كان الوثنيون يدعونها ام الآلهة. فأوقف وحقّق معه القضاة. فاعترف أنّه هو الذي أقدم على ذلك، إنتصاراً للآداب العامة وللأخلاق السليمة، لأن ذلك المعبد كان بؤرة رذيلة وفساد. ولكن لمّا كان جنديّاً ومن القوّاد، راح رؤساؤه يلتمسون له مخرجاً من تلك الجناية المضاعفة. فخيّروه بين أن يكفّر إثمه بتقدمة الذبائح لتلك الآلاهة واسترضائها والإستغفار منها أو أن ينال عقاب عمله وخيانته لآلهة المملكة. أمّا هو فاعترف بالمسيح بكل ثبات وجرأة. فجرّدوه من سيفه ومن لباسه العسكري، وجلدوه جلداً عنيفاً، ورموه في سجن مظلم، ومنعوا عنه الأكل والشرب.
فتراءى له الربّ يسوع في الليل وشجّعه، ووعده بأن يغذّيه بمنٍّ سماوي. فتهلل الشهيد وأخذ يترنّم بتسابيح الرب. فظهر له جوق من الملائكة بثياب بيض وشاركوه في الترنيم. ولقد شاهد الحرّاس ذلك ولبثوا دهشين.
ثم أخرجوه من السجن وجعلوا يتملّقونه ويعلّلونه بمواعيد خلاّبة، بغية أن يفوزوا برضاء في نبذ النصرانية، فيُبقوا على حياة قائدٍ باسل بحمله على طاعة أوامر الملك. فلم تُجِدهم أتعابهم نفعاً. فجلدوه من جديد، ومزّقوا جسمه بمخالب من حديد، وأحرقوا جروحاته بالنار. فكان كلّما تفننوا وزادوا في تعذيبه إزداد هو تسبيحاً وتمجيداً لإسم الربّ يسوع. أخيراً لما أعيتهم الحيَل أضرموا ناراً عظيمة وأحرقوه بها، ففاز بإكليل الإستشهاد.
فأتت إحدى النساء التقّيات وحملته الى أوكايت، وهي مدينة أسقفية تابعة لأماسيا، ودفنته هناك في بيتها، حيث كانت دفنت من قبله سميّه وزميله الشهيد ثاوذوروس. وهذا هو، على رأي الكردينال بارونيوس، السبب في أن بعض الكتبة الكنسيين ظنّوا الإثنين واحداً.
وانتشرت عبادة القدّيس الشهيد ثاوذورس في بلاد الغرب بواسطة الصليبين. وكثرت العجائب في بلاد الشرق والغرب بشفاعة ذلك الشهيد العظيم.
استشهاد القديس يعقوب الرسول (بحسب الكنيسة القبطية الارثوذكسية)
في مثل هذا اليوم استشهد القديس يعقوب الرسول ابن حلفا. وذلك انه بعدما نادي بالبشري في بلاد كثيرة عاد إلى أورشليم، ودخل هيكل اليهود، وكرز بالإنجيل جهارا، وبالإيمان بالسيد المسيح وقيامة الأموات. فاختطفه اليهود وأتوا به إلى اكلوديوس نائب ملك رومية وقالوا له إن هذا يبشر بملك أخر غير قيصر، فأمر إن يرجم بالحجارة فرجموه حتى تنيح بسلام فاخذ قوم من المؤمنين جسده ودفنوه بجانب الهيكل. صلاته تكون معنا آمين.
وفي مثل هذا اليوم أيضاً : استشهاد القديس فيلو أسقف فارس
في هذا اليوم تذكار القديس الجليل فيلو أسقف فارس، الذي استشهد علي يد ملك الفرس لأنه لم يقبل إن يعبد النار أو يسجد للشمس. فعذبوه بكل أنواع العذاب وأخيرا قطعوا رأسه بحد السيف. صلاته تكون معنا ولربنا المجد دائما أبديا آمين.
وفي مثل هذا اليوم أيضاً : استشهاد القديس يسطس بن نوماريوس
في مثل هذا اليوم استشهد القديس يسطس ابن الملك نورماريوس. وذلك انه لما عاد من الحرب، وجد إن دقلديانوس قد تزوج أخته وصار ملكا، وانه قد ارتد عن الإيمان بالسيد المسيح فعز عليه ذلك كثيرا. ولما اجتمع وجوه المملكة وأكابرها لتجلسه ملكا عوض أبيه، لم يقبل مفضلا المملكة السمائية علي الأرضية. وتقدم إلى دقلديانوس واعترف أمامه باسم المسيح فأرسله هو أبالي ابنه وثاؤكليا زوجته إلى والي الإسكندرية، وأمره إن يلاطفهم أولا، وإن لم يذعنوا يقطعوا رؤوسهم. فلما وصلوا الإسكندرية ومعهم بعض من غلمانهم، قابلهم الوالي بلطف، وإذ لم يستطع تحويلهم عن الإيمان بالمسيح له المجد أرسل يسطس إلى انصنا، أبالي إلى بسطة. وثاؤكليا زوجته إلى صا. وقد اخذ كل منهم غلاما معه، حتى إذا اكمل جهاده يهتم بجسده. فعذبوهم وقطعوا رؤوسهم فنالوا إكليل الشهادة. صلاتهم تكون معنا آمين..
وفي مثل هذا اليوم أيضاً : استشهاد القديس ايسيذورس الفرمى
في مثل هذا اليوم تنيح القديس الناسك العالم الأنبا ايسيذوروس الفرمي. كان أبواه من أغنياء مصر ووجوهها، وكان قريبا للقديسين ثاؤفيلس وكيرلس باباوي الإسكندرية، ولم يكن له اخوة سواه، فأدباه بكل أدب وعلماه كتب الكنيسة. ثم تعلم اللغة اليونانية وأتقنها وبرع فيها حتى فاق كثيرين. وكان مع ذلك ناسكا متواضعا. ولما علم إن أهل البلاد والأساقفة عازمين عل تقدمته بطريركا علي الكرسي المرقسي، هرب ليلا إلى جبل الفرما وترهب في دير هناك، ثم انتقل منه إلى مغارة صغيرة، أقام بها وحده عدة سنوات. وقد وضع في أثنائها عدة كتب أكثرها عن الملوك والرؤساء, وشرح كتبا كثيرة من العهدين القديم والجديد. وقد وجد في بعض كتب السير إن عدد الرسائل التي أرسلها إلى البطاركة والأساقفة وغيرهم يبلغ ثماني عشرة آلف رسالة. وكانت مواهب الروح القدس تتدفق عليه. ولما وصل إلى شيخوخة صالحة مرضية انتقل إلى الرب صلاته تكون معنا آمين.