دينيّة
01 آب 2016, 08:46

في شهادة الدّمّ.. حياة

ريتا كرم
تحت الخطر والتّعذيب المشبّع بالكراهيّة والتّعجرف والظّلم، كانت التّعزية تملأ قلوبهم، فانفتحت أعينهم على المجد السّاطع في السّماء وهم ما يزالون في الأرض أمام عظمة أمّهم وصبرها، فهي لم تهتزّ ضعفاً ولم يتزعزع إيمانها لا بل حوّلت عاطفتها كأم إلى ثقة بأنّ ما يحصل ليس عقاباً بل مجداً وخلاصاً.

 

هي القدّيسة شموني وأولادها الشّهداء السّبعة: أفيموس وأنطونيوس وغورياس وأليعازر وأوسيبونوس وعليموس ومركلّوس، المعروفين بالشّهداء "المكابيّين" الّذين قُتلوا في أنطاكية على أيّام الملك أنطيوخوس أبيفانيوس لأنّهم لم ينكروا الله الحقيقيّ، حوالي سنة 160 ق.م، والّذين تحتفل الكنيسة اليوم بذكرى استشهادهم؛ فنتوقّف أمام شجاعتهم وبسالتهم، وأمام صبر أمّ طوباويّة ما استسلمت لضعفها البشريّ حتّى آخر نفس أطلقته.  

هذه الحادثة تقودنا لنتأمّل في قوّة والدة رأت وجع أبنائها ولكن لم ينطق لسانها بكلمة سيّئة أو شتيمة أو لوم، فاعتبرت أنّ ما حدث مليء بالنّعم الأبديّة. هي لم تشهد على "نَعَم" أبنائها في يوم عرسهم، لا بل كانت شاهدة على ما هو أكثر جلالاً: إكليل الشّهادة. فوجدت في أنين أولادها المحتضرين "نَعَماً" تنطق تسبيحاً "وكأنّهم  باتوا نغمات القيثارة المجيدة من داخل قلبها" (القدّيس أمبروسيوس) فأظهروا انسجاماً للحبّ الإلهيّ.

وكم كثيرة هي تلك المشاهد الّتي تتكرّر في عالمنا، فالاضطهادات الّتي بدأت مع الإطلالة الأولى لنور المسيحيّة في الأفق- لا بل حتّى قبل انبثاقها- هي نفسها اليوم.

فكم من أمّ يُذبح ابنها أمام عينيها يوميّاً رافضاً التّخلّي عن إيمان دفين يمدّ جذوره متمسّكاً بإله القيامة؟ كم منهنّ أظهرن كشموني صبراً أعظم من صبر أيّوب؟!

في ذكرى شهادة الدّمّ هذه، نتذكّر كلّ أمّ ثكلى خسرت ولدها تحت أيّ ظرف طارئ ورأته يتألّم ويغرق في دمائه، وخصوصاً تلك الأمّهات اللّواتي شهدن على ثبات أطفالهنّ بإيمان كان لهنّ الفضل في زرعه في نفوسهم، فاعتزّت نفسها بشهيد أسلم الرّوح لتصعد إلى حيث الحياة الأبديّة. نتذكّر كلّ أمّ وقفت كمريم العذراء تحت صليب ضناها وقلبها يتّقد حزناً كبيراً وإنّما يسكنه رجاء أكبر بخلاص أبديّ.

وفي الأوّل من آب/ أغسطس، نتذكّر أيضاَ شهداء المؤسّسة العسكريّة الّذين نحتوا في صخرة الشّهادة حكاية أرزة ترفض أن تشيخ، حكاية شموخ ارتفعت فصولها المرويّة بالدّماء لتسكن في سماء الرّبّ وتحمي من عليائها أرض لبنان، حكاية عِزّ عَزّ على أبناء الوطن أن يحلّ عيد جيشه و"الوطن" غائب بالجسد، وكم كثيرون هم عناصره الشّهداء! لأجل هؤلاء نصلّي لكي تثمر شهادتهم شرفاً وتضحية ووفاء من أبناء وطنهم الّذين من أجلهم قدّموا حياتهم.

كما نطلب شفاعة كلّ شهداء الكنيسة الّذين حملوا مشعل الإيمان منذ بدايتها إلى اليوم، لنبقى متمسّكين بالصّخرة الّتي عليها بنينا إيماننا المسيحيّ، فيبقى صدى شهادتهم يدوّي في آذاننا مذكّراً إيّانا بالآية القائلة: "لا تخافوا من الّذين يقتلون الجسد ولكن النّفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خافوا بالحريّ من الّذي يقدر أن يهلك النّفس والجسد كليهما في جهنّم." (متى10/ 28)