صوم الرّسل!
"تبدأ الكنيسة الأرثوذكسيّة يوم الإثنين (16 حزيران/ يونيو) صوم الرّسل، أيّ يوم الإثنين الذي يلي أحد جميع القدّيسين، وينتهي يوم (٢٩ حزيران/ يونيو) عيد القدّيسين هامتَي الرّسل بطرس وبولس.
صوم الرّسل موجود منذ عهد الرّسل القدّيسين لإكرام كلّ من يعمل الخير وقد حافظت عليه الكنيسة حتّى يومنا هذا، لأنّه يدخل في صلب التّقليد الشّريف. فلا يليق بنا نحن أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة الذين نفتخر بأنّنا مستقيمو الرّأي وقد حافظنا على التّقليد الرّسوليّ أن نذعن لتبريرنا عدم التزامنا بهذا الصّوم.
فعلى مدى أحقاب ودهور اقتبل صوم الرّسل رهطًا من البطاركة القدّيسين والعديد من الملوك والولاة والأمراء والحكماء والعلماء والمؤمنين المنتمين إلى الكنيسة المستقيمة الرّأي ولم يظهر له أي معارض سوى الهراطقة المنشقّين عن تعاليم الرّسل القدّيسين الأطهار.
صحّة هذا الصوم المنسوب إلى الرّسل القدّيسين، ما قام به الرسل أنفسهم الذين هم مبدأ وقاعدة هذا الصّوم، إنّه بعد مرور عيد العنصرة بأسبوع واحد يجب على المسيحيّين أن يصوموا ودعوا هذا الصّوم "الصّوم الخمسينيّ"، وهذا الأمر نجده في الأوامر الرّسوليّة إذ نقرأ: :إنّكم بعد تعييدكم عيد البنديكوستي عيَدوا سبة واحدة وبعد تلك السبة صوموا لأنّه من الواجب أن نفرح مسرورين بالموهبة الممنوحة من الله ونصوم بعد فرحنا".
لقد درس الرّسل أهميّة هذا الصّوم فلم يأمروا المؤمنين بتطبيقه دون معرفة ضرورته لحياتهم الرّوحيّة. فمن يطالع الكتاب السّادس من أوامر الرّسل يجد أن الرّسل أوردوا أمثلة عديدة من الكتاب المقدّس تتحدّث عن أنبياء ومختارين صاموا، مثل موسى وإيليّا.
لقد أراد الرّسل أن يوضحوا للمسيحيّين بهذه الأمثلة مقدار التزامهم هم أيضًا بالصّوم بعد عيد الخمسين، بما أنّهم اَهلوا لحلول الرّوح القدس واستحقّوا أيضًا سرّ التّجسّد الإلهيّ الذي لا يدرك. ثم بعد ذلك يذكرون أيضًا صوم الثّلاثة الأسابيع التي صامها دانيال النّبيّ وأيضًا يصفون صوم حنّة المغبوطة وصيام أهل نينوى وصيام استير ويهوديت وداود الملك. فعلى مثال هؤلاء يجب على المسيحيّين أيضًا أن يصوموا لذلك كتب الرّسل قائلين "أنتم أيضًا عندما تصومون اطلبوا سؤالكم من لدن إلهنا".
أمّا المجمع المسكونيّ الأوّل قد أكرم الرّسل لأنّهم معلّموا العبادة الحسنة ورعاة المسكونة كلّها، فسمّوا هذا الصّوم "صوم الرّسل"، لأجل ذلك حدّدوا أنّه بعد مرور عيد الخمسين بأسبوع واحد يجب على المسيحيّين أن يصوموا عن اللّحم والجبن وكلّ مشتقاتهما وذلك كلّ الأيّام التي تلي ذلك الأسبوع إلى يوم عيد الرّسل في 29 حزيران/ يونيو.
هذا المرسوم الرّسوليّ قد حفظه القدّيس سابا المتقدّس والقدّيس يوحنّا الدّمشقيّ وثاودورس السّطوديتي وغيرهم من الآباء الأقدمين، أمّا معلّما المسكونة القدّيس باسيليوس الكبير والقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم فيعلمان في عظاتهما ومقالاتهما بشكل كافٍ عن هذا الصّوم ويفرضانه. فالقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ في إحدى عظاته عن الرّوح القدس يذكر أهل أنطاكية بهذا الصّوم المنسوب إلى الرّسل القدّيسين ويحثّهم على المحافظة عليه وتطبيقه.
فنفترض أنّ صوم الرّسل هو من التّقليد غير المكتوب وقد حفظ إلى يومنا فهل يجوز أن نرفضه؟ بالطبع لا، لأنّ القدّيس باسيليوس الكبير يحذّرنا من مغبّة إهمال تطبيق ما وصل إلينا في التّقليد "لأنّنا إن قصدنا ترك السّنن غير المكتوبة على إنّها بلا قوّة عظيمة نكون قد خسرنا الإنجيل في الإمور الضّروريّة نفسها من غير أن ندرك ذلك".
القدّيس باسيليوس الكبير قد كتب بشأن هذه الأمور مادحًا الرّسل القدّيسين وخلفاءهم أيضًا لأنّهم تركوها بدون كتابة فيقول: "إن آباءنا قد حفظوا التّقليد بسكوت خالٍ من كثرة الاستقصاء والبحث عنه وقد تعلّم أولئك حسنًا إنّ شرف الأسرار يحفظ في الكنيسة سالمًا محترمًا بصمت "ويضيف القدّيس في الفصل التّاسع والعشرين من مقالته مجيبًا الذين يستهينون بالتّقليد غير المكتوب بأنّه إذا كانت الكنيسة متمسّكة بأشياء كثيرة غير مكتوبة فيجب أن يحفظ هذا الصّوم أيضًا "إن كان لا يوجد شيء آخر مكتوب فلا يقبل هذا الأمر أيضًا ولكن إن كانت أكثر الأشياء السّرّيّة (المتعلّقة بالأسرار) جارية عندنا من غير كتابة، فلنقبل هذا الأمر أيضًا من جملة الأمور المقبولة".
يكتب القدّيس باسيليوس الكبير في رسالته المئة والسّابعة والتّسعين خطابًا إلى ديودوروس أسقف طرطوس قائلًا: "إنّ الأمر الأوّل والأعظم في مثل هذه الأمور هي العادة الموجودة عندنا التي يمكننا أن نوردها ولها قوّة النّاموس".
فإنّ كان صوم الرّسل موجودًا منذ القديم في الكنيسة فقد صار عادة. والعادة الصّالحة تعتبر ناموسًا حسب ما ورد عند القدّيس باسيليوس الكبير، ومن تعدّى النّاموس يكون خاطئًا وغريبًا عن كنيسة المسيح. لذلك يجب علينا نحن معشر محبّي المسيح ألّا نتجاسر من أجل هوى بشرتنا الحيوانيّ على احتقار هذا الصّوم (وكلّ صوم) المنسوب إلى الرّسل القدّيسين الذين اهرقوا دماءهم وازدروا بهذه الحياة الوقتيّة لكي يمنحونا الحياة الحقيقيّة ويصيَرونا أبناء الله وبني النّور."