الصوم المسيحي بين الاماتة والقانون
نقرأ عن النبي دانيال قوله في سِفر دانيال 9: 3.
فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ، بِالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ وَالرَّمَادِ.
إن الاثنين التالي لأحد مرفع الجبن هو اليوم الأول من الصوم الأربعيني. فها نحن إذاً قد دخلنا هذه السلسلة من الأيام الأربعين (7)، التي تعدّنا لفترة الآلام والقيامة. وقبل أن نلج أسابيع الصوم هذه، ليس من غير المجدي أن نلاحظ بعض المميّزات العامة للصوم الكبير. أولى هذه المميّزات هي قضيّة الصوم بالذات. فلا يمكننا أن ننكر قضيّة الصوم عن الطعام أو أن نعالجها بخفة، لذلك سنكرس لها حاشية خاصة (8).
* إن آباء الكنيسة ووجدان المؤمنين الجماعي قد ميّزوا على الوجه الأكمل القيمة الروحية للامتناع عن بعض الأطعمة، قيمته كتوبة وتطهير معاً. فإنه لضلال فاضح أن نجعل (قطاعة) الصوم قائمة فقط في المحافظة على هذا الامتناع. فيجب أن يصطحب صيام الجسد صوماً آخر. كان نظام كنيسة القرون الأولى يفرض، خلال الصوم الكبير، العفة الزوجية، وكان يحرِّم الاشتراك في المآدب وحضور المشاهد. لم يعد يتبع هذا النظام اليوم ولا يفرض على المؤمنين بنفس الصرامة التي كانت أيام الآباء. ومع هذا يبقى إشارة ثمينة إلى روح الكنيسة ونيّتها. وهذه النيّة هي بالتأكيد أن نمارس، خلال الصوم، رقابة أكثر تشدداً على أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا وأن نركز انتباهنا على شخص المخلّص ومتطلباته (9). والصَدَقَة هي أيضاً إحدى طرق المحافظة على الصوم التي أوصى بها الآباء. فالصوم المقبول لدى الله هو (كلٌ) لا يمكننا فصل أوجهه الداخلية عن أوجهه الخارجية، ولكن الأولى هي الأهم فيه (10).
ويقوم مميّز ثان للصوم الكبير في بعض الخصوصيات الطقسية التي سنقول فيها الآن بعض الكلمات.
* إنها أولاً تلاوة (صلاة النوم الكبرى). إن هذه الخدمة هي آخر خدم اليوم. تستبدل صلاة النوم الصغرى العادية في أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس من الصوم الكبير بصلاة النوم الكبرى المؤلفة من تلاوة طويلة لمزامير وطروباريات نلاحظ بينها صلاة التوبة لمنسّى ملك يهوذا.
* ومن جهة أخرى، فإن القداس المقام يوم الأحد، خلال الصوم الكبير، ليس بالقداس العادي المسمّى قداس يوحنا الذهبي الفم. إنه القداس المنسوب إلى القديس باسيليوس رئيس أساقفة قيصرية الجديدة في القرن الرابع (11). هذا القداس أطول من قداس القديس يوحنا الذهبي الفم ونصّه يختلف كثيراً عنه أحياناً وله في بعض المقاطع رونق عتيق ومؤثر، مثلاً عندما نصلّي من أجل من هم من إخوتنا في بيت قيصر ومن أجل المحكومين بالأشغال القاسية في المناجم (لنتذكر معسكرات الاعتقال في أيامنا).
* نقيم يومي الأربعاء والجمعة خلال الصوم الكبير، القداس المسمّى (بالقداس السابق تقديسه)، قداس البروجيازماني، أي القرابين المقدسة التي قُدِّمت سلفاً. ليس هذا القداس بخدمة إفخارستية بالمعنى الحقيقي، لأنه لا يقتضي تقديساً. إنه خدمة مناولة يتناول أثناءها الكهنة والمؤمنون من القرابين التي تم تقديسها خلال آخر قداس للقديس باسيليوس أو القديس يوحنا الذهبي الفم. إنه خدمة تُقام مبدئياً في المساء. وهي تتضمن بعض المزامير، وبعض القراءات الكتابية الخاصة، وبعض الصلوات المستقات من قداس يوحنا الذهبي الفم (12). أمّا هذا القداسي فيقام كل سبت صباحاً.
* يتلى أو يرنم بعد ظهر السبت خلال الصوم الكبير{ يجري ذلك يوم الجمعة في أيامنا هذه (الناشر)}،النشيد المسمى (أكاثستون) (13). إنه قصيدة مديح طويلة موجهة إلى الكلية القداسة العذراء وأم الله. ويحتوي على 24 دوراً منسَّقة بحسب ترتيب أبجدي ومقسمة إلى أربعة أجزاء. وتتلى هذه الأجزاء الواحد تلو الآخر – جزء كل يوم سبت – في مجرى السبوت الأربعة الأولى من الصوم. ويتلى الأكاثستون برمته يوم السبت الخامس:
* يتلى (القانون الكبير) للقديس أندراوس الاقريطشي عشية الأربعاء من الأسبوع الخامس من الصوم { في أول أسبوع من الصوم في صلاة النوم الكبرى، كما جرت العادة في الكرسي الأنطاكي (الناشر)}. إنه عمل أدبي جسيم يحتوي على مائتين وخمسين دوراً موزعين على 9 سلسلات من الأنشودات (اسمها اليوناني المألوف في الكتب الطقسية (أوديات)). تعبّر هذه القصائد عن ارتقاءات النفس الخاطئة والتائبة إلى الله، وتقارن الزلات البشرية بصلاح الله ورحمته.
* ويجب أخيراً – وربما خاصة – أن نذكِّر بالصلاة المنسوبة إلى القديس أفرام (14). فهنا لم يعد الأمر مسألة شعر وفن خطابة هما غير غائبين عن التآليف التي قد تكلمنا عنها منذ هنيهة. فنحن الآن أمام حميّة للنفس صرفة، قصيرة، معتدلة، حارة. تقال هذه الصلاة مصحوبة بركعات، ولأول مرة، عشية الأحد الذي يسبق مباشرة الصوم (إن خدمة المساء تخص يوم الاثنين، أول يوم من الصوم). وتكرر في أغلب خدمات الصوم، خاصة في سياق خدمة القداس السابق تقديسه. ويعرف المؤمنون الأرثوذكسيون بصورة عامة صلاة القديس أفرام السرياني، ومع ذلك، نعيد نصها إلى الذاكرة:
(أيها الرب وسيّد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول وحب الرئاسة والكلام البطّال، وأنعم عليّ، أنا عبدك الخاطئ، بروح العفة واتضاع الفكر والصبر والمحبة، نعم يا ملكي وإلهي، هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي وأن لا أدين إخوتي، فإنك مبارك إلى الأبد، آمين).
تلخّص هذه الصلاة كل لباب الحياة الروحية. والمسيحي الذي يرددها باستمرار، ويتغذى منها خلال الصوم يكون في أبسط وأفضل مدرسة. إن من يقتصر على ترداد هذه الكلمات وتأملها، (أيها الرب وسيّد حياتي)، يدخل بعمق في حقيقة العلاقة بين الله والنفس، وبين النفس وإلهها.
الحاشية:
(7) لقد تم الحصول على الرقم الدقيق 40 بهذه الصورة: تبلغ أيام الأسابيع الخمسة الأولى من الصوم خمسة وثلاثين يوماً ثم تليها أيام تنتهي في يوم الجمعة عشية سبت لعازر، فيكون المجموع 40 يوماً. اعتباراً من سبت لعازر لسنا في الأيام الأربعين للصوم بل في الأسبوع العظيم.
(8) إن أصل (قطاعة) الصوم الكبير هو الصيام الكامل الذي كان يراعى في القرنين الثاني والثالث يومي الجمعة العظيم والسبت العظيم. وكان يشير هذا الصوم إلى غياب المسيح، وما بين موته وقيامته. وكان يُرى فيه امتثال للحالة الموصوفة في كلمات يسوع هذه: (أيستطيع أهل العرس أن يحزنوا والعروس بينهم ؟ ولكن سيأتي زمن فيه يرفع العروس من بينهم، فحينئذ يصومون) (متى 15:9). ربما كان هذا المعنى للصوم كفترة حداد بسبب غياب المسيح غير مألوف جداً لدى المسيحيين المعاصرين، مع أن أهم سبب لنا لنصوم وأعمقه وأبعثه للحميّة إنما يقوم في هذا. وحوالي نهاية القرن الثالث، يذكر كتاب (الذيذاسكاليا) (التعليم) صوماً من ستة أيام، أثناء الأسبوع العظيم. ونجد في القرن الرابع صوماً من أربعين يوماً قائماً في أورشليم، تذكاراً لصوم المسيح في البرية. والسائحة اتيريا والقديس كيرلّس الأورشليمي ينوّهان بهذه الأربعينية. وفرض كتاب (أوامر الرسل) حوالي السنة الأربعمائة الصوم الأربعيني من الصباح حتى الساعة التاسعة (الثالثة بعد الظهر) أو حتى المساء. فيجتنب المرء خلال النهار كل ألوان الطعام. وتناول اللحم واستعمال الألبان و البيض ممنوعان. واستعمال الأطعمة الناشفة وحده مسموح في الوجبات. أمّا استعمال السمك والنبيذ فيفسح مجالاً لتأويلات عديدة. فإذ تتحدث (أوامر الرسل) عن الصوم عامة، تقول : (إذا سمحت لك صحتك ....). هذه هي الصورة التي عرف فيها الصوم باسيليوس والذهبي الفم وأوغسطين، حتى أنه يتراءى أنهم أسدوا بالأحرى نصائح لا أوامر صارمة. فالمجمع المسكوني السادس المنعقد في تروللو عام 692 يتحدث عن أسابيع الصوم السبعة بصورة نشعر أن استعمالها عام في الشرق. وكانت المحافظة على الصوم موطدة جيداً في الكنيسة اليونانية في القرنين الثامن والتاسع. ومن العسير التمييز في التقليد المتعلق بصيام الصوم الكبير، بينما ما هو من أصل ووحي رهبانيين وما هو معد ليحافظ عليه العلمانيون. فكثيرون من هؤلاء يحافظون على صوم غاية في الدقة خلال الصوم الكبير كله. والغالبية منهم تحافظ على صوم كبير ملطف، مخفف. فالبعض يصومون أثناء الأسبوع الأول من الصوم الكبير وأثناء الأسبوع العظيم. والآن ما هي القيمة الصحيحة للفرائض المتعلقة الصوم الكبير؟ فمن الواضح أن نصاً منحولاً كالكتاب المدعو (أوامر الرسل) المؤلف حوالي القرن الخامس لا يحوز بأية صورة كانت القوى الملزمة التي قد تحوزها نصوص صادرة أكيداً عن الرسل أو قرار اتخذه مجمع مسكوني. فالكنيسة الأرثوذكسية، بصورة عامة، تعطي بالأحرى توجيهات لا فرائض حرفية. إنها تعيّن أهدافاً، تري نماذج، تقول ما يجب أن يشرئب إليه عنق الإنسان ؟ فإن الكنيسة الأرثوذكسية تدع كل ضمير حكيماً فيما يأمر أو يسمح به الائتلاف مع الظروف الشخصية أمام وجود تقليد أضحى قاعدة.
وفي موضوع الصوم، يجب التمييز بين الروح والحرف. فمن يمتنع عن اللحم ولكن يأكل أسماكاً نادرة أو يتبع نظاماً نباتياً رقيقاً وباهظ الثمن، يبقى أميناً للحرف، ولكن لا يكون مع ذلك أميناً لروح الصوم. ومن يتناول اللحوم الأكثر اعتياداً، التي يقل ثمنها عن ثمن الأسماك أو ثمن أغلب الخضر، ويمتنع عن كل الأطعمة الفاخرة، فقد يخرق الحرف ولكن يبقى في روح الصوم. ومن جهة أخرى، فلا قيمة للصوم عن الطعام إن لم يكن مصحوباً بمراعاة أشياء أخرى مهمة، لا بل أهم منه.
(9) هل يمكن للمرء الذي يجعل لذته في الرقص، والراديو، والتلفزيون، والأفلام، والمسرح، والقصص أن يبقى شاخصاً إلى يسوع ومنتبهاً إليه. لا أتكلم فقط عن القصص أو المشاهد الخلاعية. حتى الأشياء التي ليست، بحد ذاتها، رديئة، كالقصة البوليسية مثلاً، تصرف انتباهنا عن المخلص وتزيل إحساسنا بحضرته. فيستطيع القديس أن يجد يسوع في كل مكان. ولكن ذلك عسير على المسيحي العادي.
(10) لنتذكر كلمات أشعياء النبي (5:58- 8): (أهكذا يكون الصوم الذي آثرته اليوم الذي فيه يعني الإنسان نفسه. أإذا حنى رأسه كالبردي وافترش المسح والرماد تسمي ذلك صوماً ويوماً مرضياً للرب ؟ أليس هذا هو الصوم الذي آثرته حل قيود النفاق وفك ربط الخير وإطلاق المضغوطين أحراراً وكسر كل نير ؟ أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك وإذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك ؟ حينئذ ينبلج كالصبح نورك وتزهر عافيتك سريعاً ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع شملك).
(11) لنذكر أنه ما من قداس من القداديس البيزنطية الثلاثة المستعملة (قداس باسيليوس، قداس يوحنا الذهبي الفم، قداس غريغوريوس)، يمثل في حالته الراهنة، بصورة صحيحة، التأليف الأصلي لكاتبه. ومع ذلك فإنه من الممكن أن يكون القديس باسيليوس (329- 379) قد اختصر القداس المسمّى قداس القديس يعقوب الأورشليمي أو تبنّى بعد التعديل قداساً قائماً في القيصرية الجديدة. وقد اختصر الذهبي الفم قداس باسيليوس. ويقام قداس باسيليوس في الصوم، في الآحاد الخمسة الأولى ويومي الخميس والسبت العظيمين. أمّا قداس الذهبي الفم فيقام أيام السبوت وأحد الشعانين، بينما يقام قداس غريغوريوس الذيالوغوس (أي القداس السابق تقديسه) يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع من أسابيع الصوم الكبير، وأيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء من الأسبوع العظيم، ويوم خميس القانون الكبير لمؤلفه القديس أندراوس أسقف أقريطش وفي بعض الأعياد إن لم تقع السبت والأحد (العثور على هامة القديس يوحنا المعمدان في 24 شباط والشهداء الأربعون في 9 آذار والقديس خرالمبس في 10 شباط).
(12) يمكن تمييز ثلاثة عناصر في القداس السابق تقديسه (البروجيازميني). أولاً صلاة المساء مع قراءات من الكتاب المقدس. ثم الدخول الكبير (الإيصودون الكبير) الذي يجري في الصمت (ينقل الكاهن القرابين المقدسة التي قد سلف تقديسها في المذبح إلى المائدة) وتتبعه صلاة أفرام وأخيراً الطلبة التي تتقدم الصلاة الربية وباقي قداس الذهبي الفم، مع بعض التغييرات. وقد نسب تأليف القداس السابق تقديسه إلى القديس غريغوريوس الكبير بابا رومية في القرن السادس. إن غريغوريوس أقام فعلياً في القسطنطينية حيث مثّل كرسي رومية، ولكن ما من إشارة تسمح بأن نعتبره مؤلف القداس الذي يحمل اسمه. فهذا، على ما يتراءى، من تأليف إبيفانيوس أسقف سالرنا في قبرص (المتوفى علم 403). وتسمي النصوص الليتورجية اليونانية القديس غريغوريوس الديالوغوس لأنه ألف أربعة كتب حوارات.
(13) يعني الاسم اليوناني أكاثيستون إنه لا يجلس الناس أثناء ترنيم هذه الخدمة. وإننا لنجهل من الذي ألّف النشيد الاكاثيستي. وقد رُنِّم هذا للمرة الأولى في القسطنطينية عام 626، لتذكار نصر أحرزه الإمبراطور هرقل.
(14) توفي القديس أفرام السرياني عام 373. وإننا لنجهل سنة ميلاده. عاش في أديسا وألّف أناشيد دينية ومقالات في النسك والحياة الروحية (راجع نسكياته في منشورات النور – الناشر).