"نحن غالبًا في العمى الروحيّ، إن بتمسّكنا بسوء فهم الناموس الإلهيّ، أو بانهماكنا بأمور الدنيا": المطران عوده
بعد قراءة الإنجيل المقدّس، تناول المطران عوده في كلمته شوؤنًا روحيّة، قائلًا: "عندما حان، بحسب تدبير الله، وقت خلاص الخليقة، كانت هذه لا تزال في ظلام العمى الروحيّ. فالذين كانت قد وصلتهم شرائع الله (أي اليهود) أعماهم تمسّكهم المتحجّر بحرفيّتها، والذين لم تكن لهم بعد شرائع الله (أي الوثنيّون) كانوا تائهين، ولا يعرفون أنّهم تائهون. البشريّة كلّها كانت عمياء، وإن اختلفت الأسباب المباشرة لعماها. أعمى أريحا، في إنجيل اليوم، يمثّل الخليقة بأسرها، المتحجّرة في فهمها المغلوط لله أو المكتفية بالعيش السطحيّ لناموسه أو الصانعة آلهةً أصنامًا تسيّر لها حياتها. أمّا إذا قابلنا إنجيل اليوم بوضعنا الحالي، فنرى أنّنا غالبًا ما نكون في العمى الروحيّ، إن بسبب تمسّكنا بسوء فهم الناموس الإلهيّ، أو بسطحيّة عيشه، فنشابه اليهود الضالين، أو بسبب انهماكنا بأمور الدنيا، مستمدّين منها الحياة، فنكون عابدي أصنام كوثنيّي تلك الأيّام".
تابع المتروبوليت عظته، قال: "صاح الأعمى مسترحمًا الربّ يسوع: «يا يسوع ابن داود ارحمني». في صرخته إعلان إيمان بما أتت به الكتب قديمًا، وبشخص يسوع الناصريّ الظاهر إلهًا، مسيحًا مخلّصًا. هنا، ثمّة ما يستدعي التذكير بأنّ كثيرين ممّن كانوا يعاينون آيات الربّ، وقوّة تعاليمه، ظلّوا غير مؤمنين، فيما رجلٌ أعمًى يستنجد به من أجل نيل الخلاص، فقط بسبب ما سمعه من شهادات. لعلّ الإنسان، متى أحسّ بضعفه وشقائه، يسهل عليه التماس الرحمة، ولعل هذه أولى درجات الإبصار. يبقى أن يعي الإنسان أنّه، بلا الله، أعمًى، شقيٌّ، وأنّ كلّ ما عدا الالتزام بالله كيانيًّا، هو ضلالٌ وعبادة أوثان.
يلفتنا أنّ الأعمى بقي يسترحم السيّد على الرغم من زَجْر الذين حاولوا منعه. المثابرة والجدّ في امتدادنا نحو الله هما الأساس، إضافةً إلى خاصّيّة اللقاء وحميميّته بين الربّ وطالبيه. عند سماعه صراخ الأعمى وقف الربّ يسوع، وأمر أن يؤتى إليه بالأعمى، ودخل معه في حوار شخصيّ. إبن الله الوحيد، الكلمة الأزليّ الكائن قبل الدهور، إتّخذ بشريّتنا وتبنّى مأساتها كلّيًّا، لكي يقتل بطهارته أدناسنا (أف ٢: ١٤)، وهو "النّور الحقيقيّ الّذي ينير كلّ إنسان"، لكنّ اقتبال هذا النور رهنٌ بالقرار الشخصيّ لكلّ إنسان (يو 1: 9-1٣)."
أكمل المطران تعليمه: "سأل السيّد: ماذا تريد أن أصنع لك؟ مع أنّ الجواب بديهيٌّ إلّا أنّ الإيمان الشخصيّ الكيانيّ والقرار الحرّ هما مفتاح الخلاص، وفي الوقت عينه طريق المسيح إلى قلوبنا (أف 3: 17). الربّ يعرف قصد هذا المسكين، لكنّه أعطاه فرصةً لإعلان إيمانه بشخصه وبقدراته الإلهيّة ثمّ قال له "أبصر، إيمانك قد خلّصك".
تأتي معجزة الإبصار تثبيتًا لما أعلنه الأعمى من إيمان. المعجزة دليلٌ على قوّة فعل الإيمان من جهة، ومن جهة أخرى تأكيدٌ لاستحالة اقتفاء مقاصد الله بلا النور الآتي من عنده، كما يقول داود النبيّ في (مز 43: 3).
آمن الأعمى أوّلًا ثمّ أبصر، وليس العكس. الانتقال إلى العلاقة الشخصيّة العميقة والكيانيّة مع الله يتطلّب من الإنسان فكّ نفسه ممّا يربطه بالأرض، والقفز في ما يبدو مجهولًا، وبهذه القفزة، التي هي عمليًّا ارتماءٌ في أحضان الله، يبدأ الإنسان في بناء إيمانه الحقيقيّ الذي يرتقي به إلى ملكوت الله، أي إلى الحياة الدائمة مع الله، فيصبح ابنًا للنور والنهار (1تس 5: 5)".
إختتم المطران عوده الشقّ الروحي من عظته قال: "بكلمة الربّ انفتحت عينا الأعمى حالًا، فتبعه ممجّدًا الله. لهذا الأمر معنيان. فمن الطبيعيّ أنّ من نال من يد المعلّم خلاصًا عظيمًا كهذا، لا يسعه إلّا أن يتبعه ويكون صوتًا مناديًا بمجد الله وعظمة أعماله. أمّا المعنى الثاني، فهو أنّ من يبلغ إلى أن يصير تابعًا "حقيقيًّا" للرّبّ، يصبح، بأفعاله وأقواله كلّها، وحتّى نواياه، أداةً لتمجيد الله. هذه هي دعوتنا الأساسيّة، وهذا ما علينا القيام به حتّى نبصر خلاصنا الآتي متجسّدًا، ونملك معه، بين أبراره وصدّيقيه".