الأراضي المقدّسة
22 تشرين الأول 2024, 12:20

"نحن المسيحيّين مدعوّون بأعمالنا لإظهار محبّتنا ومساهمتنا في المجتمع": البطريرك بيتسابالا

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل بطريرك القدس للأتين البطريرك بيتسابالا بقداس الشكر لإعلان قداسة شهداء دمشقن الأخوة المسابكيّون والرهبان الفرنسيسكان الثماني

 

 

بعد الإنجيل كان للبطريرك كلمة أبرز ماجاء فيها: فرحنا بإعلان قداسة شهداء دمشق، وها نحن نشكر الرّبّ على شهادتهم، الّتي اعترفت بها الكنيسة وأعلنتها نموذجًا لنا جميعًا.  

أضاف البطريرك نعرف قصّتهم والظّروف التّاريخيّة والاجتماعيّة الّتي أدّت إلى استشهادهم. في ذلك الوقت، كان الضّعف السّياسيّ – النّاتج عن تدهور الإمبراطوريّة العثمانيّة – يفتح الأبواب للتّدخّلات الدّوليّة، وتضارب المصالح، والشّعور بعدم الأمان بين الهويّات الجماعيّة المختلفة في ذلك العصر. أضف على هذه العناصر التّوتّرات الدّينيّة والإثنيّة، الّتي أدّت إلى إندلاع أعمال العنف ضدّ المسيحيّين. وللأسف، تكرّر هذا المشهد المأساويّ عدّة مرّات عبر التّاريخ، وحتّى اليوم نجد أنّ الشّرق الأوسط يواجه ظروفًا ليست بعيدةً كثيرًا عن تلك الصّراعات.    

إعلان قداسة القدّيسين ليس مجرّد احتفال لشخصيّات من الماضي، رغم أنّ هذا جزءٌ مهمٌّ من تقاليدنا. إنّه أيضًا فرصةٌ للتّوقّف والتّفكير وطرح سؤال: لماذا يحتلّ الشّهداء مكانةً مقدّسةً في حياتنا الرّوحيّة واللّيتورجيّة؟ وبعبارة أخرى، ما الّذي يقوله لنا شهداء دمشق وشهداء العصور اليوم؟    

أوّلًا، يجب أن نعترف بأنّ تكريم الشّهداء وتقديم الشّكر على شهادتهم لا يعني الاحتفال بموتهم أو بالشّرّ الّذي ارتكب ضدّهم. الإيمان المسيحيّ يحتفل بالحياة، وليس بالموت. معنى التّضحية المسيحيّة لا يتعلّق بالموت، بل بالحياة.    

نحن المسيحيّين مدعوّون بأعمالنا لإظهار محبّتنا ومساهمتنا في المجتمع، من خلال تقديم الأمل لجيراننا وفتح مسارات السّلام. أعظم هبة من الله هي الحياة، ويجب أن تكون دائمًا خيارنا الأساسيّ.

الشّهادة إذًا ليست تعبيرًا عن رغبة في الموت، بل اختيارٌ يعبّر عن محبّة عميقة ووفاء مطلق لما هو ثمينٌ علينا. لهذا السّبب، تعتبر الشّهادة أعظم شهادة للإيمان.  

الشّهداء يظهرون لنا من خلال حياتهم قوّة الوفاء لله، الّذي يبقى ثابتًا حتّى في وجه الموت.  

إخوتنا، الفرنسيسكان والإخوة المسابكيّون، بذلوا دماءهم من أجل يسوع، ليس بدافع البطولة، بل بدافع المحبّة.  

كانت صداقتهم مع يسوع قد قادتهم إلى أن يتّحدوا مع نواياه، مشاعره، ويراهنوا بكلّ شيء عليه. وفي النّهاية، قدّموا حياتهم من أجله. لم يخافوا من "الّذين يقتلون الجسد وبعد ذلك لا يقدرون أن يفعلوا شيئًا أكثر" (لوقا 12: 4).  

الإيمان بالنّسبة لهم لم يكن مجرّد زيّ يرتدونه في المناسبات، بل كان أساس حياتهم كلّها. كانوا سيموتون لو تخلّوا عن إيمانهم، وليس العكس. وبشكل متناقض، من خلال البقاء مع المسيح حتّى في وجه خطر الموت، قالوا نعم للحياة، تلك الحياة الّتي لا يمكن لأحد أن يسلبها منهم.  

أضاف البطريرك: الشّهادة هي أيضًا نبوءةٌ، لأنّها تشير إلى طريقة جديدة ومختلفة للتّعامل مع العنف والشّرّ، الملازمين لحياتنا. الرّغبة في الخير الّتي توجد في كلّ إنسان وفي كلّ مجتمع، يجب أن تواجه بلا شكّ وجود الشّرّ داخلنا وخارجنا، وتأثيراته على النّاس والعالم. لا يجب أن نخادع أنفسنا بشأن هذا، فالحنطة والزّؤان سيعيشان معًا دائمًا. وكلّ مؤمن، وكذلك كلّ جماعة كنيسيّة، يجب أن تعرف كيف تتعامل مع هذه الظّروف بروح مسيحيّة.  

نتعلّم من الشّهداء أنّ الطّريقة المسيحيّة لمواجهة قوّة الشّرّ في العالم هي الصّليب. البقاء مع المسيح على الصّليب يعني عدم الخوف من الموت، بل الحفاظ على الرّغبة في بذل الذّات، المحبّة المجّانيّة، والمغفرة. إذًا، الشّهادة قبل أن تكون عملًا بطوليًّا، هي الرّدّ المسيحيّ على العنف والشّرّ. إنّها تتجنّب كلّ أشكال العنف، وترفض أيّ رغبة في الانتقام، وترى في صليب المسيح، محبّةً وغفرانًا.  

أحد الإخوة، قبل قتله، حاول إنقاذ القربان الأقدس من بيت القربان. وهذا يذكّرنا بتعليم آخر. الشّهادة يمكن أن تفهم أيضًا كعمل إفخارستيّ. إذا كانت الإفخارستيّا هي الاحتفال بوصيّة المحبّة، وهي ذكرى لموت وقيامة المسيح، فإنّ الشّهادة تظهر اكتمالها في واقع العالم. الإفخارستيّا والشّهادة ليستا الشّيء نفسه، ولكنّ ما نعيشه في الإفخارستيّا يجد تعبيره في الشّهادة، حيث تقدّم الحياة كعطيّة متّحدة بموت المسيح وقيامته.  

يساعدنا الشّهداء ويذكّروننا بأهمّيّة الحفاظ على الأصالة المسيحيّة. في مواجهة منطق العالم الّذي يضع في صدره القوّة، والشّعور بالتّفوّق، والنّصر، والثّراء، والسّلطة، يردّ المسيحيّ بتقديم ذاته، والرّغبة في الخير، وشجاعة الغفران، والوفاء للحقّ والعدل، والمحبّة المجّانيّة. إنّها قوّة الودعاء الّذين يرثون الأرض (راجع متّى ٥:٥). بالنّسبة للعالم، الشّهداء هم خاسرون، كما كان يسوع على الصّليب، ولكنّ بالنّسبة للمؤمنين، هم يظهرون قوّة الله (راجع ١ قورنثوس ٢:٥).  

في هذه اللّحظة، أفكّر في شرقنا الأوسط، الّذي اجتاحته الكراهية والتّعصّب الدّينيّ، والرّغبة في الانتقام والتّعدّي، الّتي قادت إلى هذا العنف الوحشيّ – ليس الجسديّ فقط، بل في أشكال متعدّدة ومختلفة. إنّه سياقٌ يحرم فيه المسيحيّون من فرص الحياة، وتنتهك حقوقهم، ويساء معاملتهم أو ينسون بسبودة، لمجرّد أنّهم ما زالوا يتّبعون المسيح. وهذا يمكن أن يعتبر نوعًا مّن الشّهادة.  

من الوهم الاعتقاد بأنّنا قادرون على بناء آفاق للسّلام باستخدام الأسلحة. يسود الشّعور بعدم الثّقة، وعدم الأمل، واللامبالاة تجاه موت الآخرين وآلامهم. وكانت النّتيجة: دمار في كلّ مكان. الدّمار لم يكن مادّيًّا فقط، بل كان أيضًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا. التّدخّلات الخارجيّة، سواءً كانت سياسيّةً أم غير ذلك، لعبت بالطّبيعة دورًا مهمًّا في هذا الانحراف، كما كان الحال في زمن شهدائنا، ولكنّها لا يمكن أن تبرّر كلّ ما حدث. يجب أن نتوب حقًّا ونسأل الله المغفرة عن كلّ هذا، ونعترف بأنّ المؤسّسة الدّينيّة لم تظهر قدرًا كبيرًا من الحرّيّة والقدرة على التّنبّؤ.  

في هذا السّياق، تختبر الجماعة المسيحيّة الصّغيرة في الشّرق الأوسط باستمرار، حتّى اليوم، كما كان الحال في زمن شهدائنا. من غزّة إلى لبنان، ومن سوريا إلى العراق، ومن مصر إلى السّودان، يعاني كثيرٌ من إخواننا وأخواتنا في الإيمان كلّ يوم. ولكن إلى جانب هذه المآسي، يجب علينا أيضًا أن نتذكّر وفاءهم المطلق للمسيح. يجب علينا أن نعترف بقوّة وجمال شهادة العديد من الشّباب المسيحيّين، على سبيل المثال، الّذين كتبوا على جدران الكنائس الّتي دمّرتها القنابل قبل بضع سنين: "لكنّنا نغفر لكم!" هذه هي الطّريقة المسيحيّة للحياة في الشّرق الأوسط.  

حتّى اليوم، وبالرّغم من الصّعاب، يظلّ نور الصّليب ساطعًا ويمنحنا الرّاحة. من الصّعب علينا تغيير عالم السّياسة، ولن نسمح لعالم السّياسة أن يغيّرنا. لن نسمح لمنطق العنف أن يكون له الكلمة الأخرى أو أن يكون الصّوت الوحيد في الشّرق الأوسط. هذا هو، إذًا، جمال الشّهادة المسيحيّة ومعنى وجودها في هذه الأراضي الّتي وسمت بحياة يسوع، وسقيت في كلّ العصور بدماء الشّهداء المسيحيّين، كحضور مضيء للمسيح: أن تكون بالكلمة والفعل، قوّة حياة، تقديم الإخوة والضّيافة، والرّغبة في الخير للجميع، وشجاعة الغفران.  

نريد هنا أن نشكر الإخوة والأخوات الّذين، على الرّغم من كلّ شيء، لم يبقوا فقط أوفياء للمسيح، بل يواصلون التّعبير بشكل مثاليّ عن تضامنهم الإنسانيّ مع الجميع دون تمييز، ويبذلون أنفسهم للمساعدة والدّعم والقرب.  

تحيّةٌ خاصّةٌ لإخواننا وأخواتنا في سوريا، الّذين لا يمكنهم أن يكونوا معنا اليوم، لكنّهم متّحدون معنا في الصّلاة. نشكرهم على صمودهم الهادئ خلال هذه السّنوات الصّعبة من الحرب والفقر. كان دم شهداء دمشق لكم بذرةً عزّزت جماعتكم المسيحيّة الّتي، رغم كلّ شيء، لا تستسلم اليوم، بل تستمرّ في تقديم شهادة للحياة والإخوة.  

كما نرفع صلاةً من أجل إخواننا اللّبنانيّين الّذين فقدوا حياتهم تحت القنابل في هذه الأيّام. وصلاتنا من أجل إخواننا وأخواتنا في الأرض المقدّسة، من غزّة إلى بيت لحم، وصولًا إلى النّاصرة.  

أنا واثقٌ أنّ جماعتنا المسيحيّة الصّغيرة، كما عهدناها، وعلى الرّغم من عواصف الحرب العاتية، ستقدّم شهادةً رائعةً للإيمان (راجع ١ تيموثاوس ٦:١٣). بمعنى أنّها ستعمل من أجل الحقّ والعدل، وتتعاون مع الرّجال والنّساء من كلّ دين، الّذين لا يخشون الالتزام ببناء آفاق السّلام معًا.  

لتتشفّع لنا مريم العذراء، أمّ الله وأمّنا، وترافقنا في مسيرتنا الإيمانيّة، في دمشق، في بيروت، في القدس، وفي العالم كلّه. آمين.