الفاتيكان
10 كانون الثاني 2023, 15:00

"مع الله لست أبدًا وحدَكَ"، خطابات بنديكتوس السّادس عشر الكبرى في كتاب

تيلي لوميار/ نورسات
صدر اليوم، عن دار ريتزولي للنّشر ودار النّشر التّابعة للكرسيّ الرّسوليّ، كتاب "مع الله لست أبدًا وحدَكَ"، خطابات بنديكتوس السّادس عشر الكبرى، وفيه المداخلات العشر المركزيّة لحبريّته.

وكتب مقدّمة الكتاب رئيس مؤسّسة بنديكتوس السّادس عشر الأب فيديريكو لومباردي، وجاء فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "كما نعلم جميعًا، لا الكتابات فحسب، وإنّما الخطابات والعظات الّتي ألقاها البابا راتزينغر خلال حبريّته هي أكثر بكثير من عشرة، وغالبًا ما كانت ذات محتوى غني ّجدًّا ونوعيّة تعبيريّة بارزة. ولكنّنا في هذا المجلّد نحصر أنفسنا بصرامة في زمن حبريّته. وبالتّالي فالبابا بنديكتوس السّادس عشر هو الّذي يحدّثنا. باتّساع ثقافته، ووضوح عرضه للمواضيع المعقّدة، وشغفه بالبحث عن الحقيقة، والاعتراف الصّريح بإيمانه الكاثوليكيّ.

يمكننا أن نقسّم هذه الخطابات إلى مجموعتين من خمسة. تلك الموجّهة إلى حياة الكنيسة وتلك الموجّهة إلى عالم الثّقافة والمجتمع والسّياسة. "الكنيسة حيّة. هذه هي الخبرة الرّائعة لهذه الأيّام"– "لقد تأثّرت حقًّا! وأرى الكنيسة حيّة". تفتح الحبريّة وتختتم بالشّهادة عينها: حيويّة الكنيسة الّتي أوكلت إليه لكي يقودها. إنّ الكنيسة حيّة على الرّغم من الصّعوبات، لأنّ المسيح حيّ وقام، والكنيسة هي ملك له، وهو الرّاعي الصّالح الّذي يرافقها في القارب حتّى في لحظات العاصفة. ليس هناك برنامج سوى أن يسمح له أن يقوده بثقة. أن ترعى يعني أن تُحبّ، وأن تُظهِر الله للبشر، الإله الّذي يمكن أن نلتقي به في المسيح والّذي يُخلِّصنا من الصّحاري والظّلام لكي يقودنا إلى الحياة والنّور. ينتهي خطاب بنديكتوس الأوّل بمناشدة الشّباب ألّا يخافوا من المسيح، الّذي لا يأخذ شيئًا ويعطي كلّ شيء. ويتردّد صدى أوّل خطاب عظيم للبابا فويتيلا: "لا تخافوا، افتحوا الأبواب للمسيح!".

لمسيرة الكنيسة وتجديدها في عصرنا، يشير البابا بنديكتوس كمرجع إلى نصوص المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، بعد أربعين عامًا من اختتامه. شاهد للمجمع، الّذي شارك فيه بنشاط كخبير لاهوت، لديه السّلطة لتطوير الخطاب حول القبول الصّحيح للمجمع. خطاب بقي مشهورًا، حول الفرق بين تأويل "تمزّق وانقطاع" وتفسير "الإصلاح والاستمراريّة"، حيث تصبح الأمانة والدّيناميكيّة واحدًا. ويؤكّد البابا بنديكتوس أنّ الثّمار الإيجابيّة للمجمع تتطوّر. وهو يسلّط الضّوء بشكل خاصّ على الموقف الإيجابيّ الجديد للكنيسة، الّتي توجِّه الحوار بين العقل والإيمان في عصرنا في مجالات ذات أهمّيّة حاسمة، مثل العلاقة بين العلم والإيمان، والعلاقة بين الدّولة العلمانيّة الحديثة والكنيسة مع رؤية الإنسان والمجتمع، العلاقة بين الكنيسة والأديان الكبرى. حتّى لو كانت حبريّة البابا بنديكتوس السّادس عشر تتميز بشخصيّة البابا اللّاهوتيّ- وبالتّالي بالتزامه باقتراح الإيمان المسيحيّ في علاقته بالثّقافة المعاصرة– لكن لا يمكننا أن ننسى أنّها طُبعَت أيضًا بمشاكل كبيرة، ولاسيّما الأزمة النّاجمة عن ظهور الاعتداءات الجنسيّة وليس فقط في المجتمع، وإنّما أيضًا وبشكل خاصّ في الإكليروس الكاثوليكيّ. موقف مؤلم ومأساويّ وُجِبَ على البابا أن يكرّس له جزءًا كبيرًا من قوّته. من بين مداخلاته العديدة حول هذا الموضوع كلمته في ختام السّنة الكهنوتيّة. لا يجب على وجود الشّرّ و"الشّرّير" والخطيئة في حياة الكنيسة، على الرّغم من قوّتهم الرّهيبة، أن يُطفئوا الثّقة بقوّة نعمة المسيح وثمار القداسة الخاصّة به.

تعتبر الخطابات الخمس الأخرى الموجّهة إلى "خارج الكنيسة" من أشهر الخطابات وأهمّها في الحبريّة. وإذ نعيد قراءتها معًا، يظهر- ربّما بوضوح غير متوقّع ومدهش- القاسم المشترك للعلاقة والحوار بين العقل والإيمان؛ في التّاريخ ولاسيّما اليوم، في عصرنا. من سؤال أوشفيتز المأساويّ الّذي لا مفرّ منه: "أين كان الله في تلك الأيّام؟"، سار البابا بنديكتوس بتواضع مسيرة طويلة ومتطلّبة. إنّها مسألة التّعرّف على إله العقل، لعقل ليس رياضيّات محايدة للكون، وإنّما هو واحد مع الحبّ ومع الخير، ويقودنا لكي نعترف بالشّرّ كشرّ ونرفضه. في ريغنسبورغ، وضع بندكتس السّادس عشر بصراحة كموضوع له العلاقة بين الإيمان والعقل، بدءًا من اللّقاء بين الإيمان البيبليّ والتّساؤل اليونانيّ، وصولاً إلى اليوم.

في باريس، في Collège des Bernardins، تعمّق بنديكتوس بالعلاقة بين أصول اللّاهوت الغربيّ في العصور الوسطى وجذور الثّقافة الأوروبيّة، مشيرًا إلى أنّ تكوين هذه الثّقافة هو ثمرة البحث عن الله، وخلص إلى أنّ غياب الله الحاليّ يثقِّله السّؤال عنه وأنّ البحث عن الله يبقى أساس كلّ ثقافة حقيقيّة. في لندن، في وستمنستر هول، أمام ممثّلي الشّعب البريطانيّ بأكمله، في مكان محاكمة القدّيس توماس مور، تحدّث بنديكتوس عن المكانة الصّحيحة الّتي يجب أن تحتفظ بها المعتقدات الدّينيّة حتّى اليوم في العمليّة السّياسيّة وجادل بأنّ عالم العقل وعالم الإيمان يحتاجان بعضهما البعض من أجل خير حضارتنا. وأكّد أنّه إذا لم يتمّ تأسيس المبادئ الأخلاقيّة الّتي تقوم عليها العمليّة الدّيمقراطيّة على شيء أكثر صلابة من الإجماع الاجتماعيّ، فإنّ هشاشتها تصبح واضحة. وأخيرًا، في مقرّ البرلمان الألمانيّ في برلين، إذ ذكّر بذروة رعب النّازيّة، تناول بنديكتوس مسألة أسس دولة القانون اللّيبراليّة، وصعوبة التّمييز بين الخير والشّرّ في المسائل الأنثروبولوجيّة الأساسيّة المطروحة في المجتمع المعاصر. وشكّك في الهيمنة الحصريّة للعقل الوضعيّ، مُذكِّرًا بأنّ للإنسان طبيعة يجب احترامها وعدم التّلاعب بها حسب الرّغبة، لأنّ الإنسان لا يخلق نفسه.

وهكذا، يطرح البابا بنديكتوس مرّة أخرى على إنسان عصرنا السّؤال عمّا إذا كان السّبب الموضوعيّ الّذي يتجلّى في الطّبيعة، والّذي تمّ التّحقّق منه وهو يُعرف من خلال العقل الذّاتيّ للإنسان، لا يفترض مسبقًا عقلاً مبدعًا يؤسّس كلاهما، ويذكر بمسؤوليّة الإنسان أمام الله والاعتراف بالكرامة المصونة لكلّ إنسان على صورة الله. لنتذكّر أنّ البابا بنديكتوس اعتبر دائمًا أنّ مهمّة الكنيسة ورسالتها هي قبل كلّ شيء التّحدّث إلى البشريّة عن الله، عن إله يسوع المسيح، في زمن يبدو فيه أنّ الله قد وُضِع في أفق البشريّة العلمانيّة؛ ولنتذكّر أنّ البابا بنديكتوس قد رأى ثمرة المجمع في إعادة اكتشاف العلاقة الإيجابيّة للحوار بين الكنيسة والعالم الحديث... وبالتّالي يمكننا أن نفهم بكم من الشّغف حاول بنديكتوس السّادس عشر أن يعيش شخصيًّا وأن يقترح على الجميع الحوار الحيّ بين العقل والإيمان كسبيل ضروريّ لخير وخلاص كلّ فرد والعائلة البشريّة بأسرها إزاء تحدّيات عصرنا المأساويّة.

هذه هي الرّسالة الّتي تظهر بقوّة كبيرة من قراءة هذه الصّفحات، ومن إعادة الاصغاء إلى خطابات بنديكتوس السّادس عشر الكبرى".