الفاتيكان
13 حزيران 2019, 13:48

"رجاء البائسين لا ينقطع للأبد"... رسالة البابا لليوم العالميّ للفقراء

وجّه البابا فرنسيس رسالة لمناسبة اليوم العالميّ للفقراء الّذي سيُحتفل به في 17 ت2/ نوفمبر 2019، حملت عنوان "رجاء البائسين لا ينقطع للأبد"، وكتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

 

"رجاء البائسين لا ينقطع للأبد" (مزمور ۹، ١۹) إنَّ كلمات صاحب المزمور تُظهر آنيّةً مُذهلة. تُعبّر عن حقيقة عميقة يمكن للإيمان أن يطبعها بشكل خاصّ في قلوب الأشدّ فقرًا: استعادة الرّجاء المفقود إزاء الظّلم والألم وتداعي الحياة. يصف صاحب المزمور حالة الفقير وغطرسة من يظلمه ويستضعفه. وعند تأليف هذا المزمور كان هناك نموّ اقتصادي قد بلغ، كما يحصل عادة، إلى إحداث فقدان توازن اجتماعيّ كبير. لقد كان الزّمن الّذي كان فيه الأشخاص المتعجرفون والّذين لا إله لهم يبحثون عن الفقراء ليستولوا على القليل الّذي يملكونهم ويحوِّلونهم إلى عبيد.

علينا اليوم أيضًا أن نعدّد الأشكال العديدة والجديدة للعبوديّة الّتي يتعرّض لها ملايين الرّجال والنّساء والشّباب والأطفال. نلتقي يوميًّا بعائلات تُجبر على ترك أرضها للبحث عن أشكال للمساعدة في أماكن أخرى؛ أيتام فقدوا أهلهم أو فُصلوا عنهم لكي يتعرّضوا بعدها للاستغلال؛ شباب يسعون لتحقيق مهنيّ يُمنعون من الحصول على العمل بسبب سياسات اقتصاديّة قصيرة النّظر؛ ضحايا لأشكال عديدة من العنف والدّعارة والمخدّرات. كيف لا ننسى أيضًا ملايين المهاجرين ضحايا العديد من المصالح الخفيّة والّذين غالبًا ما يُستغلّون لمصالح سياسيّة ويحرمون من التّضامن والمساواة؟

يصف صاحب المزمور بواقعيّة قاسية موقف الأغنياء الّذين ينهبون الفقراء: "كْمُنُوا لِيَخْطَفوا الْمِسْكِينَ. يَخطَفُون المِسْكِينَ بِجَذبِهِ فِي شَبَاكَهِم" (مزمور ١٠، ۹). كما ولو كان الأمر بالنّسبة لهم كمباراة صيد، حيث يتمُّ اصطياد الفقراء وتحويلهم إلى عبيد. إنّ الإطار الّذي يصفه المزمور يتلوّن بالحزن بسبب الظّلم والألم والمرارة الّتي يتعرّض لها الفقراء. لكن وبالرّغم من هذا كلّه يقدّم تعريفًا جميلاً للفقير، واصفًا إيّاه بالّذي "يتوكّل على الرّبّ" لأنَّ لديه اليقين بأنّه لن يُترك أبدًا. يقدّم صاحب المزمور أيضًا سبب ذلك الاتّكال: "هو يعرف ربّه". وهذه الثّقة وهذا اليقين بالذّات بأنّه لن يُترك يذكّران بالرّجاء. إنَّ الفقير يعرف أنَّ الله لا يمكنه أن يتركه أبدًا ولذلك يعيش دائمًا في حضور ذلك الإله الّذي يتذكّره.

إنّ وصف عمل الله في سبيل الفقراء هو لازمة دائمة في الكتاب المقدّس؛ فهو الّذي يصغي ويتدخّل ويحمي ويدافع ويفتدي ويخلّص... وبالتّالي لا يمكن للفقير أبدًا أن يجد إلهًا غير مبال أو صامت إزاء صلاته. لا يمكننا أبدًا أن نتملّص من الدّعوة الّتي يوجّهها لنا الكتاب المقدّس باسم الفقراء. فحيثما يوجَّه النّظر تشير كلمة الله إلى الفقراء الّذين لا يملكون الضّروريّ للعيش لأنّهم يعتمدون على الآخرين. إنّهم المُستضعف والمظلوم والمتواضع الّذي ينطرح أرضًا، ومع ذلك وإزاء هذا الحشد الغفير من الفقراء لم يخف يسوع من أن يتشبّه بهم قائلاً: " كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه". كيف لا نسلّط الضّوء أيضًا على واقع أنّ التّطويبات الّتي افتتح بها يسوع البشارة بملكوت الله تُفتتح بهذه العبارة: "طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء"؟ إنَّ معنى هذا الإعلان المتناقض هو أنَّ ملكوت الله هو للفقراء لأنّهم في وضع يسمح لهم بقبوله.

في قربها من الفقراء تكتشف الكنيسة بأنّها شعب، بالرّغم من انتشاره في أوطان عديدة، يملك دعوة ألّا يجعل أحدًا يشعر بأنّه غريب أو مهمّش لأنّه يُشرك الجميع في مسيرة خلاص مُشتركة. إنَّ التّعزيز الاجتماعيّ للفقراء ليس التزامًا خارجًا عن إعلان الإنجيل، بل على العكس، هو يظهر واقعيّة الإيمان المسيحيّ وصلاحيّته التّاريخيّة. إنّ الخيار من أجل الأخيرين والّذين يهمّشهم المجتمع ويرميهم هو خيار رئيسيّ يُدعى تلاميذ المسيح للقيام به لكي لا يخونوا مصداقيّة الكنيسة ويعطوا رجاء فعّالاً للعديد من العُزّل.

إنّ التزام المسيحيّين بمناسبة هذا اليوم العالميّ ولاسيّما في الحياة اليوميّة العاديّة لا يقوم فقط على مبادرات المساعدة، الضّروريّة أيضًا، ولكن يجب أن تهدف إلى أن تنمّي في كلّ فرد الاهتمام الكامل والواجب نحو كلّ شخص يعيش في العوز. إنَّ اهتمام المحبّة هذا هو بداية الاهتمام الحقيقيّ بالفقراء من خلال البحث عن خيرهم الحقيقيّ. أطلب من العديد من المتطوّعين الّذين غالبًا ما يعود إليهم التّقدير لأنّهم أوّل من فهم أهمّيّة هذا الاهتمام بالفقراء، أن ينموا في تفانيهم. أيّها الأخوة والأخوات الأعزّاء أحثّكم على أن تبحثوا في كلِّ فقير تلتقون به على ما يحتاج إليه فعلاً؛ وألّا تتوقفوا عند أوّل احتياج مادّيّ له وإنّما أن تكتشفوا الطّيبة الّتي تختبئ في قلبه وأن تتنبّهوا لثقافته وأساليبه في التّعبير لكي تتمكّنوا من بدء حوار أخويّ حقيقيّ. كذلك لا يجب أن تنسوا أبدًا أنَّ أسوء تمييز يتعرّض له الفقراء هو غياب الاهتمام الرّوحيّ.

إنَّ الفقراء يحتاجون أوّلاً إلى الله ومحبّته الّتي تُصبح مرئيّة من خلال أشخاص قدّيسين يعيشون بالقرب منهم ويعبّرون من خلال بساطة حياتهم عن قوّة المحبّة المسيحيّة ويُظهرونها للآخرين. أحيانًا يكفي القليل لكي نعيد الرّجاء للأشخاص: يكفي أن نتوقّف ونبتسم ونصغي. لنترك الإحصاءات جانبًا ليوم وحسب لأنّ الفقراء ليسوا أعدادًا نذكرها لكي نتغنّى بالأعمال والمشاريع؛ الفقراء هم أشخاص نذهب للقائهم: هم شباب ومسنّون عُزّل علينا أن ندعوهم إلى بيوتنا لنتقاسم معهم الغذاء، رجال ونساء وأطفال ينتظرون كلمة وديّة. إنّ الفقراء يخلِّصوننا لأنّهم يسمحون لنا بلقاء وجه يسوع المسيح.

إنّ الرّبّ لا يترك أبدًا الّذين يبحثون عنه والّذين يدعونه، "وصراخ الوضعاء لا ينسى" (مز ۹، ١٣) لأنَّ آذانه متنبّهة لأصواتهم. إنّ رجاء الفقير يتحدّى أوضاع الموت العديدة لأنّه يعرف أنّه محبوب من الله فيتغلّب هكذا على الألم والتّهميش. أطلب من جميع الجماعات المسيحيّة وجميع الّذين يشعرون بضرورة حمل الرّجاء والتّعزية للفقراء أن يلتزموا لكي يتمكّن هذا اليوم العالميّ من أن يُعزّز في العديد الرّغبة في المساهمة الفعّالة لكي لا يشعر أحد أنّه محروم من القرب والتّضامن. لترافقنا كلمات النّبيّ الّذي يُعلن مستقبلاً مختلفًا: "وَلَكُم أَيُّهَا المُتَّقُونَ اسمِي تُشرِقُ شَمسُ البِرِّ وَالشِّفَاء".