لبنان
21 تشرين الأول 2024, 07:40

"دعوتُنا اليوم أن نضع بلدنا في صدارة اهتماماتنا، وليقم كُلٌّ منّا بواجبه بأمانة تُجاهه" المطران إلياس عوده

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل المطران الياس عوده، راعي أبرشيّة بيروت للروم الأرثوذكس بالقدّاس الإلهيّ لنهار الأحد ٢٠ تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٤ من كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، بحضور فاعليّات سياسيّة ومدنيّة وحشد من المؤمنين. وكانت للمطران عوده كلمة تناول فيها شؤونًا روحيّة ووطنيّة.

 

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، تحدّث المطران عوده قائلًا: "بعد حادثة تهدئة العاصفة التي كادت تُغرق سفينة التلاميذ، وكان المعلم معهم لو٨: ٢٢-٢٥، انتهر الربُّ "الريح وصخب المياه، فانتهيا وصار هدوءٌ". أظهر يسوع سلطانه الإلهيّ على عناصر الطبيعة التي، متى تمرّدت، تقوى على الإنسان. ثمّ دخل أرضًا وثنيّةً هي "كورةُ الجُرجُسيّين" ليقهر الشيطان في عُقر داره. لذا، تساءل الذين عاينوا سلطان السيّد عمّن يكون من يأمر الطبيعة فتطيعه وينتهر الشياطين فتجزع".

تابع المطران قائلًا: "يرى آباؤُنا القدّيسون في مجنُون اليوم صورة الإنسان الذي تحكّمت به الخطيئةُ فصار عُريانًا من حُلّته الأُولى، أي من كرامته الإنسانيّة التي خلقه الله عليها. من أسرَته الخطيئة يفقد السلام والأمان اللذين يرمز إليهما «البيت»، ولا يجد نفسه إلّا في عالم الموت والظّلمات، بين القبور، ميتًا ولا يعي أنّه ميت. كان المجنونُ «يُربط بسلاسل ويُحبس بقيود فيقطع الربط ويُساق من الشيطان إلى البراري». السلاسل والقيود تشير إلى القوانين البشريّة التي، مهما قست، هي عاجزةٌ عن ضبط الشيطان وقمع أعماله. أمّا البراري، فهي في لغة الكتاب المقدّس، دُنيا العزلة والبعد عن الله.

رأى الآباءُ في صرخة: «ما لي ولك يا يسوعُ ابن الله العليّ؟» مزيجًا من الرهبة واليأس، من المعاندة والتوسّل. يظنّ الشرّير أنّ له سلطانًا على الإنسان، لكنّه، في الوقت ذاته، يعرف أنّ يسوع هو ابن الله، وأنّ له وحده السلطان على خليقته ولا يمكن أن يتركها أسيرةً. هكذا، بمحاولته اليائسة الأخيرة، يعترف الشيطان مكرهًا، بفم الممسوس، ألّا شيء مشتركًا بينه وبين يسوع الذي يطلب خلاص البشر فيما هو يشتهي هلاكهم. في قوله «ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ؟» يعترف أيضًا بأنّ المتكلّم معه هو ابن الله، وهي صفة ليسوع لم تكن قد أُعلنت بعد، وبأنّ ظهور المسيح في العالم، يعني نهاية عهد الشيطان المُفسد المُهلك. بعد هذه الاعترافات، يتوسّل الشرير رأفة السيّد، غير تائب، بل كالمُجرم المتذلّل لقاضيه: «أطلُبُ إليك ألاّ تُعذّبني".

أكمل المطران عوده شرحه، قال: "يخاطبُ الربّ الروح الشرير بلغة الآمر ويسمّيه نجسًا، والصفة هنا ليست للشتيمة، بل للدلالة على أنّ الروح الشرّير انفصل برضاهُ عن الله ينبوع الطهارة. يسوع يضع إصبعه الشافية على الجرح، لأنّه يسمّي الأُمور بأسمائها. في المسيحيّة، الخطوة الأُولى على طريق الخلاص هي نزع أقنعة الزيف عن الأهواء المفسدة، وتسميتُها بأسمائها.

سأل يسوعُ الروح عن اسمه لسببيْن: أوّلًا لأنّ القويّ يسأل من هو دونه عن اسمه وليس العكس، وثانيًا لإظهار قوّة الشياطين القابضة على هذا المسكين. أجاب المجنونُ «لجيون» وتعني فرقةً من الجيش الرومانيّ كانت تضمّ آلاف الرجال. هذا الرجل قد حوى من الأهواء القتّالة ما يكفي لتمزيق شخصيّته وكيانه شرّ تمزيق. رأى بعض الآباء في هذا الجواب محاولةً من الشياطين لإخافة يسوع، أو تكبّرًا بلغ بهم حدّ موازاة أنفسهم بالله الذي سمّاه الأنبياءُ "ربّ القوّات".

توسّلت الشياطين إلى يسوع ألّا يرسلها إلى مكان عذابها الأبديّ، بل أن يسمح لها بالدخول في قطيع الخنازير، فأذن لها، «فوثب القطيعُ عن الجُرف إلى البحيرة فاختنق». لعلّ السّد أراد، بتلبيته مطلب الشياطين، إظهار النتائج المهلكة لحضورها، لأنّها تجلب الهلاك أينما وجدت، في الناس أو في الحيوانات".

شرح المطران عوده أيضًا، قال: "في مشهد نقيض للمشهد الأوّل نرى المجنون المعافى جالسًا عند قدميّ يسوع، لابسًا، صحيح العقل، ومُلتمسًا البقاء معه. العريانُ قبلًا صار لابسًا «الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرّ وقداسة الحقّ» (أف ٤: ٢٤). أمّا «صحّة العقل» فهي نعمة الإدراك والتمييز والحرّيّة الحقيقيّة التي تقود إلى اتّباع المسيح.

عندما رأى سكّان كورة الجُرجُسيّين أنّ الشياطين التي أمرها يسوع أن تخرج من الإنسان وتدخل في الخنازير قد أطاعته سألوا السيّد أن ينصرف عنهم. عوض أن يفرحوا بشفاء الممسوس المعذّب من الشياطين، سألوه أن ينصرف عنهم لأنّ خوفًا عظيمًا اعتراهم.

هذا الجمهور حزن على هلاك قطيع الخنازير الذي كانوا يربّون وكان محرَّمًا في ناموسهم. خافوا من خسارة الأرضيّات ولم يأبهوا لربح السماويّات. إنّها حالة الإنسان في كلّ الأزمنة والعصور. أليس هذا ما يحصل في لبنان؟ عوض أن ينصرف الجميع إلى إنقاذ البلد يهتمّ كلّ فريق بما يناسبه وينفخ كبرياءه ولو على حساب لبنان. عوض أن يلتفّ الجميع حول المصلحة العامّ، يلتفتون إلى مصالحهم الخاصّة تاركين البلد يغرق بمن فيه. بالمماطلة سوف نخسر لبنان الذي يُدمّر. من دون انتخاب رئيس يحمل قضيّة لبنان إلى المحافل الدوليّة سوف يتنطّح الغريبُ لهذه المُهمّة. إن لم نُعِد تكوين السلطة في بلدنا كيف نُسمِعُ صوتنا؟ نحنُ في أمسّ الحاجة إلى انتخاب رئيس يكون هو المُفاوِضُ باسمنا عوض أن نكون ورقةً تُباعُ على طاولة المفاوضات. هل غياب سلطة لديها المشروعيّة الكافية لتحكُم لبنان، وتكون الناطقة الوحيدة باسمه، يُعيقُ مشاريع ومصالح أخرى؟ ألم ندرك أنّ حقوق الشعوب قد تكون وقودًا لطموحات الخارج ومصالحه؟ على المجلس النيابيّ القيامُ بواجبه الدستوريّ في أسرع وقت، كما عليهم عدم انتظار الخارج كائنًا من كان...نحن بحاجة إلى رجال دولة يتّخذون مواقف تاريخيّةً تُنقذ لبنان".

ختم المطران بالقول: "دعوتنا اليوم أن نضع بلدنا في صدارة اهتماماتنا وأن يقوم كلُّ فرد منّا بواجبه بأمانة تُجاه وطنه، وأن نبقى ملتصقين بالمسيح بوداعة ومحبّة وتواضع، لا أن نتبع الشيطان وألاعيبه التي تُثقل كاهلَنا وتقيّد نفوسنا بسلاسل الموت، آمين".