لبنان
13 أيار 2024, 07:30

"الذكاء الإصطناعي وحكمة القلب من أجل تواصل إنساني كامل" - المطران العنداري

الوكالة الوطنيّة للإعلام
ترأّس المطران أنطوان نبيل العنداريّ رئيس اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام قدّاسًا في كنيسة السيّدة في عمشيت على نيّة الصحافيّين والإعلاميّين والعاملين في وسائل الإعلام جميعهم، لمناسبة اليوم العالميّ الثامن والخمسين لوسائل الإعلام، عاونه فيه الأب عبدو أبو كسم رئيس المركز الكاثوليكيّ للإعلام، الخوري أنطوان عطالله المسؤول الإعلاميّ في أبرشيّة جبيل المارونيّة، خادم الرعيّة الخوري شربل الخوري، في حضور الرئيس ميشال سليمان، والقائم بأعمال السفارة البابويّة المونسنيور جيوفاني بيكياري وراعي أبرشيّة جبيل المارونيّة المطران ميشال عون، وحضور وفد من مجلس كنائس الشرق الأوسط ،ورئيس مجلس إدارة تلفزيون "تيلي لوميار" جاك كلاسي، وحشد من المؤمنين.

 

 

بعد الإنجيل ألقى المطران العنداري عظة تحدّث فيها عن الرسالة التي أصدرها البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي الثامن والخمسين لوسائل التواصل الاجتماعي بعنوان "الذكاء الاصطناعي وحكمة القلب من أجل تواصل إنسانيّ كامل". وقال: "دأب قداسته على تصويب تعليم الكنيسة في وجه التطوّرات التكنولوجيّة بما فيها الأخبار الكاذبة والأباطيل. وتناول هذا الموضوع في الفترة الأخيرة، أقلّه، في رسائله إلى الهيئة العامّة لجمعيّة الأمم المتّحدة، والبرلمان الأوروبيّ، واليوم العالميّ للسلام".

 

وفنّد ما جاء في الرسالة

أولًا: كيف يمكن التوصّل إلى الحكمة الصحيحة والحقيقيّة؟ وكيف يمكن ضمان الكرامة الإنسانيّة؟ إلى جانب تساؤلات عديدة، تثير رسالة قداسة البابا فرنسيس المسألة التالية: ما هو الإنسان؟ وما هي خصوصيّته؟ وما هو مستقبل الإنسان العاقل في عصر الذكاء الاصطناعيّ؟ وكيف يمكننا أن نحافظ ونبقى بكلّ إنسانيّتنا في مواجهة وتوجيه التغيير الثقافيّ الجاري نحو خير الجميع؟

ثانيًا:يجب أوّلًا إخلاء الساحة من محتوى القراءات والخطابات الكارثيّة ومفاعيلها التي تشلّ العمل إذا ما كنّا ننقاد إليها. ويستخدم قداسة البابا ما جاء في دعوة الكاهن والفيلسوف الإيطالي-الإلماني Romano Guardini إلى عدم التصلّب في المواقف أمام ما هو جديد، ولكنّه أطلق تحذيرًا نبويًّا عاجلًا في الوقت عينه، وهو يفّكر في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، قائلًا: مكاننا هو في التطّور والمصير. وأن نتكيّف مع هذا الواقع، كلّ واحد في التزام موقعه...

ثالثًا: يقترح قداسته في هذا العصر الذي يوشك أن يكون غنيًّا بالتكنولوجيا وفقيرًا في الإنسانيّة، أن نبدأ تفكيرنا انطلاقًا من قلب الإنسان؛ مجهّزين فقط بقوّة نظرة روحيّة، وفقط باستعادة حكمة القلب حيث يمكننا أن نقرأ ونفسّر ما هو جديد في عصرنا، وأن نكتشف من جديد طريق التواصل الإنسانيّ الكامل. فالقلب بحسب مفهوم الكتاب المقدّس هو مقرّ الحريّة وأهمّ القرارات في الحياة. هو رمز للاستقامة والوحدة، وهو قبل كلّ شيء المكان الداخليّ للقاء مع الله. لذلك حكمة القلب هي تلك الفضيلة التي تسمح لنا بأن ننسج معًا ونجمع بين الكلّ والأجزاء، والقرارات ونتائجها، وسموّ الأفكار وضعفها، والماضي والمستقبل، والأنا والنحن.

رابعًا: تجد حكمة القلب من يبحث عنها، ومن يحبّها يراها ويعمل بها. إنّها –أي الحكمة- مع الذين يقبلون النصائح، ومع الذين لهم قلب مطيع، وقلب يصغي، وعطيّة الروح القدس التي تسمح بأن نرى الأشياء بعينَي الله، فنفهم المواقف والأحداث ومعانيها. من دون هذه الحكمة لا طعم للوجود. إنّها حكمة القلب بالتحديد التي تعطي طعمًا للحياة.

خامسًا: ما هي فرص ومحازير الذكاء الاصطناعيّ؟ أمام المقارنة بين حكمة القلب والذكاء الاصطناعيّ، يؤكّد قداسة البابا أنْ لا يمكننا أن نتوقّع أو نطلب هذه الحكمة من الآلات. فعلى الرغم من أن مصطلح الذكاء الاصطناعيّ حلّ اليوم محلّ المصطلح المستخدم في الأدبيّات العلميّة، وهو التعلّم الآليّ، فإنّ استخدام كلمة الذكاء في حدّ ذاتها أمر مضلّل وغشّاش. لا شكّ في أنّ الآلات تتمتّع بقدرة هائلة أكبر من قدرة البشر على حفظ البيانات وربط بعضها ببعض، ولكنّ الأمر متروكٌ للإنسان. وللإنسان وحده أن يشفّر أو يفكفك المعنى. وبالتالي لا يتعلّق الأمر بمطالبة الآلات أن تبدو مثل البشر، بل بالأحرى إيقاظ الإنسان من التنويم المغنطيسيّ الذي يقع فيه بسبب هذيان القدرة المطلقة، وهو يعتقد أنّه ذات مستقلّة كليًّا وهو مرجعيّة ذاته، منفصلًا عن كّل رابط اجتماعيّ، ناسيًا أنّه مخلوق.

سادسًا: لقد اختبر الإنسان في الواقع أنّه غير قادر على كفاية نفسه، وحاول أن يتغلّب على ضعفه بمختلف الوسائل. بدأ بالمصنوعات اليدويّة في عصور ما قبل التاريخ، والتي استُخدمت كامتداد لذراعَيه، وصولًا إلى وسائل الإعلام المستخدمة كامتداد للكلمة. وقد وصلنا اليوم إلى أحدث الآلات التي تعمل كمساعدة للفكر. ومع ذلك كلّ واحدة من هذه الأمور والوقائع يمكن أن تلوّث بالتجربة الأصليّة أو الخطيئة الأصليّة، أي الإنسان الذي يريد أن يصير مثل الله، ومن دون الله. أي أنّه يريد أن يخضع بقوّته ما هو عطيّة تقبّلها من الله وعليه أن يعيشها في العلاقة مع الآخرين.

سابعًا: فالقلب، إذًا، يصنع الفرق في استخدام التكنولوجيا والأنظمة. وبحسب توجيه القلب، كلّ شيء في متناول الإنسان يصير فرصة أو خطرًا. وبالتالي فإنّ أنظمة الذكاء الاصطناعيّ يمكن أن تساهم في عمليّة التحرّر من الجهل وتسهيل تبادل المعلومات بين مختلف الشعوب والأجيال. ولكن في الوقت عينه يمكن أن تكون أدوات "تلوّث معرفيّ"، وتحريف الوقائع من خلال روايات كاذبة جزئيًّا أو كليًّا. ومع ذلك يتمّ تصديقها كما لو كانت حقيقيّة. يكفي أن نفكّر في مشكلة المعلومات المضلّلة التي نواجهها منذ سنوات في مسألة الأخبار المزيّفة، والتي تستخدم اليوم التزييفَ العميق، أي إنشاء ونشر الصور والرسائل الصوتيّة التي تبدو معقولة تمامًا ولكنّها كاذبة. لذلك من الضروريّ أن نتّخذ إجراءات الوقاية اللازمة، وأن نقترح نماذج للتنظيم الأخلاقيّ، لكي نوقف الآثار الضارّة والتمييزيّة وغير العادلة اجتماعيًّا لأنظمة الذكاء الاصطناعيّ.

ثامنًا: نحن مدعوّون، إذًا، إلى أن ننمو معًا في الإنسانيّة وبطريقة إنسانية حتّى نقوم بقفزة نوعيّة على مستوى مجتمع معقّد، متعدّد الأعراق، وتعدّديّة الأديان والثقافات. ومن الضروريّ أن نتساءل حول التطوّر النظريّ والاستخدام العمليّ لأدوات الاتّصال هذه والمعرفة الجديدة. ومن المجدي أن نعرف أنّ هذه الإمكانيّات الكبيرة للخير يرافقها خطر تحوّل كلّ شيء إلى حسابات مجرّدة، فيتحوّل الأشخاص إلى بيانات، والفكر إلى مخطّطات مرسومة، والتجربة إلى حالة، والخير إلى استفادة. وأهمّ ما في الأمر أن ننتهي إلى إنكار فرادة كل شخص وتاريخه، إذ تذوب حقيقة الواقع في سلسلة من البيانات الإحصائيّة.

تاسعًا: يمكن أن يساهم استخدام الذكاء الاصطناعيّ بشكل إيجابيّ في مجال وسائل الاتّصال والإعلام، إن لم يلغ دور الصحافة، بل على العكس إن رافقها، وإن ثمّن كفاءة التواصل المهنيّة، وجعل كلّ عامل في مجالات الاتّصالات مسؤولًا، وإن أعاد لكل إنسان دور الشخص القادر على نقد التواصل نفسه".

أضاف: "ويختم قداسة البابا رسالته بتوجيه بعض الأسئلة نذكر منها: أ- كيف نحمي الكفاءة المهنيّة والكرامة للعاملين في مجال الإعلام والمعلومات؟ ب- كبف نضمن التعاون في العمل في المنصّات؟ ج- كيف نتأكّد من أنّ الشركات التي تقوم بتطوير المنصّات الرقميّة تتحمّل مسؤوليّاتها في ما يتعلّق بما تنشره وتستفيد منه، أسوة بما يحدث لناشري وسائل التواصل التقليديّين؟ د- كيف نضمن شفافيّة الإجراءات المعلوماتيّة؟ ه- كيف نعرف إن كانت الصورة واقعًا حقيقيًّا أم تمثيل؟ و- كيف نتجنّب حصر المصادر في مصدر واحد؟"

عاشرًا: من خلال إجاباتنا على هذه الأسئلة وغيرها سنفهم إذا ما كان الذكاء الاصطناعيّ يؤدّي إلى خلق طبقات جديدة مؤسّسة على السيطرة الإعلاميّة، ويولد أشكالا جديدة من الاستغلال وعدم المساواة، أو، على عكس ذلك، سيجلب مزيدًا من المساواة، ويعزّز إعلامًا صحيحًا ويدعمه، ويشجّع الإصغاء إلى الاحتياجات المتعدّدة للناس والشعوب. إنّ الجواب ليس مكتوبًا، بل يعتمد علينا. على الإنسان أن يقرّر إمّا أن يصير طعامًا للبيانات والخوارزميّات وإمّا أن يغذّي قلبه بالحريّة وينمو في الحكمة التي تمرّ عبر القلوب النقيّة التي ستساعدنا على رصّ صفوف أنظمة الذكاء الاصطناعيّ من أجل تواصل وإعلام إنساني بالكامل".

وتوجّه المطران العنداري إلى الإعلاميّات والإعلاميّين بالقول: "دعوتنا ورسالتنا، كما هو معلوم، هي احترام الحقيقة ونشرها، وهي قاعدة إنجيليّة: " تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم". وتتعاظم الدعوة والرسالة في استعمال وسائل الإعلام وتأثيرها على الرأي العامّ. ولمجتمعنا اللبنانيّ والمجتمعات كلّها الحقّ في إعلام يقوم على الحقيقة والحريّة والعدالة والتضامن وبناء السلام. وتقتضي ممارسة هذا الحقّ أن يكون محتوى إعلامِنا، بالوسائل التقليديّة أو بواسطة الذكاء الاصطناعيّ، صحيحًا، صادقًا، لائقًا، مستقيمًا، دقيقًا، محافظًا على القواعد الأدبيّة وحقوق الإنسان وكرامته. إنّ جمال الحقيقة ينبع من حكمة القلب".

وختم المطران العنداري قال: "في غمرة هذه الأيّام الصعبة والمصيريّة نضرع إلى الله مع القدّيس فرنسيس الأسّيزي: "يا ربّ إستعملني لسلامك، فأضع الحبّ حيث البغض والحقيقة حيث الضلال".

 

وفي نهاية القداس قدّم العنداري درعا تقديريّة لخادم الرعيّة وألقى إبو كسم كلمة شكر هنّأ فيها الإعلاميين على دورهم ورسالتهم في نقل الخبر للمواطنين بدقة وأمانة.