"الحياة الأبديّة تبدأُ بمحبّة القريب": المتروبوليت عوده (1)
بعد قراءة الإنجيل، تأمّل المطران عوده في الآية "أيُّها المُعلّمُ الصالحُ ماذا أعملُ لأرث الحياة الأبديّة؟" وقال: "سؤال هذا الإنسان مهمٌّ، لأنّه ينتظر جوابًا بهدف الخلاص، لكنّ المُشكلة كانت في سبب طرحه. يقول النصّ إنّه قصد الربّ «مجرّبًا له»، مُنتظرًا منه أن يقول شيئًا مخالفًا لتعاليم اليهود وللنّاموس ليشتكي عليه بشهادة السامعين. لكنّ "العارف مكنونات القلوب" عرف أفكار الشابّ وأجابهُ: "لماذا تدعوني صالحًا وما صالحٌ إلّا اللهُ وحدهُ؟".
عند اليهود، صفة «صالح» لا تُطلق إلّا على الله، لذلك سأل الربّ الشابّ عن سبب دعوته صالحًا، كأنّه يقول له: إمّا أنّك تعترف بأنّي الله، أو إنّك لا تعرف ناموسك.
كان هدف الشابّ أن يسمع من المسيح إلغاءً للوصايا، لكنّ الربّ ثبّتها، وذكّره بها معدّدًا القسم الثّاني منها.
كان اليهود يعتبرون أنّ اللوح الأوّل من لوحي العهد كان يحوي الوصايا التي تتحدّثُ عن علاقة الإنسان بالله، أمّا الثاني فيحمل الوصايا التي تحدّد علاقة الإنسان بالآخر. لافتٌ أنّ الربّ ذكر الوصايا الموجودة في اللوح الثاني: "لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك".
جاء جواب الربّ بأنّ ميراث الحياة الأبديّة يكون عبر تطبيق الوصايا حول علاقة الإنسان بالآخر. طبعًا، لا يقصد الربّ أنّ علاقتنا بالله ليست مهمّة، إنّما علاقتنا بالآخر تحدّد علاقتنا بالله. هذا ما يؤكّده يوحنّا في رسالته الأُولى حيث نقرأُ: «إن قال أحدٌ إنّي أُحبُّ الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأنّ من لا يحبّ أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحبّ الله الذي لم يبصره؟ ولنا هذه الوصيّة منه أنّ من يحبّ الله يحبّ أخاه أيضًا (4: 20-21).
يأتي جواب الشابّ سريعًا: "هذه كلُّها حفظتُها منذ حداثتي"، لكنّ الربّ يعقّب: "يُعوزُك أيضًا شيء"، وكأنّه يقول له إنّ حفْظ الوصايا منذ الحداثة لا يعني العمل بها، لذلك ينقص تطبيقها والعيش بموجبها. لقد أتى الشابّ طالبًا سبيل الحياة الأبديّة، فكان الجواب أنّ الحياة الأبديّة تبدأ بمحبّة القريب.
لم يكتف الربّ بجواب نظريّ، بل أعطى الشاب حلًّا عمليًّا طالبًا منه أن يبيع كلّ ما يملك ويوزّعه على المساكين ليكون له كنز في السماء، ثمّ "تعال اتبعني"، موضحًا له كيف يكنز في السماء ويربح الحياة الأبديّة.
ولكن،جوابُ الربّ لم يأت كما أمل الشابّ الذي "حزن لأنّهُ كان غنيًّا جدًّا".
المسيحيّة لا تجرّم الغنى الذي هو عطيّة من الله. نجد في الكتاب المقدّس شخصيّات عدّة غنيّة بارّة كإبراهيم وأيّوب ويوسف الرامي وغيرهم. المشكلة لا تكمن في الثروة بل في محبّة المال. "محبّة المال أصل لكلّ الشُّرور، الذي إذا ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1تي 6: 10).
في مجتمعنا، الممتلكات تحدّد علاقتنا بالآخرين. مثلًا، عندما يتقدّم شابّ طالبًا الزواج، لا يسأله الأهل عن علاقته بالربّ، بل عمّا يملك، وعن عمله ووضعه الاجتماعيّ. كذلك من يملك ثروةً يستحق الاحترام في أعين معظم الناس أكثر من المعدم. لكنّ الغنى ليس دائمًا مصدرًا للفرح والسعادة لأنّه قد يشكّل سببًا للخوف والقلق. فبعض الأغنياء يصرفون العمر في تجميع الثروة والقلق من إمكانيّة فقدها فلا تكون مصدرًا لسعادتهم أو سعادة غيرهم"...يتبع.