لبنان
18 آب 2025, 11:50

عوده: كلّما اقتربنا من العذراء بالصّلاة اقتربنا من ابنها

تيلي لوميار/ نورسات
في صباح عيد رقاد السّيّدة والدة الإله الفائقة القداسة، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة قدّاس العيد، في كنيسة نياح السّيّدة- رأس بيروت، بحضور حشد من المؤمنين.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "يا أحبّة، نحتفل اليوم بعيد رقاد والدة الإله الدّائمة البتوليّة مريم، ونجد أنفسنا أمام سرّ يفوق العقل لأنّه يجمع بين بهاء المجد وعمق التّواضع. الكنيسة، بوحي الرّوح القدس، لا ترى في هذا العيد مجرّد ذكرى لحدث مضى بل إعلانًا عن رجائنا في المسيح القائم من بين الأموات، والجاعل من جسد أمّه، الّذي منه أخذ جسده عربونًا لتمجيد جسد كلّ الّذين يحبّونه، هذا الجسد الّذي هو إناء للرّوح القدس.

رقاد والدة الإله تذكير لنا بأنّ الموت، بعد قيامة الرّبّ، لم يعد سيّدًا يخيف النّفوس، بل صار، كما يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "جسرًا نعبر به من هذه الحياة إلى الحياة الأبديّة". شاء الرّبّ بحكمته أن يحفظ جسد أمّه من فساد القبر، وأن ينقلها إلى السّماء بكلّ كيانها، لأنّها حملته في أحشائها تسعة أشهر، وفي قلبها إلى الأبد، ووقفت عند الصّليب تشاركه آلامه بلا تردّد، كما تنبّأ سمعان الشّيخ قائلًا: "وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف" (لو 2: 35). هذا السّيف صار لها إكليل مجد في ملكوت ابنها.

كانت العذراء، بشهادة الكتاب المقدّس، ممتلئةً نعمةً، وقد وجدت حظوةً عند الله (لو 1: 28-30). إمتلاؤها نعمةً لم يكن حدثًا عابرًا، بل مسيرة دائمة من الطّاعة الكاملة للمشيئة الإلهيّة. يقول القدّيس إيريناوس إنّها "حلّت عقدة عصيان حوّاء بطاعتها"، وهكذا، كما دخل الموت إلى العالم بعصيان حوّاء الأولى، دخلت الحياة بطاعة حوّاء الثّانية. لذلك، لم يكن ممكنًا أن يبقى الجسد الّذي صار هيكلًا لله أسير الفساد، بل كان لائقًا أن يكرّمها ابنها بنقلها إلى الحياة الأبديّة. يعلّمنا القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ أنّ "الّذي حفظها عذراء في ولادتها، حفظ جسدها من الفساد بعد موتها، وأكرمه بالانتقال إلى النّور الإلهيّ". هذا ليس فكرةً لاهوتيّةً جميلةً، بل إعلان عن مصير كلّ مؤمن يثبت في المسيح، لأنّ ما حدث للعذراء مريم هو صورة مسبقة لما سيناله كلّ من يحبّ الرّبّ ويحفظ وصاياه. فقد أصبحت الجسر الّذي من خلاله جاء الله إلى البشر والباب الّذي عبر منه البشر إلى الله.

الرّقاد الّذي نحتفل به اليوم ليس موتًا يبتلع الحياة، بل انتقال نحو الحياة الّتي لا تزول. العذراء لم تعرف الموت كقصاص للخطيئة، لأنّها وإن كانت إنسانةً مثلنا، إلّا أنّها تنقّت بكلّيّتها بفعل النّعمة، فعرفت الموت كعبور، كما عبر ابنها قبلًا، لتدخل معه في المجد.

لافت أنّ التّقليد يخبرنا أنّ الرّسل الّذين كانوا موزّعين في أقطار الأرض اجتمعوا بأعجوبة في أورشليم ليشهدوا انتقالها. كان هذا، بحسب القدّيس أندراوس الكريتيّ، "إشارةً إلى أنّ مريم هي أمّ الكنيسة الجامعة، وأنّ رقادها هو حدث يخصّ جسد المسيح كلّه". فكما كانت حياتها على الأرض في قلب الكنيسة الأولى، كذلك صارت حياتها الممجّدة في السّماء ضمانةً وحمايةً للكنيسة في كلّ زمان.

نجد في هذا العيد دعوةً واضحةً للعيش في انتظار رقادنا، لا كأمر نخافه، بل كموعد لقاء مع الرّبّ. يقول القدّيس أثناسيوس الكبير: "المسيحيّ لا يموت، بل ينام في الرّبّ وينتقل إليه". فكما عبرت والدة الإله، مثال النّقاوة والطّاعة، من هذا العالم، نحن أيضًا مدعوّون لنتهيّأ لذلك العبور بتوبة صادقة وإيمان عامل بالمحبّة، وكلّما اقتربنا منها بالصّلاة، اقتربنا من ابنها، لأنّها لا تحتفظ بشيء لنفسها، بل تقود كلّ ملتجئ إليها نحو المسيح. إنّها لا تنسى أولادها المجاهدين على الأرض، بل تظلّ حاضرةً في حياتهم. ولعلّ أبهى ما نراه في أيقونة الرّقاد هو صورة المسيح حاملًا بين يديه نفس أمّه على شكل طفلة صغيرة، كأنّها تولد من جديد إلى الحياة الأبديّة. هذا يذكّرنا بأنّ الموت ليس النّهاية، بل بداية الميلاد الثّاني في السّماء، وهو أيضًا علامة رجاء لنا بأنّنا سنقف أمام المسيح في ذلك اليوم، إذا ثبتنا في الإيمان، ليحملنا إلى ملكوته كما حمل أمّه.

إذًا، في رقاد العذراء لا نحزن كمن لا رجاء لهم، بل نفرح لأنّنا نرى في مصيرها مصيرنا نحن إن سرنا في طريق الرّبّ. بهذا الرّجاء نحيا، إلى أن نبلغ ذاك الفرح الأبديّ حيث لا موت ولا حزن ولا تنهّد، بل حياة لا تزول، آمين."