"أمرهم بالإبحار إلى العمق، وهذا أشدّ خطورة من البقاء على الضفّة، لكنّ الصيد في الأعماق أغنى": المتروبوليت عوده
إذًا، قبل التعليق على نصّ الإنجيل قال المتروبوليت عوده: "لا بدّ في البداية من إدانة الجرائم المروّعة التي تحصل، وهي تفوق كلّ تصوّر وتتخطّى كلّ الأعراف الإنسانيّة والمواثيق الدوليّة. أملنا في هذا الوقت العصيب أن يتغلّب المنطق والعقل على الغرائز، وأن تتضافر الجهود من أجل وقف الحرب والنار والتنكيل بخليقة الله التي خلقها للحياة. حمى الله لبنان وأبناءه وبسط سلامه في بلدنا وفي العالم أجمع".
ثمّ انتقل إلى التأمّل في نصّ الإنجيل وقال: "نفهم من إنجيل اليوم أنّ الربّ يسوع لم يكن لديه بعد تلاميذ قد التزموا الكلمة، على الرغم من الجموع التي كانت تتبعه أو تتحلّق حوله وتسمع تعاليمه وتتأثّر بآياته، لكنّها تعود إلى الاهتمامات اليوميّة. يوحي لنا إنجيل اليوم أنّ الربّ أراد أن يلتزمه مختاروه الأوّلون التزامًا كاملًا ونهائيًّا، لكي يتمكّن من تهيئتهم للرسوليّة التي ستلقى على عاتقهم.
كان المسيح يخاطب الجموع معلّما، من سفينة بطرس، أي صار بطرس ومن معه ملزمين بأن يتركوا شباكهم وبقيّة أشغالهم ويصغوا إليه. بعدما فرغ من التعليم، نراه يخاطب بطرس طالبًا منه الذهاب إلى العمق لإلقاء الشباك.
لقد أمرهم بالإبحار إلى العمق، الأمر الأخطر من البقاء على الضفّة. لكنّ الصيد في الأعماق أغنى. هكذا المؤمن الحقيقيّ، لا يكتفي بمعرفة الله السطحيّة لأنّه يرفض الاكتفاء بما يتّسع له المنطق البشريّ الذي، مهما اتّسع، يبقى محدودًا. المؤمن الحقيقيّ، غالبا ما يجد نفسه في تنازع بين إرادته الاستسلام لحكمة الله وبين ميوله القويّة إلى اتّباع ما يتّسع له عقله ومنطقه، لكنّ اختياره لحكمة الله يغلب، لأنّه يعرف أنّه اختار الأفضل والأغنى، وأنّ الله يكشف لطالبيه الحقيقيّين خفايا حكمته ليحيوا".
تابع المطران عوده شرحه: "يعلن سمعان للسيّد أنّهم تعبوا ولم يصطادوا شيئا. هذا "التصريح" يصف حال حياتنا الإيمانيّة السطحيّة، التي تحوي التعب الكثير، والثمر القليل. سمعان، الذي أصغى إلى تعاليم السيّد، لم يوقفه التعب، بل قال: "يا معلّم... بكلمتك ألقي الشبكة".
غالبّا ما نرى في الكتاب المقدّس، ما يشبه التناقض بين المنطق البشريّ والحكمة الإلهيّة، لأنّ المنطق البشريّ هو من هذا العالم المحدود، أمّا حكمة الله فلا تحدّ. لا يطلب الله من أحبّائه أن يكونوا بلا فهم أو حكمة. نحن نؤمن بأنّ كلّ العطايا الصالحة تأتي من الله، بما فيها العلم والمعرفة والحكمة، كما نؤمن بأنّ تطوّر العلم وتنامي المعارف من علامات عناية الخالق بخليقته. مأساة المنطق البشريّ أنّه محدودٌ بما يراه ويتلمّسه، ولا قدرة له على استيعاب ما ليس محسوسًا".
أكمل المتروبوليت عوده شرحه، قال: "مأساة زماننا أنّنا نرفض الإقرار بمحدوديّة المنطق، كخطوة أولى إلزاميّة للاستسلام إلى الحكمة الإلهيّة. من صمّم على تعهّد حياته بفهمه الشخصيّ فقط، يكفّ يد العناية الإلهيّة عنه. لا مكان في حياتنا لإلهين، والله أعطانا أن نختار، وأراد أن يكون خيارنا حاسمًا. حياتنا الأرضيّة تأتي علينا بالهموم، وقد تدفعنا أحيانا إلى القلق إزاء ما ليس «منطقيّا» بحسب فهمنا. هذا من ضعفنا البشريّ، والله لا يحسبه علينا إثما. لكنّ الإثم يكمن في أن يبقى الإنسان مُشيحًا بوجهه عن
في عالمنا الحاضر، المتخبّط بالحروب والمشاكل، حيث يكثر الحقد والغشّ والكذب والرياء، وتنعدم الإنسانيّة والمحبّة، يحتار الإنسان في من يضع ثقته، ومن يصدّق في مواجهته لمسؤوليّات الحياة ومتاعبها. يقول كاتب المزامير: «لا تتّكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده» (146: 3). كم هو صحيحٌ هذا القول في أيامّنا، لأنْ لا ملجأ ولا ملاذ للضعيف والفقير والمظلوم، لأنّ كثيرين ممّن يتوجّب عليهم حماية هؤلاء يتلهّون بأمورهم، ما يسبّب الحزن والإحباط للمحتاجين.
رمى بطرس شباكه واثقا من أنّ النتيجة ستكون إيجابية. قد يقول بعضنا إنّه مؤمنٌ بالله وحكمته، وأمور حياته ما زالت تتعسّر. هل نسأل أنفسنا من أين تأتي مقاييس التيسير أو عدمه؟ أليست مستمدّة من مفاهيمنا البشريّة المحدودة؟ دعوتنا اليوم أن نعيش على الرجاء بالربّ وأن نسعى دومًا إلى اختيار حكمة الله لأنّها، وإن كانت بعد مستورة أمامنا، إلّا أنّ علينا أن ندرك أنّها هي وحدها ملء الخير، آمين.