لبنان
02 آب 2021, 06:30

يونان في قدّاس مباركة حجّ أيقونة العائلة المقدّسة إلى لبنان: كم نحتاجها كي تذكّر جميع المسؤولين بأنّ عليهم العمل قبل الكلام

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان، يوم السّبت، بقدّاس إلهيّ في كاتدرائيّة سيّدة البشارة- المتحف، لمناسبة تكريس الشّرق الأوسط للعائلة المقدّسة ومباركة مسيرة الحجّ في لبنان لأيقونة العائلة المقدّسة للمشيئة الإلهيّة"، المرصّعة بذخيرة من بازيليك البشارة في النّاصرة، عاونه فيه المطران ربولا أنطوان بيلوني، ورئيس اللجنة الأسقفية "عدالة وسلام" في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان شكرالله نبيل الحاج، والنّائب العامّ لأبرشيّة بيروت البطريركيّة ونائب رئيس اللّجنة الأسقفيّة "عدالة وسلام" ورئيس اللّجنة المنظِّمة لزيارة أيقونة العائلة المقدّسة المنبثقة من لجنة "عدالة وسلام" متياس شارل مراد.

كما شارك في القدّاس رئيس أساقفة أبرشيّة حلب للأرمن الكاثوليك والمدبّر البطريركيّ للكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة المطران بطرس مراياتي، والمطران أثناسيوس متّي متّوكة، ولفيف من الكهنة والرّهبان والرّاهبات والشّمامسة من مختلف الكنائس في لبنان، وجموعٌ من المؤمنين.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى يونان عظة قال فيها:

"نكرّم اليوم أيقونة "العائلة المقدّسة للمشيئة الإلهيّة" الّتي تزورنا في لبنان، وستتابع زيارات الحجّ إلى سوريا، العراق، مصر والأردنّ.

تمثّل هذه الأيقونة الّتي كُرِّمت أوّلاً في بازيليك سيّدة البشارة في النّاصرة يوم الأحد 27 حزيران الماضي، الرّبَّ يسوع والعذراء والدة الله ومار يوسف الحامي ليسوع ومريم. وقد زرنا الأراضي المقدّسة في مطلع شهر تمّوز الحاليّ، واحتفلنا بالقدّاس الإلهيّ في بازيليك البشارة في النّاصرة، وفي ختامه أنشدنا أمام موضع البشارة، تشمشت (خدمة) العذراء مريم باللّغة السّريانيّة، لغة الرّبّ يسوع وأمّه العذراء مريم والرّسل الأطهار.

وكما في النّاصرة والأراضي المقدّسة، نستقبل هذه الأيقونة في لبنان بالفرح، متذكّرين قول مار بولس في رسالته إلى أهل فيلبّي "إفرحوا"، فمهما كانت آلامنا وأوجاعنا، فإنّنا نبقى الشّعب العامر بالفرح، لأنّنا ندرك أنّ الرّبّ يسوع معنا ولا يتركنا، وحتّى في أوقات الملمّات والضّيقات والألم والوجع والجوع، لأنّنا أحبّاء لدى الرّبّ يسوع. كما نستقبل هذه الأيقونة ونكرّمها بالشّكر وبالثّقة مع الرّجاء الوطيد أن ننال بواسطتها النِّعَم الّتي نحتاج إليها، كأفرادٍ وعائلاتٍ، كصغارٍ وكبارٍ، شبابٍ، وآباءٍ وأمّهاتٍ وأجدادٍ، وأن يتبارك لبنان كلّه بمختلف جماعاته الدّينيّة والمدنيّة. ونحن نعلم كم يعاني هذا البلد الصّغير منذ سنوات، من أعاصير مخيفة تهدّد وجوده، وتقضي على الرّسالة الّتي تَميّز بها في محيطه، لاسيّما التّوافق على عيشٍ واحد، غايته الحفاظ على الوطن، بالمواطنة الصّحيحة الفاعلة.

أيقونة العائلة المقدّسة هذه، محورُها الرّبّ يسوع، كلمة الله المتأنّس، الإله الكامل والإنسان الكامل. لم يكن يسوع يكتفي بالكلام، بل كان يعمل، حتّى أنّه تخلّف عن المجموعة العائدة من أورشليم إلى الجليل، لأنّه كان بين العلماء يكلّمهم ويشرح لهم الكتاب المقدّس. نتضرّع إليه كي يرحمنا، ويغفر لنا، ويتمّم فينا نِعَمَ الفداء بذبيحته الوفائيّة عنّا، بموته وقيامته، وكي يبقى معنا كما وعدنا إلى انقضاء الدّهر. ونكرّم أمّه العذراء مريم الكلّيّة القداسة بأحلى الأسماء، ونحن في كنائسنا الشّرقيّة جميعها نذكرها ونكرّمها في كلّ قدّاس وصلاة، ونُشيدُ بمدائحها لأنّها هي الّتي تجسّد منها الرّبّ يسوع بمشيئة الآب، وجعلها ممتلئةً من النِّعَم. وهي القديرة بشفاعتها الأموميّة من أجلنا لدى ابنها، يسوع الفادي. ونلجأ إلى مار يوسف، الرّجل البارّ كما يصفه الإنجيل المقدّس، والبرارة تعني أنّه كان يعيش بروح الله، ولم يكن يتشكّى من شيءٍ أبداً، حتّى أنّه حين عَلِمَ بحبل مريم، صلّى إلى الله، فاستجاب الله صلاته وأفهمه أنّ الحَبَل بمريم العذراء هو من الرّوح القدس. نكرّم مار يوسف متضرّعين إليه كي يحمينا ويرافقنا في عتمات هذا الطّريق الّذي علينا أن نسلكه.

ننظر إلى هذه الأيقونة ونتأمّل بها مليًّا، منذهلين بالصّمت العميق الّذي توحي به. وهو صمتٌ يعبّر عن حياة الشّركة الإلهيّة، الّتي عاشها يسوع ومريم ويوسف في النّاصرة. لم ينقل الإنجيل سوى كلمات نادرة تلفّظتْ بها مريم، لأنّها كانت تعمل بالخفية وتتأمّل بسرّ ابنها يسوع بالصّمت. فيما يوسف، لا كلمة واحدة منه، بل كان يعمل نجّارًا بصمت. أمّا يسوع، فيقول لنا الإنجيل إنّه عُرِف ابنًا ليوسف النّجّار، وعاش في الخفية يعمل مع يوسف، ويُعرَفُ بمهنته "أليس هذا ابن النّجّار؟"، وما أن بلغ الثّلاثين حتّى بدأ حياته العلنيّة بالكرازة ثلاثَ سنوات. كان عليه أن يعلّم، ولكنّه لم يهدأ بعمله، مجسّدًا تعاليمه بأعماله الخلاصيّة، الّتي تكلّلت بآلامه وموته وقيامته.

نلجأ إلى العائلة المقدّسة، كي نلقي تحت أقدامها، أوجاعنا، قلقنا، ضعفنا، آمالنا ورجاءنا في هذه الأوقات الصّعبة الّتي نمرّ فيها:

نسأل يسوع فادينا أن يرحمنا ويشفق على ضعفنا، فيحوّله إلى قوّة نجابه بها الملمّات المخيفة الّتي تحيط بنا. كما نضرع إليه أن يعزّينا في أحزاننا، ويبعث فينا الرّجاء الحقيقيّ "فوق كلّ رجاء". ونسأل العذراء مريم أمّنا السّماويّة الممتلئة نعمةً، أن تستجيب إلى صلواتنا وتصغي إلى ابتهالاتنا، فهي الأمّ الحنون القادرة بالإله الكلمة الّذي حلّ في حشاها. وإلى مار يوسف الّذي حظي أن يكون مربّي يسوع فادينا، وحامي مريم أمّه، وقد رافق يسوعَ لسنوات، وأُنعِم عليه أن يغادر هذه الأرض الفانية بين يدَي يسوع ومريم، إلى مار يوسف تتّجه أنظارنا، بشكلٍ خاصّ في هذه السّنة المخصَّصة لتكريمه، ونسأله أن يرافقنا بحمايته المطمئِنة، ويعلّمنا الاتّكال التّامّ على الرّبّ والعمل بمشيئته، مهما أظلمت الدّنيا حولنا، ومهما أُغلِقت أبواب الفرج أمامنا.

نتأمّل في هذه الأيقونة، ونُعجَب خاشعين من جوّ السّكون والصّمت الّذي يخيّم عليها. فهي تذكّرنا بأنّ علينا أن نتمّم عمل خلاصنا دون ضجّةٍ أو اعتدادٍ بالنّفس، وأن نعمل قبل أن نتكلّم، وعلى كلامنا أن يحثّنا على العمل الدّؤوب لنشر الخير حولنا والمشاركة في نِعَم الفداء. فهلّا تعلَّمنا من هذه الأيقونة أن نعيش في لبنان، دعوتَنا إلى القداسة، وقبل أن ننتقد، ونتخوّف، ونقلق تجاه الآخرين، علينا أن نقوم بمسؤوليّاتنا بأمانةٍ وسخاءٍ ومصداقيّة، ونعمل كي يبقى وطننا لبنان شعلةً في منطقته، ومثالاً للعيش الواحد ما بين جميع المواطنين، مهما كانت ديانتهم وعرقهم ولغتهم.

نعم، إنّ وطننا يمرّ اليوم بأخطر مراحل تاريخه الحديث، وهو يحتاج أكثر من أيّ يومٍ مضى إلى النِّعَم من العائلة المقدّسة الّتي تطلّ علينا وتتابع حياتنا في هذه الزّمن الصّعب.

كم نحتاج اليوم إلى الاقتداء بالعائلة المقدّسة، نحمل بشجاعةٍ أيقونتها، ونستلهم منها ما حملَتْه لنا بشرى الإنجيل منذ ألفي سنة.

إنّ العائلة المسيحيّة تجتاز أخطر المراحل في عصرنا، ومن واجبنا أن ندافع عنها، إذ عليها أن تعيش بأمانةٍ دعوتها كي تكون "الكنيسة البيتيّة". فلا يُخدَع الشّبّان والشّابّات بما يسوّقه العديد من وسائل الإعلام، ومنظّمات وحكومات في بلدان غربية، وحتّى مرجعيّات دينيّة، أنّه باسم الحرّيّة يُسمَح لأيّ شخص أن يؤسّس عائلة كما يحلو له ويتبنّى أولادًا كما يحلو له، في مفاهيم تناقض ما آمنت به وعاشَتْه المسيحيّة منذ ألفي سنة: بأنّ العائلة بحسب الحقّ الطّبيعيّ والوحي الإلهيّ وتعليم الكنيسة، هي الوثاق الّذي يجمع بين رجلٍ وامرأة، في الحبّ المتبادَل وفي قبول ثمرة هذا الحبّ: الأولاد الّذين هم عطيّة الله، أبناءٌ وبناتٌ له، فهم، أيّ الأولاد، ليسوا لعبةً بين أيدي بالغين من جنسٍ واحدٍ، بل يحتاجون، وبحقّ إلهيّ، إلى أب وأمّ يتفانيان في تنشئتهم، كي ينموا ويكتملوا في إنسانيّتهم ومسحيّتهم كأولادٍ لله!

كلّنا يعلم، أنّنا في لبنان أصبحنا أضحوكةً للعالم، بسبب ما ألمّ بنا من نكبةٍ ماليّةٍ ومعيشيةٍّ، بعد أن كان لبنان يُلقَّب بـ"سويسرا الشّرق". لكن للأسف، ونقولها بكلّ جرأةٍ بأنّ المسؤولين في هذا البلد لم يكونوا على مستوى المسؤوليّة. تكفي الضّبابيّة الّتي لا تزال تخيّم على الانفجار، وبالأحرى التّفجير المخيف الّذي حلّ بمرفأ بيروت منذ عام. كم نحتاج إلى هذه الأيقونة، كي تذكّر جميع المسؤولين في لبنان، بأنّ عليهم العمل قبل الكلام، وأنّ لضحايا هذا التّفجير، الحقّ أن يعرفوا المسبّبين والمقصرّين، الّذين يجب أن تتمّ محاسبتهم ومعاقبتهم.

كم من مرّةٍ سمعنا المسؤولين المتسلّطين، يتغنّون بأمانتهم للدّستور والميثاق والصّيغة! كم وكم سمعنا وقرأنا عباراتهم الرّنّانة، وكأنّهم يقطنون كوكبًا آخر، بعيدًا عن لبناننا الّذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة! يشتكي الكلّ من الكلّ، ولا أحدَ مُتَّهَمٌ! يتباكون على ما وصلت إليه البلاد، وليس من يضع يده على الجرح، ويدعو بنزاهةٍ لحلّ القضايا المستعصية، واحدةً واحدة!

لذا علينا أن نسأل هؤلاء المسؤولين، أكنّا رعاةً كنسيّين أو من المجتمع المدنيّ، كيف يتمّمون واجباتهم الوطنيّة، خاصّةً وأنّهم منتمون إلى طائفة! فعليهم أن يصغوا إلى رئيسهم الكنسيّ، ويغيّروا سلوكهم، ويعملوا جهدهم كي يحلّوا المشاكل المستعصية في الوطن.

وهل يكفي أن ننعت الجميع بالفساد، ونتجاهل تسمية مَن أفقر البلد بفساده وتقصيره؟! أما فهمنا أنّه حان وقتُ العمل الجادّ والاستغناء عن الكلام بتبادُل التُّهم للدّاخل والخارج!

إلى العائلة المقدّسة نلجأ، مستمدّين منها المعونة في هذه الأيّام العصيبة، كي ترافقنا وتعضدنا وتشفع بنا وبعائلاتنا ومجتمعنا ووطننا، وتنتشله من حالة الانهيار الّتي يتخبّط بها. فنرفع معًا نشيد المجد والتّسبيح إلى الثّالوث الأقدس، الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين."