يونان في رسالة الصّوم: الصّوم مسيرة رجاء
"1. مقدّمة
في مستهَلّ رسالتنا وتأمُّلنا بمناسبة زمن الصّوم الكبير، نبتهل إلى الله كي يمنّ بالشّفاء العاجل والتّامّ على قداسة الحبر الأعظم، البابا فرنسيس، الّذي يتلقّى العلاج في المستشفى في روما.
الصّوم الكبير زمن مقدّس، توصينا أمّنا الكنيسة أن نمارسه ونلتزم به، فهو زمن التّوبة أيّ العودة النّادمة إلى الله، بتطهير القلب وإعداده لاستقبال النّعمة الإلهيّة، في مسيرة رجاء وثقة وصبر. والصّوم، لكونه "انقطاعًا" عن الطّعام لفترة محدَّدة من اليوم، تمتدّ من منتصف اللّيل حتّى الظّهر، ثمّ "قطاعةً" تقوم على الاكتفاء بتناوُل الأطعمة الخالية من المنتَجات الحيوانيّة، فهو وقت ملائم لإعادة النّظر في نهج حياتنا الرّوحيّة، مستنيرين بهدي تعاليم الكتاب المقدّس، فنمتلئ من فيض كلمة الله المُحيِيَة، مواظبين على الصّلاة، وساعين إلى التّوبة، وممارسين أعمال الخير والتّقوى والتّقشّف، لنعود فرحين إلى أبينا السّماويّ: "إرجعوا إليّ بكلّ قلوبكم" (يوئيل 2: 12). وهكذا نبلغ فصح الرّبّ يسوع وقيامته الخلاصيّة: "لأنَّنا في الرّجاء نلنا الخلاص، ولكنَّ الرّجاء المنظور ليس رجاءً، لأنَّ ما ينظره الإنسان كيف يرجوه أيضًا؟ ولكن إن كنَّا نرجو ما لسنا ننظره، فإنَّنا ننتظره بالصّبر" (رو8: 24-25).
2. مؤسَّسين على الرّجاء
في عالمنا اليوم هناك شعور وكأنّ كلّ شيء يتدهور على الأصعدة كافّةً، ويسيطر الإحساس باليأس والإحباط على قلوب الكثيرين! وإذا ألقينا نظرةً على تاريخ البشريّة، لا بدَّ وأن نقرّ بأنّ الدّنيا لطالما كانت تتقاذفها أنواع من الأزمات المجتمعيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة من فترة إلى أخرى. وفي تاريخ بشريّتنا المُرهَق بظلمة الخطيئة، نجد الأفراد والشّعوب يصارعون الشّرّ والظّلم والمعاناة من الطّغاة، سعيًا لحياة عادلة وكريمة. ونحن المؤمنين بمحبّة أبينا السّماويّ وبعنايته بنا، نثق بأنّ الرّبّ يسوع، الإله المتأنّس الّذي حلّ بيننا واتّخذ بشريّتنا، أعطانا الرّجاء مفتاحًا لسرّ الخلاص الّذي تمّمه، هذا السّرّ الّذي يفوق كلّ إدراك بشريّ. فإذا قبلناه بإيمان ثابت ورجاء لا يتزعزع، لا شيءَ يغلبنا، بل نخرج دائمًا منتصرين مهما عصفت رياح الأزمات، لأنّنا وضعنا ثقتنا بغلبة مخلّصنا الإلهيّ الّذي وعدنا أنّه سيبقى معنا إلى المنتهى.
الرّجاء- بالمعنى المسيحيّ- لا يعني التّمسّك بوهم إمكانيّة تغيُّر الأشياء في المستقبل، إنَّما هو الحقيقة الأصدق الّتي نؤمن بها وندرك أنّها ستتحقّق، في حين لا نراها بالعين المجرَّدة. الرّجاء ليس الأمل بشيء يمكن أن نختبره بشريًّا، ثمّ تصدمنا الخيبة!، لأنّ "الرّجاء لا يُخيِّب صاحِبَه" (رو5: 5)، والإنسان الّذي يؤسِّس حياته على الرّجاء ويتسلَّح به، هو المنتصر دومًا، إذ لا يمكن أن يخسر بمنطق الله وعهده.
وهذا ما حدا قداسة البابا فرنسيس إلى الدّعوة لعيش هذه السّنة اليوبيليّة 2025 كسنة رجاء في وسط بحر عالمنا الّذي تتلاطمه عواصف الشّرّ والأنانيّات البشريّة من كلّ جانب، واثقين بوعد الرّبّ لنا بالخلاص والحياة الأبديّة.
وها هو القدّيس مار يعقوب السّروجيّ يؤكّد أنّ الصّوم ينشئ رجاءً متى اقترن بالرّحمة والدّموع، فيفيض بالمحبّة: «ܐܳܘ ܨܰܝܳܡܳܐ ܚܠܽܘܛ ܒܶܗ ܒܨܰܘܡܳܐ ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܘܕ̈ܶܡܥܶܐ܆ ܕܒܳܬܰܪ ܕ̈ܶܡܥܶܐ ܐܺܝܬ ܗ̱ܘ ܣܰܒܪܳܐ ܠܰܬܝܳܒܽܘܬܳܐ. ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܘܚܽܘܒܳܐ ܒܳܥܶܐ ܨܰܘܡܳܐ ܡܶܢ ܦܳܪ̈ܽܘܫܶܐ܆ ܕܰܕܠܳܐ ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܠܳܐ ܡܶܬܩܰܒܰܠ ܡܶܢ ܕܰܝܳܢܳܐ»، وترجمته: "أيّها الصّائم أمزج بصومك الرّحمة والدّموع، فبعد الدّموع هناك رجاءٌ للتّوبة. الصّوم يقتضي الرّحمة والمحبّة من الفَطِنين، إذ دون الرّحمة لا يُقبَل من الدّيّان" (من باعوث أيّ طلبة مار يعقوب السّروجيّ، صلاة صباح الثّلاثاء من الأسبوع الأوّل من الصّوم، كتاب الفنقيث، الجزء الرّابع، صفحة 92-93).
3. الرّجاء لا يستسلم في الصّعاب
يدعونا الرّبّ إلى عيش الرّجاء على الدّوام، وبشكل خاصّ في زمن الصّوم الكبير، فمهما ضعفنا وشعرنا أنّنا عاجزون وفقدنا الأمل بإمكانيّة أن تتغيّر الأمور وتتحسّن، ندرك أنّه مع الله لا شيء مستحيل، هو الّذي خلق الكون من العدم، وباستطاعته أن يخلق من الظّلمة نورًا، ومن الموت حياةً، فالّذي يضع رجاءه بالرّبّ لا يخزى أبدًا. لأنّه، وعلى حدّ تعبير قداسة البابا فرنسيس، "بقوّة محبّة الله في يسوع المسيح، يحمينا الرّجاء الّذي لا يُخَيِّب (را. رو5: 5). الرّجاء هو مرساة النّفس، الأمينة والرّاسخة. وبالرّجاء، الكنيسة تصلّي حتّى "يَخْلُصَ جميعُ النّاس" (1تيم2: 4)، وتنتظر أن تكون في مجد السّماء متّحدةً بالمسيح عريسها" (نسير معًا في الرّجاء، رسالة الصّوم لعام 2025).
يخبرنا الإنجيل المقدّس عن أعمى أريحا (را. مر10: 46-52)، ابن الرّجاء، الّذي كان ينتظر لفترة طويلة على قارعة الطّريق، يغمر الرّجاءُ نفسَه أنّه سيأتي يوم وتتغيّر حياته إلى الأفضل. وعندما سمع بقدوم يسوع، أبصر بعين القلب أنّ خلاص الرّبّ قريب، وصرخ صراخًا عظيمًا مرّاتٍ عدّة، لأنّ النّاس حاولوا إسكاته. إنّ إصرار هذا الضّرير النّابع من رجائه العميق والمُمَيَّز بالصّبر، جعل يسوع يتوقّف ويدعوه إلى الوسط ويحقّق له مبتغاه بأن يبصر. لقد انتظر هذا الأعمى بصبر وثقة، متسلّحًا بالرّجاء والتّسليم لمشيئة الله.
في مسيرة صومنا، يرافقنا الرّبّ بنِعَمِه، وينير حياتنا، فلا نخاف من ظُلمة العالم، بل نجدّد ثقتنا كاملةً بقدرته الإلهيّة، ونسلّم له ذواتنا برجاء لا يتزعزع، أنّه لا بدّ أن تبزغ شمس القيامة من عتمة الموت، وتمنح خلاصًا في الوقت المناسب لكلّ إنسان يضع رجاءه بالرّبّ، لأنَّ "نصيبي هو الرّبّ قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه" (مراثي إرميا 3: 24). من هنا، وعلى حدّ قول قداسة البابا فرنسيس، إنّ الرّجاء المسيحيّ لا يستسلم في الصّعاب، فهو يرتكز على الإيمان، ويتغذّى من المحبّة، ويسمح لنا بأن نستمرّ في الحياة (را. مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العاديّ لسنة 2025).
4. الرّجاء عبورٌ مِنَ العبوديّة والحزن إلى الحرّيّة والفرح
زمن الصّوم هو الوقت المقبول للإصغاء إلى كلمة الله كي تنقّي قلوبنا وترشدنا وتقدّسنا، إنّه مسيرة روحيّة ترافقنا فيها النّعمة الإلهيّة وتقوّينا، مسيرة الحنين إلى الملكوت الأبديّ، حيث الحرّيّة الحقيقيّة والسّعادة الدّائمة. إنّه الزّمن المقبول للتّوبة، أيّ العودة الصّادقة إلى حضن أبينا السّماويّ وتجديدنا الرّوحيّ المستدام، من خلال السّير مع يسوع في متاهات صحرائنا، لنعيش معه فرح الفصح (العبور) وغلبة القيامة الممجَّدة.
يروي سفر الخروج كيف أنَّ الله لم ينسَ شعبه، بل سارَ معه وقاده من خلال موسى من برّيّة العبوديّة إلى أرض الحرّيّة، زارعًا فيه محبّة الله ومحبّة الإخوة. إلّا أنّ هذا الخروج كان طويلًا وشاقًّا، دام أربعين سنةً، شابَها الكثير من التّحسُّر على الحياة في أرض العبوديّة، والعودة إلى الوراء. لكن إزاء كلّ ذاك الضّعف، بقي الله أمينًا لعهده، فأخرج الشّعب الّذي وضع رجاءه به، وأوصله إلى أرض الميعاد. من هنا، أصبح الصّوم المسيحيّ علامةً روحيّةً على الخروج من العبوديّة إلى الحرّيّة، من عبوديّة الخطيئة إلى حرّيّة أبناء وبنات الله، عبر اللّقاء بالرّبّ يسوع القائم من بين الأموات. إنّها دون شكّ لَمسيرة تعتريها أتعاب وتجارب وسقطات تتبعها المعاناة، ولكنّها مسيرة ينفحها الرّجاء بالرّبّ يسوع الّذي يريد لنا، نحن تلاميذه، الفرح لا الحزن، والحياة لا الموت. وقد نهج لنا بذاته درب الحياة هذه، والحياة بملئها، إذ تخلّى عن مجده و"وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصّليب" (في2).
في الصّوم تغلب الرّوح ضعفَ الجسد، إذ تحثّنا أن نتحرّر من ربقة العالم وهمومه، كي نعود فنتأمّل مليًّا وجه المسيح المصلوب طوعًا بدافع محبّته للبشر. لذا نحتاج في هذا الزّمن إلى التّخلّي والتّحرُّر من النّزعة الاستهلاكيّة والأنانيّة والتّذمّر، ومن القلب المنغلق على الله والذّات والآخر، لاسيّما الأكثر حاجة. ولنتذكّر ما كتبه يوحنّا في رسالته أنّنا لا نستطيع الادّعاء بمحبّة الله الّذي لا نراه إن كنّا لا نمارس محبّة القريب الّذي نراه! (را. 1يو4: 20-21).
"ليكن زمن الصّوم، لكلّ مؤمن بالرّبّ يسوع، خبرةً متجدِّدةً لمحبَّة الله الّتي أعطانا إيّاها بالمسيح، محبَّة نوصلها بدورنا للقريب، وللمتألّمين والمحتاجين. هكذا فقط نستطيع أن نشارك بالملء في فرح القيامة" (من رسالة قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر لزمن الصّوم 2007). يدعونا يسوع إلى التّحرّر من أنانيّتنا الّتي تخدعنا بمختلف التّبريرات، وإلى التّجرُّد الّذي يقودنا للاتّحاد به، هو الطّافح حبًّا بنا على خشبة الصّليب، فتعمر حياتنا بالإيمان وتفيض بالرّجاء وتتألّق بالمحبّة. منه نستمدّ النّعمة والقوّة كي نتابع مسيرة صومنا، مهما ازدادت ظلمات الحياة، وننطلق متهلّلين بنور القيامة، لأنّ جوهر الصّوم هو التّجدُّد باّلروح من العُلى، من "محبّة الله الّتي انسكبت فينا بالرّوح القدس المُعطَى لنا" (رو5: 5).
5. الصّوم مسيرة مكلَّلة بالغَلَبة الإلهيّة
ليس الصّوم مجرّد ممارسة تَقَوِيّة لفريضة، بل هو مسيرة روحيّة ملؤها الرّجاء بالانفتاح على تدبير الخلاص الّذي تمّمه الرّبّ يسوع. رجاء يتطلّب منّا أن نشارك مخلّصنا في الشّهادة لمحبّته المُبرِّرة أينما دعانا، فنواجه تحدّيات العالم وإغراءاته، ونتغلّب بنعمته على تجارب الحياة. وكم هو جميلٌ أن يتلازم الصّوم مع الصّلاة الحارّة والمُلِحَّة، لأنّ الصّلاة هي الجناح الثّاني للصّوم، وفيها نكلّم الله أبانا، ونرفقها بتوبة صادقة مقرونة بمصالحتنا البنويّة معه، وبالسّعي الجادّ لبناء علاقات المحبّة مع القريب دون شروط. وفي الصّوم، نتغذّى بكلام الرّبّ في الكتاب المقدّس بنوع خاصّ: "كلمتكَ مصباحٌ لخُطايَ ونورٌ لسبيلي" (مز119: 105). فكلمة الله ترشدنا في درب صومنا، وتعزّينا في ضعفنا، وتذكّرنا بأنّ رجاءنا ثابت في الرّبّ وليس في طعام العالم، إذ أنّ الصّوم الحقيقيّ يهدف إلى الأكل من "الطّعام الحقيقيّ" أيّ العمل بمشيئة الآب (را. يو4: 34). ويكتمل هذا الغذاء بالتّقرّب المتواتر من سرّ الإفخارستيا، لتناوُل جسد الرّبّ ودمه الأقدسَيْن، وهكذا نحيا الأمانة لمواعيد معموديّتنا.
الصّائم لا يعيش الصّوم كحزن أو حرمان، بل كمسيرة نحو الفرح، لأنّه يثق أنّ الله، الّذي هو "ستره وترسه" (را. مز119: 114)، يقوده إلى مجدٍ أعظم: "الّذين يزرعون بالدّموع يحصدون بالابتهاج" (مز126: 5). الصّوم هو مدرسة نتعلّم فيها كيفيّة الثّقة بحكمة الله، متيقّنين أنَّ الحياة مع الله تتطلَّب الصّبر، وأنَّ الأمور العظيمة لا تأتي فورًا، بل تستوجب انتظارًا مليئًا بالإيمان. وحين نصوم، ندخل في اختبار روحيّ يجعلنا نضع ثقتنا بالكامل في الله، حتّى عندما يهدّد الشّرّ عالمنا وتكتنفه الظّلمات.
فَلْنَسِرْ زمنَ الصوّم هذا بفرح غامر وبرجاء وطيد، مقتدين بأمّنا مريم العذراء، والدة الله، الّتي سلّمت حياتها بين يدَي ابنها الوحيد، ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، رغم ظلمة الآلام والموت، مؤمنةً برجاء وثقة بانتصاره الأكيد.
6. خاتمة:
في هذا الزّمن المقدّس، نصلّي ضارعين إلى الرّبّ كي يؤهّلنا أن نسير معه مسيرة إيمان نختبر فيها أمانته ومحبّته الفائقة، مستجيبين لدعوته لنا، بكامل الحرّيّة البنويّة. وهكذا نتحرّر من كلّ ما يبعدنا عنه، ونتنقّى، فنتجدّد ونصل بيقين الرّجاء إلى الفصح والقيامة. ومع مار أفرام السّريانيّ، ملفان الكنيسة الجامعة، نرفع صلاتنا: «ܗܰܒ ܠܰܢ ܛܳܒܳܐ ܕܰܟܝܽܘܬ ܠܶܒܳܐ ܒܨܰܘܡܳܐ ܢܰܩܕܳܐ܆ ܥܰܡ ܚܽܘܫܳܒ̈ܶܐ ܫܦܰܝ̈ܳܐ ܕܠܶܒܳܐ܆ ܕܰܒܗܽܘܢ ܐܰܟܚܰܕ ܢܰܦܫܳܐ ܘܦܰܓܪܳܐ܆ ܒܪܶܗܛܳܐ ܫܰܠܡܳܐ܆ ܢܰܘܕܽܘܢ ܠܳܟ ܡܳܪܝ ܥܰܠ ܡܰܘܗܰܒܬܳܟ»، وترجمته: "أيّها الصّالح امنحنا طهارة القلب بصوم نقي، مصحوبًا بأفكار قلوبنا الصّافية، كي يشكرك النّفس والجسد كلاهما، يا ربّ، بكمال المسيرة، على موهبتك".
ختامًا، نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وتوبتكم وصدقتكم، ويؤهّلنا جميعًا لنحتفل بفرح بعيد قيامته المجيدة من بين الأموات. ونمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الرّوحيّون الأعزّاء، بركتنا الرّسوليّة عربون محبّتنا الأبويّة. ولتشملكم جميعًا بركة الثّالوث الأقدس: الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد. والنّعمة معكم."