يوحنا العاشر: الأزمة البيئية انتروبولوجية وروحية في الأساس
وأضاف: "قرأت من المزمور 103، الذي تبدأ به خدمة صلاة الغروب في كنيستنا. بالحقيقة، أشعر وكأن النبي داود كتب هذا المزمور وهو واقف على قمة جبل الأرز وأمامه وادي قنوبين، وادي القداسة.
ما لا شك فيه أن لبنان "قطعة سما عالأرض". فهو يتميز بمناخه المعتدل، وبحره، وأنهره، وجباله، وغاباته. إلا أنه يوما بعد يوم، تكبر التحديات للحفاظ على بيئته، وبيئة كثير من بلدان الشرق الأوسط. تعديات بيئية كبيرة جعلت بلادنا الخضراء على شفير التصحر. لقد وصلنا الى حد يهدد الطعام الذي نتناوله، والماء الذي نشربه، والهواء الذي نستنشقه. فهواؤنا مسموم، وماؤنا مسموم، وطعامنا مسموم، ونفاياتنا تتكدس جبالا.
هذا على صعيد بلادنا، أما في العالم، فالاحتباس الحراري يغير المناخ ويذيب الجليد القطبي، مهددا بارتفاع مستوى البحار وغرق الجزر والمناطق الساحلية، وانقراض ملايين من الفصائل النباتية والحيوانية".
وتابع: "فكيف ترى الكنيسة أسباب الأزمة البيئية؟ وكيف يمكن أن نساهم في الحد من هذه الأزمة؟
أولا: ترى الكنيسة أن الخليقة هي ملك الله. الإنسان ساكن في بيت يملكه الله، وليس ملكا شخصيا للانسان. لذا يقول المزمور: "للرب الأرض بكمالها، المسكونة وكل الساكنين فيها" (مزمور 23، 1). نذكر هذه الآية في نهاية خدمة الدفن: لنتذكر أن الله الضابط الكل هو الحياة، وكل شيء بيده. وهكذا، فغنى الأرض الطبيعي ليس ملكية خاصة بالإنسان، ولكنه ملك للخالق.
يبدو أن الإنسان اليوم قد فقد الوعي بأن الحياة هي هبة من الله، حتى أنه نسي معنى الحياة الأساسي، جاعلا من وجوده مركزا للحياة، ومكتفيا بذاته. لذلك، لا يرى الإنسان اليوم أن بيئته تخصه، بل يراها بابا للمتاجرة، والمنفعة الشخصية، والتسهيلات. إن الروح النفعية المنتشرة والاستهلاك المبالغ به يعزى إلى هذا العالم المتغرب عن ذاته وعن الخليقة وعن الله.
ثانيا: بما أن الله خلق السماوات والأرض والانسان، تنظر الكنيسة الى خليقة الله كوحدة موحدة، وحدة عضوية، تجمع البشر والحيوانات والنباتات (تك 2: 19-20). فلما أخطأ الإنسان، تخلخلت علاقته لا مع الله وحده، ولكن أيضا مع ذاته، ومع أخيه الإنسان ومحيطه الخارجي، ومع النبات والحيوان والطبيعة والبيئة بشكل عام. فانبتت الطبيعة للانسان "شوكا وحسكا" (تك 3: 18) وقتل قايين أخاه هابيل حسدا (تك 4).
من هنا، ترى الكنيسة الأمور من خلال وحدة الانسان مع الخليقة، فأي تعد على الطبيعة هو اعتداء لا على البيئة والبشر وحدهما، بل هو أولا اعتداء على سيد الخليقة، أي خطيئة تجاه الله أيضا.
ثالثا: لقد اعطى الله الانسان المخلوق على صورته "كرامة ملوكية" وسلطانا في تدبير الخليقة، وحفظ العناصر الطبيعية الغنية كالهواء والشمس والماء، والأرض، والبحر (القديس يوحنا الذهبي الفم)، بتغذيتها، وتنميتها والحفاظ على رونقها. أي أن الانسان "مؤتمن من الله" على تنمية الأرض وفلاحتها: إنها مسؤولية أمام الله يحاسب عليها (القديس غريغوريوس النيصصي). إلا أن الإنسان استغل دوره كراع للخليقة، وعمل بروح نفعية، فعاتبه الرب بلسان حزقيال النبي: "وأنتم يا غنمي... أهو صغير عندكم أن ترعوا المرعى الجيد وبقية مراعيكم تدوسونها بأرجلكم، وأن تشربوا من المياه العميقة والبقية تكدرونها بأقدامكم؟".
واردف: "كيف يمكن أن نساهم في الحد من الأزمة البيئية التي نعيشها؟
أولا: الانسان هو كاهن الكون. وكما أعطاه الله العالم، هو بدوره يقدم هذا العالم إلى الله بشكر إذ يقول: "التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء". فمن خلالنا، نحن البشر، وبحريتنا، نقدم الخليقة إلى الخالق.
إن مقاربة الكنيسة للعالم المخلوق هي مقاربة أسرارية. لا ننظر فقط بتقدير نحو الطبيعة ومكوناتها، بل ندمج عناصر طبيعية في عبادتنا الليتورجية، كالزيت، والقمح، والماء. لذا تشجع الكنيسة أبناءها على استخدام للمصادر الطبيعية على نحو يتكافأ مع الموارد الطبيعية، وبتعاط اقتصادي، وبيولوجي، وتكنولوجي، يحترم خليقة الله. لهذا فالكنيسة تشدد على حماية خليقة الله من خلال تفعيل مسؤولية الإنسان ككاهن شكري.
ثانيا: إن الأزمة البيئية هي انتروبولوجية وروحية في الأساس، لأنها صنع الانسان وعقليته الاستغلالية والنفعية. من هنا، فإن الحل يبدأ من قلب الإنسان. لا الأخلاقيات أو القوانين أو العلوم تحل أزمة البيئة. المطلوب هو فكر جديد، ونظرة جديدة تجسد حياة "الخليقة الجديدة" (غلا 6، 15) التي دعانا الرب يسوع المسيح أن نعيشها، وتعلمها الكنيسة من خلال احترام العالم المادي والصوم والصلاة.
يقول القديس مكسيموس المعترف بأن الانسان يستطيع أن يعمل من الأرض جنة، فقط إذا كان هو نفسه يحمل الجنة بداخله".
وختم يوحنا العاشر كلمته: "يا أحبة، أدعوكم لنعمل معا في هذا الشرق المعذب، من أجل احترام خليقة الله، وأولها الإنسان، وهبة الحياة. أدعو معكم إلى التوبة، الى تغيير الذهنية، كوسيلة وحيدة لتجديد الإنسان، واستبدال السلوك الأناني والطمع في استخدام الثروات بسلوك يتوافق والتدبير الإلهي، رافعين الصلاة معا الى الله الخالق ومتضرعين: "يا من أبدع كل شيء حسنا من العدم، أنقذ خليقتك التي فسدت، وامنح الإنسان الذي جبلته بيديك دموع توبة لتروي الأرض القاحلة. لأنك وعدت بأرض وسماء جديدتين وبخيرات أبدية للذين يحبونك".