الفاتيكان
26 آذار 2021, 14:50

واعظ الكرسيّ الرّسوليّ: يسوع النّاصريّ ليس مجرّد شخصيّة بل هو شخص حيّ

تيلي لوميار/ نورسات
ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم تأمّله الرّابع لزمن الصّوم، في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان، تحت عنوان "يسوع النّاصريّ هو شخص"، قال فيه بحسب "فاتيكان نيوز":

"يروي كتاب أعمال الرّسل الحدث التّالي. عند وصول الملك أغريبا إلى قيصريّة، قدّم له الحاكم فستوس قضيّة بولس المحتجز لديه في انتظار المحاكمة. ويلخّص القضيّة للملك بهذه الكلمات: "لَمَّا قابَلَه مُتَّهِموه، لم يَذكُروا له أَيَّ تُهمَةٍ مِنَ التُّهَمِ الخَبيثَةِ الَّتي كُنتُ أَتَوهَّمُها، وإِنَّما كانَ بَينَهم وبَينَه مُجادَلاتٌ في أُمورٍ تَرجعُ إِلى دِيانَتِهم وإِلى امرِئٍ اسمُه يسوع قد ماتَ، وبولُسُ يَزعُمُ أَنَّه حَيّ". في هذا التّفصيل، الّذي يبدو أنّه ثانويّ، يتمّ تلخيص تاريخ العشرين قرنًا الّتي تلت تلك اللّحظة. لا يزال كلّ شيء يدور حول "يسوع" الّذي يعتبره العالم ميتًا فيما تعلن الكنيسة أنّه حيّ. هذا ما نقترح تعميقه في هذا التّأمل الأخير، أيّ أنّ يسوع النّاصريّ حيّ! إنّه ليست ذكرى الماضي. إنّه ليس مجرّد شخصيّة، بل هو شخص.

في إعادة تفكيرنا في العقيدة، وصلنا إلى العقدة الّتي توحّد الطّرفين. يسوع "الإنسان الحقيقيذ" ويسوع "الإله الحقيقيّ"؛ وبعد تأمين محتواها الأنطولوجيّ والموضوعيّ، هنا أيضًا، من أجل تنشيط العقيدة، يجب علينا الآن أن نُبرز بُعدها الذّاتيّ والوجوديّ. قال القدّيس غريغوريوس الكبير إنّ الكتاب المقدّس "ينمو مع من يقرؤه". علينا أن نقول الشّيء نفسه عن العقيدة. إنّها "بنية مفتوحة": تنمو وتغتني بقدر ما تجد الكنيسة نفسها، بإرشاد من الرّوح القدس، تواجه مشاكل وثقافات جديدة. هذا ما قاله القدّيس إيريناوس أيضًا ببصيرة فريدة نحو نهاية القرن الثّاني. وكتب القدّيس أنّ الحقيقة الّتي تمّ الكشف عنها هي "كشَرَابٍ مُسكِر ثمين وُضِع في إناء ثمين. ومن خلال عمل الرّوح القدس، تتجدّد هذه الحقيقة دائمًا وتجدّد الوعاء الّذي يحتويها أيضًا". إنّه السّرّ العظيم والبسيط الّذي يفسّر الشّباب الدّائم للتّقليد، وبالتّالي، للعقائد الّتي هي أسمى تعبير عنه. كذلك عقيدة الشّخص الواحد للمسيح هي أيضًا "بنية مفتوحة"، أيّ قادرة على التّحدّث إلينا اليوم، والاستجابة لاحتياجات الإيمان الجديدة، والّتي تختلف عن احتياجات القرن الخامس. وبالتّالي فالأهمّ اليوم، حول عقيدة المسيح كـ"شخص"، هو ليس صفة بقدر ما هو "شخص". وهذا يعني أن نكتشف ونعلن أنّ يسوع المسيح ليس فكرة أو معضلة تاريخيّة أو حتّى مجرّد شخصيّة، بل هو شخص وشخص حيّ!

ننطلق من صفحة العهد الجديد الّتي تتحدّث إلينا عن أشهر "لقاء شخصيّ" حدث على وجه الأرض مع القائم من بين الأموات وهو لقاء الرّسول بولس. "شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟"، " مَن أَنتَ يا ربّ؟"، "أَنا يسوعُ النّاصريّ!". يا لها من صدمة! وبعد عشرين قرنًا، لا يزال هذا النّور ينير الكنيسة والعالم. لكن لنسمع كيف يصف بولس نفسه هذا اللّقاء: "إِلّا أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبحٍ لي عددتُه خُسرانًا مِن أَجلِ المسيح، بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسرانًا مِن أَجل المعرفة السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفاية لأَربَحَ المسيحَ وأَكونَ فيه، ولا يَكونَ بِرِّي ذلك الَّذي يأتي من الشَّريعة، بل البِرُّ الَّذي يُنالُ بالإيمان بالمسيح، أيّ البِرُّ الَّذي يأتي من الله ويَعتَمِدُ على الإيمان، فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشاركة في آلامه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه" (فيليبّي 3، 7- 10).

بالتّأمّل حول مفهوم الشّخص في سياق الثّالوث، توصّل القدّيس أوغسطينوس وبعده القدّيس توما الأكوينيّ إلى استنتاج مفاده أنّ "الشّخص" في الله يعني العلاقة. فالآب هو أب من خلال علاقته بالابن: وكيانه كلّه يقوم على هذه العلاقة، وكذلك الإبن هو إبن من خلال علاقته بالآب. لأنَّ الشّخص يكون شخصًا بالفعل الّذي يفتح فيه على "آخر" وفي هذه المواجهة يكتسب وعيًا لذاته، وبالتّالي فأن تكون شخصًا يعني "أن تكون في علاقة". وهذا الأمر ينطبق بشكل بارز على أقانيم الثّالوث الأقدس، الّذين هم "علاقات صرفة"، أو كما يقول اللّاهوت "علاقات مستمرّة"؛ ولكنّه ينطبق أيضًا على كلّ شخص في البيئة المخلوقة. لهذا السّبب لا يمكننا أن نعرف يسوع كشخص، إلّا من خلال الدّخول في علاقة شخصيّة معه. وبالتّالي علينا أن نسأل أنفسنا بجدّيّة سؤالاً: هل يسوع هو شخص بالنّسبة لي، أم أنّه مجرّد شخصيّة؟ هناك فرق كبير بين الإثنين. لأنَّ الشّخصيّة هي شخص يمكنك التّحدّث عنه والكتابة عنه بقدر ما تريد، ولكن من المستحيل التّحدّث معه. ولسوء الحظّ، بالنّسبة للغالبيّة العظمى من المسيحيّين، يسوع هو شخصيّة وليس شخصًا. إنّه موضوع مجموعة من العقائد أو البدع؛ شخص نحتفل بذكراه في اللّيتورجيا ونعتقد أنّه حاضر فعلاً في الإفخارستيّا. ولكن إذا بقينا على مستوى الإيمان الموضوعيّ، دون تطوير علاقة وجوديّة معه، فسيبقى خارجًا عنّا، يلمس أذهاننا، لكنّه لا يحرّك قلوبنا؛ ويبقى، على الرّغم من كلّ شيء، في الماضي؛ يفصل بيننا وبينه عشرون قرنًا. على خلفيّة هذا كلّه، نفهم معنى وأهمّيّة تلك الدّعوة الّتي وجّهها البابا فرنسيس في بداية إرشاده الرّسوليّ "فرح الإنجيل": "أدعو كلّ مسيحيّ، في أيّ مكان أو موقف قد يجد نفسه فيه، لكي يجدّد اليوم لقاءه الشّخصيّ مع يسوع المسيح أو، على الأقلّ، أن يأخذ القرار بأن يسمح له بلقائه، ويبحث عنه كلّ يوم دون توقّف. ولا يوجد أيّ سبب يجعل أيّ شخص يعتقد أنّ هذه الدّعوة ليست موجّهة له أيضًا". يمكننا أن نرى هذا اللّقاء، ونسمع عنه، ونرغب فيه، ولكن هناك طريقة واحدة فقط لكي نختبره. إنّه ليس شيئًا يمكننا الحصول عليه من خلال قراءة الكتب أو الاستماع إلى عظة، وإنّما فقط بعمل الرّوح القدس! لذلك نحن نعرف من يجب أن نطلبه ونعلم أنّه لا ينتظر منّا إلّا أن نطلبه... "إجعلنا أيّها الرّوح القدس نعرف الآب من خلالك وأن نعرف الابن أيضًا. إجعلنا نعرفه تلك المعرفة الشّخصيّة الحميمة الّتي تغيّر الحياة".

إنّ الإسهام الأخصب للقدّيس أوغسطينوس في اللّاهوت هو أنّه أسّس عقيدة الثّالوث على تأكيد الإنجيليّ يوحنّا "الله محبّة". كلّ حبّ يتطلّب حبيب ومحبوب وحبٌّ يوحِّدهما، وبهذه الطّريقة يعرّف الأقانيم الثّلاثة: الآب هو من يحبّ، والابن هو الحبيب، والرّوح القدس، هو الحبّ الّذي يوحّدهما. وبالتّالي فإنّ اللّغز الأعظم والأكثر صعوبة بالنّسبة للعقل البشريّ، في رأيي، ليس أنّ الله هو واحد وثالوث، وإنّما أنّ الله محبّة. "من الضّروريّ- كتب دو لوباك- أن يعرف العالم أنَّ إعلان الله كحبّ يقلب رأسًا على عقب كلّ شيء كان قد تصوّره سابقًا عن الألوهيّة". وهذا الأمر صحيح، ولكن للأسف ما زلنا بعيدين عن استخلاص كلّ نتائج هذه الثّورة. ويتّضح ذلك من خلال حقيقة أنّ صورة الله السّائدة في اللّاوعي البشريّ هي صورة الكائن المطلق، وليس صورة الحبّ المطلق. إله كلّيّ المعرفة، وكلّيّ القدرة وعادل.

إنّ المسيح، لكونه شخصًا إلهيًّا ثالوثيًّا، لديه علاقة حبّ معنا والّتي هي أساس حرّيّتنا. "لقد أحبّني وبذل ذاته لأجلي": يمكن للمرء أن يقضي ساعات في ترديد هذه الكلمات في داخله، دون أن يتوقّف عن الاندهاش. هو الله قد أحبّني، أنا الخليقة النّاكر للجميل! لقد بذل نفسه- حياته ودمه- من أجلي. من أجلي أنا شخصيًّا! وبالتّالي فإنّ "علاقتنا الشّخصيّة" مع المسيح هي في الأساس علاقة حبّ، فهي تقوم على أنّ كون المرء محبوبًا من قبل المسيح وأن يحبّ المسيح. وهذا الأمر يصلح للجميع، لكنّه يكتسب أهمّيّة خاصّة بالنّسبة لرعاة الكنيسة. غالبًا ما نُكرّر (بدءًا من القدّيس أوغسطينوس نفسه) أنّ الصّخرة الّتي وعد يسوع أن يؤسّس كنيسته عليها هي إيمان بطرس، بعد أن أعلنه "المسيح وابن الله الحيّ". ويبدو لي أنّنا نتجاهل ما قاله يسوع في لحظة منح الأولويّة لبطرس: "يا سمعان، بن يونا، أتحبّني؟ ... إرعَ خرافي!". تستمدّ خدمة الرّاعي قوّتها السّرّيّة من محبّة المسيح. والمحبّة، الّتي لا تقلّ قيمة عن الإيمان، تجعله واحدًا مع الصّخرة الّتي هي المسيح.

أختم بتسليط الضّوء على عواقب كلّ هذا على حياتنا، في زمن محنة عظيمة للبشريّة جمعاء كما هو الحال في الحاضر. ويشرح لنا ذلك هذه المرّة أيضًا القدّيس بولس الرّسول الّذي يكتب في رسالته إلى أهل روما: "مَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟". لا يتعلّق الأمر بمجرّد تعديد للأخطار والمحن الّتي عاشها في حياته. بعبارة أخرى، يراجع الرّسول جميع التّجارب الّتي مرّ بها في ذهنه، مشيرًا إلى أنّ أيًّا منها لم يكن قويًّا لدرجة تجعله يصمد أمام فكرة محبّة المسيح، وبالتّالي يختتم قائلاً: "ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيّنًا، بِالَّذي أَحَبَّنا". يدعو الرّسول ضمنيًّا كلّ واحد منّا لكي يفعل الشّيء نفسه. يقترح طريقة للشّفاء الدّاخليّ على أساس الحبّ. إنّه يدعونا لكي نُظهر القلق الكامن في قلوبنا، الحزن، والمخاوف، والتّعقيدات، ذلك العيب الجسديّ أو المعنويّ الّذي لا يجعلنا نقبل أنفسنا بسلام، أو تلك الذّكرى المؤلمة والمهينة... يدعونا لكي نضع جميع هذه الأمور في ضوء فكرة أنّ الله يحبّني، ولكي نقطع أيّ أفكار سلبيّة، قائلين لأنفسنا على مثال بولس الرّسول: "إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟". ومن حياته الشّخصيّة، يرفع الرّسول على الفور نظره إلى العالم من حوله والوجود البشريّ بشكل عامّ: "إِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا ملائِكَةٌ ولا أَصحابُ رئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قوَّاتٌ، ولا عُلوٌّ ولا عُمق، ولا خليقةٌ أُخرى، بِوُسعها أَن تفصلنا عن محبَّة اللهِ الَّتي في المسيح يسوع رَبِّنا".

بعد أسبوع سيكون يوم الجمعة العظيمة وبعده أحد القيامة. بقيامته، لم يعد يسوع إلى حياته السّابقة مثل لعازر، بل إلى حياة أفضل، خالية من جميع الهموم. نرجو أن يكون الأمر كذلك أيضًا بالنّسبة لنا، أيّ أن يخرج العالم - كما يكرّر لنا الأب الأقدس باستمرار- بشكل أفضل من القبر الّذي حبسنا فيه الوباء لمدّة سنة، وليس كما كان من قبل."